“المارونية السياسية” على مثال غيرها من المذهبيات السياسية اللبنانية ولادةً ونهايةً. لكن سيرتها الذاتية مفتوحة على تنويعات عديدة. كذلك الأمر بالنسبة إلى تاريخها وما طبعت به لبنان، الدولة الهشة والوطن المتعثر.
تراوحت التنويعات بين رغبات قادتها بالإستئثار بالحكم، وبين أحلام أجيالها الصاعدة. هذا ما حصل مع بشير الجميل. وبعده بعقود أربعة مع جبران باسيل، على اختلاف الفروقات بين الرجلين. الأول، كان حلماً. الثاني، صار عبئاً. بشير الجميل حاول أن يحفظ مُلكاً صنعه الآباء والأجداد. الثاني، حاول بعث الحلم، لكن فاته تغيُر المعادلات ومعاندة الوقائع. بين هذا وذاك، يقف سمير جعجع حائراً. يريد أن يتفوق على بشير وباسيل. على فؤاد شهاب وكميل شمعون، لكنه ما فاته من وقائع داخلية قاهرة، يجعله أسير أوهام خارج كفيل بتغيير المعادلة الداخلية.
التأصيل السياسي لمصطلح “المارونية السياسية” نحته المُفكر “العروبي” اللبناني الراحل منح الصلح. لم يقصد به الإفتئات على “إيمان” أو ديانة بذاتها. كان يُعاين سياسياً ما تصدت له “الحركة الوطنية” ذات الهوى اليساري المُنكه بعروبةٍ تعكس خليطاً من ناصرية وبعثية، وحتى ملكية وأميرية من طبيعة الأنظمة التي ما زالت تحكم في الخليج. أراد منح الصلح تعريف النظام السياسي الذي يتدبر وطناً إنفجر بفعل تناقضاته السياسية والثقافية والإجتماعية والطبقية. هذا التعريف السياسي وُزع في كتيب مع صحيفة “السفير” في منتصف سبعينيات القرن الماضي. لاحقاً، سيصبح وحدة قياس ومَعيناً لولادة المذهبيات اللبنانية الأخرى: السُنية؛ الشيعية، والدرزية، أو على الأقل وحدة قياس تُنسب إليها مبررات ظهور هذه المذهبيات السياسية. ظهور سيكلّف البلد أثماناً باهظة في العيش والاقتصاد والإجتماع. لكن من عاديات اللبنانيين أنهم لا يتعلمون من الماضي. هم مفطورون على البكاء دماً بدل الدموع. لا لشيء إلا لكونهم لا يعرفون تعيين خسائرهم وتحديدها إلا متأخرين، ثم لات ساعة مندم.
في كُتيبه عن “المارونية السياسية”، حدّد الصلح ما يرومه من تعيين إصطلاحه السياسي. فرّق بمبضعه الجارح بين “المارونية السياسية” والموارنة. فـ”المارونية السياسية” هي تعاطي بعض الموارنة للسياسة من منطلق طائفي. دعّم هذا التوجه عبر سيرتهم التاريخية ومن خلال بعض المنظرين. وقد كرّسوا دورهم السياسي في العديد من مفاصل الدولة، خصوصاً رئاسة الجمهورية. أما الموارنة ـ وبحسب الصلح أيضاً ـ فهم مواطنون أبرار شأنهم شأن غيرهم من المواطنين من الطوائف كلها.
في السابق، احتكرت “المارونية السياسية” السلطة وتناست الآخرين وحقوقهم. هذه عادة لبنانية. من طبيعة النظام الطائفي أنه كلما تسلمت واحدة من الطوائف السلطة، وذاقت حلاوتها، رغبت في التفرد بالحكم، وهذا الأمر انطبق على الموارنة في المرحلة السابقة، ويمكن أن ينطبق على غيرهم في هذه الأيام.
المارونية السياسية ليست وساماً يُعتد به، ولا تهمةً تستدعي استنفاراً أهلياً. ما مضى إلى التاريخ لا يمكنه العودة. أما نبش ماضي “المارونية السياسية”، فمرده استحضار موارنة سياسيون لها. حيناً بدعوى الخوف من حدة الارتطام السني ـ الشيعي، وهو مبرر. حيناً ثانياً بذريعة القلق من غياب الرؤية، وهذا أيضاً له ما يفسره. حيناً ثالثاً، يريد بعضهم للبنانيين أن يترحموا على “مارونية سياسية” مضت لأن “المارونية السياسية” الجديدة الآتية إليهم لن تكون عابرة
بالمعنى السياسي الذي اشتقه منح الصلح، فان “المارونية السياسية” تستدعي نقاشاً حول مضمونها. حول ما أفضى إليه هذا المضمون على “الجمهورية الأولى” التي صارت فردوساً مفقوداً يندبه المسيحيون صبحاً ومساءً. نُواحهم الحالي على الماضي يعكس فشلاً عن معرفة ما يريدونه راهناً أو ما يرومونه مستقبلاً. أي مستقبل عند الطوائف هو غيره عند الأمم. عند الطوائف، يبقى المستقبل رهن العصب الأهلي. أما عند الأمم، فالمستقبل هو الترقي الجمعي وليس ذاك المقصور على جماعةِ طائفية بعينها.
النقاش في “المارونية السياسية” يتماهى مع السجال مع غيرها من سرديات المذهبيات السياسية اللبنانية، إذ لا يقع في موقع الإدانة أو الإشادة للظاهرة بذاتها. بالمقابل، هي ليست وساماً يُعتد به، ولا تهمةً تستدعي استنفاراً أهلياً. ما مضى إلى التاريخ لا يمكنه العودة. أما نبش ماضي “المارونية السياسية”، فمرده استحضار موارنة سياسيون لها. حيناً بدعوى الخوف من حدة الارتطام السني ـ الشيعي، وهو مبرر. حيناً ثانياً بذريعة القلق من غياب الرؤية، وهذا أيضاً له ما يفسره. حيناً ثالثاً، يريد بعضهم للبنانيين أن يترحموا على “مارونية سياسية” مضت لأن “المارونية السياسية” الجديدة الآتية إليهم لن تكون عابرة. هذا النبش كله هو استدعاء لسؤال عن مستقبل مجهول معطوفاً على ماضٍ معلوم وفيه مآسٍ كثيرة تفوق ما حفل به من “انجازات” مُدعاة.
على امتداد تاريخ “المارونية السياسية” ـ قبل تعيينها سياسياً وبعده ـ كان لا بد من إنزياحات. بعضها إرتبط بهواجس الديموغرافيا وبعضها الآخر بالقلق من التاريخ. تحت هذا التأثير، حَكَمت وتَحَكّمَت. بدّلت تموضعها، فراحت تنتقل شرقاً وغرباً. قايضت محاور وإنحازت إلى أخرى. استرجاع “الزمن السياسي” للمارونية يرمي إلى معاينة صعودها وهبوطها على حد سواء. أو على وجه أدق: تعيين صلتها التأسيسية للكيان وصولاً إلى سقوطها مروراً بما اعتبرته هي “الزمن الذهبي”، ورآه الخصوم زمن الحرمان أو القهر أو اللامساواة.
في مطلع القرن التاسع عشر، رأى المنظر والمؤرخ الفرنسي ألكسيس دو توكفيل أن التجربة الاميركية تتميز عن مثيلاتها الأوروبية في أن الأميركيين ولدوا متساوين، فيما إضطر الأوروبيون أن يناضلوا لبلوغ المساواة. وعلى معنى الإستعارة في المقاربة مع قيام لبنان الصغير الذي صار كبيراً، فإن الجماعات الأهلية اللبنانية لم تعرف بعد معنى التساوي. فقد كان هناك ممن يصنفون درجة أولى وهم عموم المسيحيين وخصوصاً الموارنة منهم. هؤلاء إعتبروا الدولة ـ الكيان إنجازهم، وعلى الآخرين إحترام أصول الإنتماء أو الإنتساب إليها ـ إليهم. كان الدروز هم الأقرب إليهم بصفتهم أيضاً طائفة مؤسسة، وهذا الأمر ما زال حاضراً في وجدانهم إلى يومنا هذا. بكل الأحوال، كان هناك من حلّ ثانياً وثالثاً ورابعاً، فكان ما كان من حروب متقطعة إستظلت إما بعناوين السنوات التي اندلعت فيها (حرب 58 وحرب 75) أو بالأمكنة التي إشتعلت أرضها (حرب الجبل، حرب زحلة، حرب الأشرفية إلخ..).
لم يحدث في لبنان أن إنوجدت “بوتقة وطنية جامعة”، ولا حتى “وطنية واحدة”. فما كان وطنياً للبعض، كان خيانة عند البعض الآخر. ولم يحدث أن كان للبنان واللبنانيين تاريخهم الواحد. تاريخ لبنان هو مجموع تواريخ الطوائف وطموحاتها. الجغرافيا اللبنانية بدت على الدوام أشبه بمعازل أهلية أكثر منها جغرافيا سياسية موحدة. هكذا كان الأمر في الجمهورية الأولى. وهكذا يستمر في ظلال الجمهورية الثانية. لا بل على العكس، فقد تحولت الطوائف إلى قبائل تحوز بقواها العسكرية وبقوة الأمر الواقع جغرافيا ما وتمنع على غيرها أن تسترخي فيها أو أن تشعر أنها في صلبها. هذا حصل في زمن الحرب الأهلية وبين من يُفترض أنهم حلفاء. حصل أيضاً في زمن السلم بعد إقرار الاصلاحات الدستورية في وثيقة الوفاق الوطني (الطائف). الأفدح أن مثل هذا يحدث اليوم في المدن والمناطق التي يُفترض أنها حيزٌ للصهر لا للفرز والتنميط والتمييز. والمثال الذي يعكس تردي معنى الهوية الوطنية كان في بلدية الحدت جارة بيروت وضاحيتها الجنوبية. تلك البلدة المارونية التي منعت شراء واستئجار المنازل على جغرافيتها العقارية. من قبلها، تم استنفار غلبة من المذهبيات السياسية اللبنانية ضد رفيق الحريري في زمن تأسيس مشروع وسط بيروت التجاري. تكرر “الرجم” بذرائع ومسميات مختلفة (نموذج مشروع الدلهمية والدبية في ساحل الشوف). الذريعة آنذاك كانت بزعم وجود برجوازية عقارية شيعية تقودها سياسات أمنية تستملك أمكنة ومناطق بعينها بهدف بناء دويلة متماسكة الأوصال داخل دولة مقطعة الأواصر.
صار الخوف هو القائد الفعلي. قبله بعقد ونيف من الزمن كان الإحباط هو السائس. غداً هو زمن إعادة رسم خرائط النفوذ. إعادة صياغة المنطقة. ماذا سيحمل هذا الغد؟
الحلقة الثانية؛ “المارونية السياسية”: أسطورة التأسيس وفرادة لبنان