

تلك هي الحقيقة العارية التي تتكشف يوماً بعد يوم في غزة، حيث تتحوّل المساعدات من بارقة أمل إلى طقوس رمزية لموت مؤكد، وحيث تُدار الإبادة وفق منطق متسلسل، محسوب المراحل والخطى، وسط دهاء سياسي عالمي وارباك شعبي أممي. انظروا إلى عاصمة النمسا نموذجاً عن هذا الحال.
دعت منظمة العفو الدولية والحزب الشيوعي النمساوي ومنظمة “ستاندنج توجيذر” إلى تظاهرة (الخامس من الشهر الجاري) أمام البرلمان في فيينا، احتجاجًا على الإبادة الجماعية المتواصلة في غزة. وبرغم غياب مطالب سياسية محددة في الدعوة، أكد المنظمون ضرورة أن تتبنى النمسا موقفًا ينسجم مع مسؤولياتها الدولية في مجال حقوق الإنسان.
تعالوا أحدثكم عمّا جرى خلف ستار ما سُمِّي زورًا بـ”مظاهرة التضامن مع غزة”؛ فإن للظاهر زينةً تخفي في طيّها قبائح، وإنّ وراء الكلمات الباهتة مساعٍ تنظيمية يُراد لها أن تُطمس باسم “الإنسانية”.
في قاعة مغلقة، بعيدة عن ضجيج الشارع ونبض المقهورين، انعقد اجتماع التنظيم لتلك المظاهرة التي حملت عنوانًا عريضًا فيه من العطف ما يُخفي حقيقة العلاقات المؤسساتية التي تشكل ما سنسميه بعقيدة المجتمع المدني الأوروبية . كان الحضور، يتقدّمهم من أطلقوا على أنفسهم “ستاندينغ توجذر” – تلك التي تروّج للتعايش الفلسطيني-الإسرائيلي – ومعهم الحزب الشيوعي النمساوي ومنظمة العفو الدولية. هناك، لا في الشارع، تم تحديد ما يجوز وما لا يجوز، لا بما يمليه الواقع، بل بما يرضي أصحاب السلطة ورواتب موظفي هذه المنظمات التي يقبضونها من بلدية فيينا وحزبها المنادي بالصهيونية.
أُقرّ المنظمون أولاً أن تُجَرّد المظاهرة من رموز فلسطين.
نعم، طُلب بصريح العبارة أن تُمنع الأعلام الفلسطينية، فهي – على حد تعبيرهم – “رموز قومية” لا تليق بمقام “الحقوقية المحايدة”. تراجع المنظمون عن قرارهم بعد انتقادات واسعة لكن يبقى الواقع أن منطق الاحتجاج الانسانوي هذا يقترن دومًا بالحاح على نزع الانسان الفلسطيني ومصابِه الجلل عن ارادته السياسية. ثم جاء التحذير الثاني: لا شعار يُمجّد أي شكل من أشكال المقاومة، ولا خطاب يتهجم على الدولة الإسرائيلية، وإياكم أن ترفعوا صوتًا يُدين الاستعمار صراحة؛ فإن هذا يُعدّ “خطاب كراهية” بنظرهم، ولو جاء من لاجئ فلسطيني!
ثم بلغ الترويض مبلغًا أن أُنذر التنظيم الطلابي – وهم خليط من طلاب أوروبيين وعرب – بأنّهم غير مرحّب بهم، لا بخطابهم، ولا بحضورهم.
قيل لهم: “لن نتحمّل مسؤوليتكم إن خرجتم، فأنتم تثيرون الفتنة (بالاشارة إلى إدانة الطلاب للكيان الصهيوني)، وتنفخون في نارٍ نريد لها أن تبرد”. فالكتلة الطلابية تُجاهر بما يخشونه: بأنّ الجوهرٍ الاستيطانيّ لا خلاص منه إلا بالمقاومة وأن سكوتكم عن الابادة إلى أن بلغ سيل الجوع الزبى ليس الا تواطؤاً واضحاً مع ديمومة هذه المذبحة. ماذا يعني أن تنتظر إلى أن يفقد 80 بالمئة من الغزيين قوتهم البدنية، لتعلن وقوفك الأخلاقي معهم – أنت، صاحب الموظفين المأجورين والأموال والنفوذ والشرعية الدولية وصلاحية الحشد والتحرّك!
ثم صدر البيان المشترك المشؤوم، الذي اجتمع عليه ثلاثيّ “الضمير الغربي”: منظمة العفو، الحزب الشيوعي النمساوي، و”ستاندينغ توجذر”. صدر بعبارة خيانة موشّاة بالأدب: أدان هجوم المقاومة في السابع من أكتوبر أولًا في الديباجة، ثم مرّ بخفّة على ما سمّاه “العنف المتبادل”، ليصل أخيرًا إلى غزة، لا بوصفها ضحية استعمار، بل كمأساة إنسانية يتسبب فيها فرد من أفراد اليمين المتطرف دون أن تسميه حتى، بل دون أن تسمي إسرائيل بتاتا! بيانٌ أراد أن يُدين المأساة دون أن يُدين الجلاد، وأن يتضامن مع القتيل دون أن يُفصح عن اسم القاتل! بيان دون مطلب فعلي واحد أو تطلع عملي حول سؤال ما العمل؟
لكن الكتلة الطلابية رفضت، فتمرّدت.
أعلنت عن نفسها تحت اسم “بلوك” أو “كتلة الانتفاضة”. اتهمت بجرأة منظمات “المجتمع المدني” الغربية بأنها جزء من البنية التي تُدجّن الشعوب باسم الحقوق، وتُعيد تأهيل المستعمِر تحت عباءة القانون.
كان المشهد واضحاً اذن. وقفةٌ كانت تهدف الى غسل أيدي الثلاثي المدني المرح، وتبرئة خطابهم، ليمهّدوا لأنفسهم دورًا في مشاريع ما بعد المجاعة ضمن هذه النقطة الزمنية التي سنسميها بالانتقالية التمرحليّة. لا نظرية مؤامرة هنا، بل علم اجتماع سياسي واضح: المجتمع المدني الأوروبي، بصيغته النيوليبرالية، قد صُنع ليكون شرطيًّا بلباسٍ ناعم، يمارس القمع باسم العدالة، والإقصاء باسم التعدد ويتدخل عند المنحنيات الزمنية الحاسمة كلحظة تجويع شعب. فالتجويع أداة ارهاب بيولوجية مبتغاها تحويل الكتلة البشرية المحاصرة من شعب إلى “ديموغرافيا منكوبة”.
تظنونني أبالغ في التشبيه الشُرَطي؟ تعالوا أعيدكم الى المشهد الذي لن تنقله لكم كبريات الشاشات الاعلامية:
لم تتدخل الشرطة في هذه المظاهرة. لا عساكر ولا دوريات. فقط صف شرطة يحمي أبواب برلمان ذي رونق روماني فسيح. كانت الشرطة تعلم بأن أذرعها هنا بين الحشود: موظفو العفو، أعضاء الحزب الشيوعي، منظّرو التعايش، هم من يتولّون مهمّة “الضبط”. عندما صعد طلاب “كتلة الانتفاضة” بأعلامهم الفلسطينية لإلقاء كلمتهم، لفضح لاعبي الإبادة، والدفاع عن حق الشعوب في المقاومة وتقرير المصير ومنع المنظمات المطبّعة مع اسرائيل من الـ”سطو” على مسيرة التنظيم السياسي ضدّ الصهيونية – هُوجموا، نُزع الميكروفون من أيديهم وكُسِّر؛ ضُربوا، وحوصروا على أدراج البرلمان على أيدي المنظمين – دون رفّة جفنٍ من ذوي البزة العسكرية ودون أن ترفع قبعات شارات النسر النمساوي الذي يحمل المطرقة بمخلب والمنجل بعيدًا في المخلب الآخر.
في ذروة المهزلة، اعتلى المنصة موظفٌ في منظمة العفو الدولية ليقول: “نعتذر عن تأخرنا في التضامن مع غزة”. وباشر بتشويه أبيات محمود درويش في اقتباس مضلل صفيق يُصوّر شاعر الثورة على أنه عرف القضية الفلسطينية بأنها سؤال حبّ وهدنة رغمًا عن المأساة!
صرخ الطلاب في خطاب ارتجلوه: “كأن أمر قتل جمع من البشر مسألة مواعيد! كأن دماءنا وصرخاتنا التي تصدح منذ أوائل المستعمرين مسألة استفاقة أوروبية بطيئة من غيبوبة وحشيتٍها الأزلية، أي عبث هذا؟ أيّ فجور في المواربة؟ أن تعتذر عن بطء الفعل، وأنت مَن صفّق للمحرقة حين بدأت!”
لكن الكتلة لم تُقصَ، بل أصبحت صوتًا وسط الركام.
احتلّت فضاءً سمعيًّا في الميدان، بهتاف يشبه في تقنية اسماعه أسلوب “الفهود السود” في أمريكا. وقف المتكلمون ووراءهم رفاقهم يُردّدون الخطاب كأنهم كتيبة منظّمة. وبرغم التطويق، تجمّع من حولهم جمهورٌ جديد، انجذب للوضوح، لا للميوعة. صارت المظاهرة مظاهرتين: واحدة تُشبه حفلاً لطلب المغفرة، وأخرى تُشبه تجمّعًا جماهيريًّا يُنشد رؤى لفهم مدننا الأوروبية وجذور الصهيونية فيها.
وهتف “بلوك الانتفاضة”:
“الحزب الشيوعي النمساوي خائن طبقي، وخائن أممي”.
وقالوا بملء الصوت:
“هذه الإبادة بدأت بمحاولة تحرير أسرى فلسطينيين من سجون الاحتلال، وإننا من هذه العواصم – حيث يُصنع القرار وتُروّج الأكاذيب – سنُواصل النضال، لفرض تحرير الأسرى، ولفضح القاتل، ولجعل مقاومة فلسطين فعلًا عالميًا لا شعارًا عاطفيًا”.
كأنهم يقولون: يا أبناء المقاومة سامحونا، لكننا نحاول أن نعد العدة لنستكمل ما بدأتموه لكن بحر النفاق غائر، والأعداء كثر وتتكاثر في أشكال مخاتلتها تريد أن تنقض على ما تبقى من أجسادنا ها هناك في الضفة وغزة – تريد أن تطمس قدرتنا على النهوض من السلوان المشاعري إلى الفعل التنظيمي الحاسم.
لكن فلتشهد فيينا، ولنشهد نحن أبناء لغتنا، أن في هذا المنعطف ضمن تمرحلية الابادة التي ستستمر… صدّح جمعٌ منظمٌ ضدّ سياسات مكافحة التمرد قبل بدئها، وباسم صرخة المقاومة الأولى: تحرير أسرى شعبنا الفلسطيني.
هذا المستوى الفكري والنقدي الذي يطرحه “التيار الطلابي” في فيينا يبدو لافتاً للانتباه. فهو يقدم مقاربة دقيقة ومتماسكة لمناهضة الصهيونية، تتجاوز الخطابات الأخلاقية السطحية. نعم، البنية الطلابية في فيينا تتمسك بتحليل البنى الاستعمارية والاستراتيجية الدولية المتواطئة مع الاحتلال. ومع ذلك، يظل هذا “التيار” مُفتقراً إلى البنية التنظيمية الرصينة والحاضنة الشعبية التي تُمكّنه من توسيع تأثيره.
في هذا السياق، تتزايد وضوحاً الحدود الفاصلة بين مناهضة الصهيونية المبدئية، وبين أشكال “التضامن مع فلسطين” الانتهازية التي تكتفي بالشعارات العقيمة لا بل الممهدة للاستحواذ على حق الفلسطيني المجوع والصامد في تقرير مصيره. لقد بات من الجلي أن العالم، بمؤسساته وحكوماته، قد اختار ألا يوقف الإبادة، بل ذهب أبعد من ذلك: إلى توظيفها والتربّح من مآلاتها. والتحدي القائم اليوم هو في رسم ملامح هذه الإبادة قيد التشكل، وتفكيك البنية الدولية التي تغذّيها، بينما يتقن الصامدون فن البقاء، دون وهم النجاة.
نكتب بأسف شديد، لكن هذه الابادة بدأت لتستمرّ وما لنا إلا أن نستلّ أدوات تحليلنا وتمرّدنا بالفعل المنظم على الأرض لكي لا يفرض علينا القادم من مراحل الإبادة كما فرضت علينا البداية دون خطة متكاملة لمجابهتها… وفي هذا السياق نقول فليسقط الاعتراف بدولة فلسطينية – فتلك ستكون بداية انتصار المذبحة السياسي وفي هذا الموضوع تفصيل لاحق.