الفيروسات مرافقة لكلّ الكائنات الحيّة ولا تبقى على الشكل الأول الذي تظهر عليه، وإلّا لكانت انتهت واندثرت تحت وطأة منظومات المناعة لمختلف الكائنات، ولكنها مخادعة وتمتلك ميّزات تسمح لها بالتسلل حينًا والاختباء أحيانًا ثمّ الضرب بشدّة، وكلّ ما سبق يحدث بسبب الطفرات الجينية، أي الأخطاء في النسخ التي تحدث.
لا هدف للفيروسات سوى التكاثر عبر طريقة واحدة وهي الدخول إلى خلية حيّة واستعمال آليات هذه الخلية لنسخ الفيروس، ولكن خلال هذه العملية تحدث طفرات جينية على نسخ الفيروس، فالعملية ليست كاملة ولا تنتج نسخًا مطابقةً بنسبة 100%. قد نستطيع تسمية هذه الطفرات بالأخطاء المطبعية التي تؤدي لظهور كلمات جديدة (نسخ جديدة من الفيروس)، وهذه الكلمات أو النسخ الجديدة من الفيروس هي مربط البحث.
نعم الفيروس يتغيّر ويتحوّر وإلّا لما حدثت القفزة من الحيوان إلى الإنسان، ولكن دون أن يغيّر من سلالته، فالكورونا يبقى كورونا مع بعض التغيير في البروتينات الموجودة على الكبسولة الخارجية، فلو افترضنا أنّ فيروسًا حدثت له هذه الطفرات وأنتج نسختين “أ” و”ب”، النسخة “أ” شديدة القتل والنسخة “ب” قليلة القتل، فإن هاتين النسختين ستنتشران في بادئ الأمر ولكن النسخة “أ” ستختفي بسرعة لأنّ حاملها لا يستطيع نقل العدوى بسرعة، فعوارضه الشديدة تلزمه المشفى أو المنزل قبل الوفاة السريعة، وهذا ما حدث تمامًا مع سلف فيروس كورونا المستجد، السارس (نسبة القتل كانت 30%)، أما النسخة “ب”، فستنتشر بشكل أكبر بكثير، لأن حامليها تصيبهم عوارض خفيفة (وربما لا تصيبهم)، فينقلون العدوى دون التسبب بالقتل وهذا ما يجري الآن تمامًا مع فيروس كورونا المستجد وهذا ما يسبب الجائحة، أي الانتقال السّريع دون عوارض شديدة.
كما أنّ هذا ما يحدث تمامًا مع فيروس الانفلوانزا كلّ عام، حيث نصاب بالمرض كلّ مرّة من دون التمكّن من تحصيل المناعة الكاملة التي تمنع الإصابة نهائيًا للسبب عينه المذكور آنفًا، فالانفلونزا يتحوّر ويتغيّر بشكل دائم ما يؤدّي لتكرار الإصابة، بالتالي كلّ عام تتمّ مراجعة وتحديث اللقاحات لفيروس الانفلونزا بإصدار يحتوي على النسخة الجديدة منه، وهو لقاح غير إلزامي فالإصابة هي لقاح تمنع إعادة الإصابة مرّة ثانية بنفس النسخة، ولكن متى اختلفت سنصاب بالفيروس.
في حال حصول عدوى فيروسية مزدوجة (كورونا وانفلونزا) يجتمع في الجسم الواحد فيروسان، فيضطر الجهاز المناعي أن يقاتل على جبهتين ما يخفف من فعاليته ولا يضعفه، ولكن يتعاظم الخطر على الأشخاص الأقل صحة أو مناعة
وبناءً على ما سبق نحن أمام فيروس مقيم. الكورونا سيبقى موجوداً مع البشرية ولن يندثر، بل ثمة تقديرات علمية تقول بأنّه سيتحوّل مع الوقت إلى مرض موسمي إن لم يصبح كذلك الآن بسبب قدرته العالية على التحوّر والتغيّر، وعليه علينا التعلّم كيفية التعايش معه في المرحلة المقبلة، مع إقتراب موعد وصول اللقاح (وربما اللقاحات) الذي لن يمنع الإصابات بشكل نهائي، بل سيخفف منها كثيراً.
هل يجب استعمال لقاح الانفلونزا؟
تتشابه عوارض الإصابة بفيروس كورونا المستجد مع الانفلونزا الموسمية بشكل كبير لناحية السعال، ضيق التنفس، الصداع، الألم في الجسم وهذا ما سيحصل للكثيرين منّا خلال فصل البرد، ففيه تجتمع الناس في غرف مغلقة فتنتقل العدوى بشكل أسرع من الفصل الحار حيث التهوئة أكثر فعالية، وعليه أوصت معظم الجهات المعنيّة بالصحة العامة في العالم بالحصول على لقاح الانفلونزا هذا العام، للأسباب التالية:
- حصر العوارض إن حصلت على أنّها إصابة بفيروس كورونا لا الانفلونزا، وبالتالي يقوم المصاب بحجر نفسه مباشرة.
- الاحتمال الأبعد، في حال حصول عدوى فيروسية مزدوجة (كورونا وانفلونزا) يجتمع في الجسم الواحد فيروسان، فيضطر الجهاز المناعي أن يقاتل على جبهتين ما يخفف من فعاليته ولا يضعفه، ولكن يتعاظم الخطر على الأشخاص الأقل صحة أو مناعة.
- التخفيف من الضغط على المستشفيات، فبعض المصابين بالانفلونزا يعانون من عوارض خطيرة تصل إلى حد طلبهم للاستشفاء، ولكن مع اللقاح، إن حصلت الإصابة ستكون أخف بكثير.
ما سبق، وضع ضغطًا عاليًا على إنتاج لقاح الانفلونزا للعام 2020، ما دفع بوزارات الصحة في دول العالم لتحديد أولويات، فالأولى هم العاملون في القطاع الصحي كونهم الأكثر عرضة، ومن بعدهم يأتي أصحاب الأمراض المزمنة والمستعصية، وهذا ما جرى فعليًا في لبنان، فالكمية المستوردة قليلة مقارنة بالطلب فوزعت بالتقنين على الصيدليات لإفادة المحتاجين إليها، وتُرك أمر تحديد الأولوية للصيدلي!
وبالتالي لقاح الانفلونزا أساسي هذا العام، لمن استطاع إليه سبيلًا في لبنان.
الثورة الجديدة في اللقاحات
مادة الـ RNA هي ترجمة أولى للمادة الوراثية الأساسية أي الحمض النووي الريبي المنقوص DNA، تخرج RNA من نواة الخلية إلى داخل جسم الخلية حيث تقوم آلياتها بترجمة المعلومات الموجودة عليها إلى بروتينات (على اختلاف أنواعها) لخدمة الجسم أو الخلية.
أي تفعيل زائد عن حدّه لجهاز المناعة بأغذية أو أدوية من هنا وهناك تؤخذ وفقًا لروايات شعبية لا دراسات علمية لن يرتدّ إيجاباً على أجسامنا، بل على العكس سنكون أمام عاصفة مناعية تسمى بالعاصفة الفيروسية
والفيروسات التي تحمل الحمض النووي الريبوزي RNA، تعرف باسم الـ retro virus يصعب كثيرًا التعامل معها وإيجاد اللقاحات الملائمة لها، فهي كثيرة التغيّر بسب عدم استقرار المادة الوراثية الموجودة فيها كيميائيًا، وهي عرضة للكثير من التغييرات ما يؤدي بالتالي إلى عدم نجاعة اللقاح من عام لعام، وهذا ما نحن أمامه ففيروسات كورونا والانفلونزا تنتمي لهذه الفئة.
وعليه عكف العلماء على دراسة هذه المتغيّرات الكثيرة لإيجاد بعض الثوابت فيها للبناء عليها في رسم خارطة طريق اللقاح، فالجيل الأول من اللقاحات لا ينفع نهائيًا مع هذه الفيروسات فهي لا تبقى على نفس الشكل كما أسلفنا سابقًا ولا الجيل الثاني كذلك، فالتعديلات الجينية قد تطال البروتينات الموجودة على الكبسولة ما يعطل قدرة الأجسام المضادة الموجودة في الجسم، وعليه كان القرار بالتوجه نحو لب القضية، أي نحو المادة الوراثية التي ترسم شكل الفيروس فنقوم بتصنيعها في المختبرات ونحقنها في الجسم، فتقوم بدورها ضمن آلية محدّدة بالدخول إلى خلايا الجسم وتنتج داخلها بروتينات فيروسية دون إنتاج الفيروس بشكل كامل، فيتعرف الجسم على البروتين الفيروسي ويقوم بإنتاج أجسام مضادة له استعدادًا منه للقاء العدو الحقيقي.
هذه التقنية الثورية قامت على أكتاف اكتشافات علمية سابقة حمت البشرية وحسّنت من نوعية حياتها بدأها الكيميائي الفرنسي لويس باستور مع أول لقاح وانتهت بتقنية كريسبرCRISPR لقص الجزيئات وتعديل الجينات التي نالت جائزة نوبل للكيمياء عام 2018، وهذه التقنية نفسها تعدنا اليوم بالعمل على إيجاد لقاحات لأصعب الفيروسات وأشدها فتكًا، كما أنّ تطوير هكذا لقاح لا يحتاج لوقت طويل، ففي حال حصول طفرات جينية جديدة على الفيروس يمكن ببساطة شديدة تعديل الجزيء المكوّن للقاح واستعماله من جديد من دون الحاجة إلى الدخول في المسارات والدراسات المعقدة والطويلة، وهنا يكمن الاكتشاف الكبير، أي أن تصنع البشرية لقاحًا لكلّ النسخ من فيروس الانفلونزا السابقة والحالية والآتية، وأي فيروس آخر.
الأبحاث ما زالت في بداياتها، ولا يمكننا الجزم أبدًا بأنّ الأمور مشرقة وإيجابية أو سلبية بشكل تام، فالدراسات تحتاج إلى وقت طويل، ولكن علينا الانتباه دائمًا وأبدًا للإضاءات الإعلامية غير الموضوعية، فالكل يغني هنا على ليلاه.
جهاز مناعتنا الجميل
أخيرًا، ستبقى النصيحة دائمًا وأبدًا بترك أجهزة المناعة لدينا تعمل وفقًا لأجندتها، فأي تفعيل زائد عن حدّه لجهاز المناعة بأغذية أو أدوية من هنا وهناك تؤخذ وفقًا لروايات شعبية لا دراسات علمية لن يرتدّ إيجاباً على أجسامنا، بل على العكس سنكون أمام عاصفة مناعية تسمى بالعاصفة الفيروسية أو Cytokine storm وهي المسبب الأول لموت مرضى الكورونا اليوم، حيث يقوم الجهاز المناعي بردة فعل مبالغ بها تسبب تدمير خلايا الرئتين السّليمة ما يؤدي لنتائج سلبية لا يمكن تفاديها بسهولة.