حذرونا ونحن صغار، يعني ونحن نمر في سنوات المراهقة، من التعامل مع شخص لا يحب إلا نفسه. ذكرني بهذا التحذير صديق ينوي مقاطعة السياسة لفترة لم يحددها. قال إنه لم يهتم كثيراً بنصائح الأطباء وعلماء النفس الأمريكيين الذين تنبأوا مبكراً جداً بشر عظيم سوف يهبط على الأمريكيين من وراء هذا الرئيس الجديد المدعو دونالد ترامب. قال، “لم أهتم كثيراً لسببين أولهما، ما أعرفه عن أنه في عالم السياسة الكل يبالغ في نقل الحقيقة ويبالغ في ابتكار أساليب الاقناع، وبالتالي قد لا يكون الرئيس الجديد شريراً أو طيباً بالدرجة التي يزعمون. أما السبب الثاني، فهو عن واقع أنني لا أمت إلى الشخص المدعو دونالد ترامب بصلة مباشرة. أنا مجرد مواطن في دولة أخرى، ولائي الأول يذهب للوطن الذي انتمي إليه واهتمامي الأول يتركز على مصالح هذا الوطن ومصالح عائلتي ومصالحي الشخصية. الواقع الجغرافي يؤكد أن مسافة هائلة وهويات متباينة تفصل بيننا، بيني وبين السيد دونالد نرامب وما يمثله. لا وطن يجمعنا ولا وظيفة أتنافس معه عليها في الحال أو في المستقبل، ولا أمل عندي أو رغبة في أن أحظى يوما بعضوية نادٍ من نواديه الراقية أو انتقي حكماً دائماً في منظومة حكام يشكّلها ويرأسها السيد ترامب مهمتها اختيار المرأة الأكمل قواماً وجمالاً وإثارة تمهيداً لاشتراكها في مسابقاته السنوية لملكات الجمال. مرت سنوات أربع ودونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة. سنوات لا أظن أن يوماً من أيامها مر دون أن نكتشف في الرجل درجة أعلى من الشرور، ونتذكر حكمة لأحد المؤرخين حذر فيها من الاطمئنان إلى مدير في العمل أو رئيس دولة أو قائد فريق لا يحب إلا نفسه، فإنه لن يفعل شيئاً من أجل الآخرين.
***
كنا بعيدين عن الرئيس ترامب. كنا هنا في الشرق الأوسط، نعيش على ضفاف النيل أو في عمق الصحراء أو على شواطئ المتوسط وكان في واشنطن، ومع ذلك لم نفلت من شر أو آخر من شروره العديدة. فقدنا الكثير والغالي من بين ما فقدنا بسبب أفعاله وانفجاراته وتخبطاته ونزواته وتعبده لنفسه. فقدنا الاستقرار، استقرار النفس واستقرار الإقليم. خرجنا من بلاده نحمل على ظهورنا كرهاً عظيماً في قلوب الأمريكيين منذ شن حملة الكراهية ضد الإسلام والمسلمين. كثيرون في الشرق الأوسط وجدوا أنفسهم وقد عادوا رعايا تحميهم حكومة الدولة الأعظم في واشنطن أو تردعهم وتعاقبهم وتفرض عليهم عقوبات وهي لم تحقق معهم أو تفسر على الأقل المنطق وراء هذه التصرفات. على ضوء هذا الواقع المفروض علينا اشتركنا افتراضياً في انتخابات الرئاسة الأمريكية كرعايا لأمريكا منزوعة حقوقهم أو مسلوبة.
***
حتى لحظة كتابة هذه السطور ما يزال دونالد ترامب يعاند. يرفض الاعتراف بفوز جو بايدين بمنصب الرئاسة. أثناء الحملة الانتخابية تنبأوا بأن ترامب سوف يقدح قريحة الشر وفي الغالب يدعو جماهيره لشن حملة عنف في الشوارع. كنت واحداً بين ملايين توقعوا أن يقدم ترامب على “إسقاط” واشنطن إذا تجاسرت فأسقطته فى الانتخابات. قال إنه شخص لا يخسر صفقة أو قضية أو معركة، ثم راح يشحن جماعات مؤيديه ليجهزوا أنفسهم لساعة حسم، وبالفعل اختار لهم ساحات المعارك المحتملة مثل ولايتي ميتشيجان وأوريجون. اقتربت ساعات الحسم.
***
الدولة الأمريكية باتت مهددة بالانهيار لو نفذ دونالد ترامب وعيده وأشعل حريقاً هائلاً. كان الخطر قبل الانتخابات ماثلاً ولكن ليس إلى الحد الجاثم حالياً. كان كابوساً ولكننا حتى ونحن غارقون في هوس الكوابيس لم نتخيل أن حوالي خمسة وسبعين مليون مواطن أمريكي سوف يصوتون في صالح ترامب. للرجل شعبية لا جدال فيها. فجأة رأينا أمام أعيننا كيف يتوحد الزعيم مع بعض الشعب فما بالنا وقد توحد مع نصف الشعب. هذا النصف بتصويته لترامب أعلن أنه لا يتمسك بالديموقراطية أو على الأقل لا يهتم بوجودها من عدمه. هذا النصف وربما أكثر يجاهر بأنه لا يعترض على قوانين تخرق وثروات وطنية تبدد. لا يضيره أو يقلقه أن رئيسه وهو من أغنى أغنياء العالم متهرب من تسديد ضرائب بل وممعن في التهرب. لا يلاحظون أن هناك تضارباً بين ما يلقنه المواطن لأبنائه من قيم وأخلاق ورئيس لا يتوقف عن الكذب. يكذب على شعبه وعلى غيره من الشعوب. انكشف أمام أقرانه من حكام العالم، الخصوم والحلفاء على حد سواء، حتى توقفت أو كادت تتوقف الآلة الضخمة المكلفة بصنع السياسة الخارجية وإدارتها. وفي غمرة الحملة الانتخابية، تمادى فأعلن أنه لن يدافع عن مؤسسات الدولة إذا تعرضت للتخريب وسوف ينزل إلى الشارع وفي حماية الميلشيات اليمينية المسلحة ليعلن إسقاط نتيجة الانتخابات وربما منظومتها أيضا.
هل يوجد في أمريكا من يحاول على الأقل إعادة الصواب إلى حوالي سبعين مليون مواطن أمريكي صوتوا لرجل لم يحترم دستور البلاد ومؤسساتها وقوانينها؟ هل يوجد في أمريكا من يصحح الخلل الذي أصاب منظومة القيم والقواعد التي اجتمع على صياغتها قبل قرون نفر من الوطنيين الحكماء؟
أيام وليال، ساعة بعد ساعة قضيناها نحن الضيوف غير المعنيين مباشرة بحال دولة عظمى تواصل انحدارها عاجزين عن مد اليد إليها في محنتها. قضينا الوقت الثقيل نشاهد تداعيات عملية انتخابية لعلها الأغرب والأبعد عن المألوف في الدولة القائد لمعسكر الغرب الديموقراطي. بعضنا تقمص روح الرئيس بوتين. تخيلناه في غرفته المغلقة عليه يتابع الانتخابات التي ينكر بإصرار أنه يتدخل فيها لصالح الرئيس ترامب أو إنه يساهم بالمال والتكنولوجيا في تخريبها ومعها التجربة الليبرالية بأسرها.
***
سألنا وكررنا السؤال، كيف يمكن أن يتنكر شعب للقيم التي نشأ عليها. تذكرنا ما كان يقال لنا عن الشعب الإسرائيلي المحب للسلام، كان يقال لنا مصافحة واحدة تكسبون يا عرب حب هذا الشعب الذي عانى الظلم والإبادة وعرف معنى الظلم. امتدت أياد كثيرة تصافح وتحيي وما زال الشعب الإسرائيلي يعيد انتخاب الرجل الذي لم يتوقف لحظة عن تعميق الكره للعرب في نفوس الإسرائيليين، أم أن الكره قائم أصلاً. هناك شعوب تكره وشعوب تتمنى الشر لغيرها بل وشعوب تخون نفسها.
رحت وأصدقاء على امتداد ساعات نقلب الأمر على بعض وجوهه ونسأل، ألا يوجد في هذه الدولة الأعظم جهاز أو مؤسسة أو كيان أو مجموعة أفراد تخرج الآن وعلى الفور لإنقاذ الولايات المتحدة وإجبار الرئيس المنهزم ليعلن على جماهيره اعترافه بفوز خصمه ونيته الانسحاب. هل يوجد في أمريكا من يحاول على الأقل إعادة الصواب إلى حوالي سبعين مليون مواطن أمريكي صوتوا لرجل لم يحترم دستور البلاد ومؤسساتها وقوانينها. هل يوجد في أمريكا من يصحح الخلل الذي أصاب منظومة القيم والقواعد التي اجتمع على صياغتها قبل قرون نفر من الوطنيين الحكماء. هل يوجد من يحمي نصف الشعب المبتهج بفوز جو بايدين وزميلته ويحمى حكومتهما خلال السنوات الأربع القادمة من غضب وانتقام دونالد ترامب ومن كره وأعمال شغب النصف الآخر من الشعب؟
(*) بالتزامن مع “الشروق”