في الواقع، نحن نعرف وكما شرحنا في مقالات سابقة، أن هذه الأجسام المُضادة لها دور كبير في الحماية وفي عمليات دفاع الجسم عند التعرّض للإلتهابات بأيّة جراثيم خارجية كالفيروسات والبكتيريا. وبحسب خبراء علم المناعة تلعب هذه الأجسام دوراً في كبح الفيروس ومنع إلتصاقه بخلايا الجسم، وبالتالي منع تكاثره وغزوه لخلايا الجسم، أي أن هذه الأجسام المُضادة لها دور كبير في القضاء الكامل على الجسم الغريب الذي يغزو أجسامنا. ومن هنا أهمية دراسة هذه التفاعلات بشكلٍ تفصيلي عند تطوير العلاجات او اللقاحات الفعّالة لأن متابعة هذه الأجسام في الجسم تعطي فكرة قوية لمتابعة تطوّر حالة المرض سلباً او للشفاء والإنتهاء التدريجي او الكامل من اعراضه. وكما ذكرنا فإن هذه “الأجسام المُضادة الكابحة” هي مُوجّهة ضد البروتينات الموجودة في الغلاف الخارجي الذي يُغطّي فيروس كورونا والتي تُعرف بالبروتين (S) نسبة إلى (Spike) لأن هذه البروتينات موجودة هنا بشكل “نتوءات” او “تاج” على سطح الفيروس. وهذا البروتين الذي يُدعى بالبروتين (S) يتجمّع بشكل “تريمير”، أي بشكل هندسي مُكوّن من ثلاثة بروتينات (كل ثلاثة بروتينات (S) تُشكّل وحدة هندسية تظهر بشكل النتوءات التي ذكرناها)، وهي التي أعطت لهذا الفيروس إسمه المتعارف عليه، اي “الفيروس التاجي” نسبةً لهذه النتوءات التي نراها بشكل واضح في المجهر الإلكتروني.
هناك في الواقع عدّة طُرق يتفاعل من خلالها الجسم مع الأجسام الغريبة التي تغزوه، ومنها الطُرق التي تمر عبر “إفرازات الأجسام المضادة” والتي تُسمّى بـ”الوسائل الخلطية”، وهي تقوم على دور قسم من الكريات البيضاء البائية التي تسمّى (B-Lymphocytes) ومُشتقّاتها. هناك طريقة أخرى لا تقل أهمية عن الأولى في عمليات دفاع الجسم وهي تمرّ عبر “أساليب خليوية” وعبر قسم من الكريات البيضاء التائية التي تسمّى الـ(T-Lymphocytes). هذه العمليات الخليوية مُعقّدة جداً ولا يملك العلماء حتى اليوم معلومات كثيرة حول دورها في حصول عملية المناعة المكتسبة ضد فيروس كورونا. لكن بعض المُعطيات تُظهر أن هذه الشلالات من ردّات الفعل الخليوية التي تلعب فيها دور كبير شريحتان من هذه الخلايا هما (Lymphocytes T CD4؛ CD8) تسعى إلى حفظ “الذاكرة المناعية” عند التعرّض لأي جسم غريب، بحيث أن الجسم يقوم بسرعة بردّات فعل يفرز من خلالها مواداً تهدف إلى تقويض فعالية الفيروس وكبحه وقتله.ثالثاً، لماذا التركيز على أهمية دراسة توقيت حصول ردّات الفعل المناعية وتطوّرها مع مرور الوقت؟
إن دراسة ظهور “الأجسام المضادة” في الجسم أدّت إلى تطوير “عمليات تشخيص الإلتهابات” بفيروس كورونا عبر طُرق غير مُباشرة من خلال دراسات سعى من خلالها الخبراء لكشف كمّيات “الأجسام المناعية” (Immunoglobulins) الموجودة داخل الدم لمعرفة عدد الأشخاص الذين تعرّضوا للفيروس والذين قد تكون ظهرت عندهم أعراض متنوّعة للمرض، أو الذين لم تظهر عندهم أية أعراض مرضية مُهمة.
لذلك فإن دراسة هذه الأجسام المضادة لها أهمية كبيرة في عملية تطوير اللقاحات المضادة لفيروس كورونا، بحيث أن الخبراء في مراكز الأبحاث يلجأون إلى دراسة كمية هذه الأجسام المناعية في الجسم وتطوّر إفرازاتها مع الوقت بعد حقن اللقاح، لكي يحددوا في أية مرحلة يُصبح اللقاح فعّالاً لمنع حصول الإلتهابات. ولذلك تأخذ دراسة هذه الأجسام المُضادة أهمية كبيرة في تطوير العلاجات للحالات الخطيرة والحرجة جداً لإلتهابات كورونا، بحيث أن اختفاء هذه الأجسام المضادة بشكلٍ تدريجي سوف يُعطي مؤشرات عن الشفاء. ومن المعروف ايضاً أن العمليات الخلطية تمر عبر إفرازات المضادات المناعية الـ(Immunoglobulins) من نوع A وM وG.
وفي الحالة الخاصة لفيروس كورونا، إهتم الأطباء بشكلٍ كبير بفحص إفرازات هذه المواد في الغشاء الذي يغطي المنطقة الداخلية من الأنف والبلعوم والحنجرة لكشف ردّات فعل الخلايا المناعية في هذه المناطق التي تُشكّل خط الدفاع الأول في الحماية من تقدّم الفيروس. ولذلك عكف الأطباء على دراسة تواجد هذه الأجسام في “اللعاب”، في محاولة منهم لكشف الأجسام المضادة في داخله ووجدوا بشكلٍ غير متوقع بالكامل وجود تناسق كبير بين كميات الأجسام المُضادة الموجودة في اللعاب والكميات الموجودة في دم الإنسان (دراسة كندية في جامعة تورنتو أجريت على مدى 16 أسبوعاً).
وفق الدراسة الكندية أعلاه، تمّت دراسة كميات الأجسام المُضادة في الدم عند 439 مريضاً ودراسة الأجسام المُضادة في اللعاب عند 129 مريضاً، وأظهرت النتائج أن الأجسام المناعية من النوع (Immunoglobulins G) المُوجّهة ضد البروتين (S) بشكله الهندسي الذي تكلّمنا عنه سابقاً وتلك المُوجّهة ضد المنطقة التي تدعى (RBD) كانت تبدأ بالظهور بين ١٦ و ٣٠ يوماً بعد بداية ظهور أعراض المرض. واكتشف الأطباء ايضاً أن كمية هذه الأجسام المضادة بدأت بالإنخفاض ما بين اليوم ١٠٥ واليوم ١١٥ من بداية ظهور الأعراض. كذلك تبين أن الأجسام المناعية (Immunoglobulins) من النوعين M و A إختفت بشكلٍ سريع من الدم ومن اللعاب. وقد أشارت الدراسة المذكورة إلى أن الكميات “العالية والكابحة” وصلت إلى ذروتها ما بين اليوم الـ ٣١ واليوم الـ ٤٥ بعد بداية ظهور الأعراض، ومن ثم بدأت بالإنحسار إلى إن وصلت إلى أدنى مستوى لها في اليوم ١٠٥. وأظهرت هذه الدراسة أن الأجسام المُضادة الموجّهة ضد البروتين (S) هو أكثر ثباتاً من الأجسام المُضادة المُوجّهة ضد (RBD).
في المحصّلة، أثبتت هذه الدراسة أن المناعة طويلة الأمد المُتمثّلة بوجود الأجسام المناعية من النوع (Immunoglobulins G) المُضادة لفيروس كورونا تبقى في الدم كما في اللعاب لفترة ٣ أشهر، ومن ثم تبدأ في الإنحسار. ولذلك تعمل الكثير من المستشفيات على قياس كمية هذه المضادات في اللعاب بدل أخذ عينات من الدم، خاصة وان هذه العملية أسهل واسرع وقتاً وأقل ألماً وإزعاجاً.
تجدر الإشارة هنا إلى ان هناك فحوصات سريعة للبحث عن بعض مُكوّنات فيروس كورونا في “اللعاب” وهي وإن كانت اقل فعالية وحساسية في تشخيص الإلتهابات من فحص الـ( PCR) الذي تقوم به معظم المستشفيات والمختبرات الطبية في معظم دول في العالم، إلّا ان فحص اللعاب الذي يؤخذ مباشرة من اللعاب المُجمّع في الفم والبلعوم او القصبة الهوائية عملي وغير مُزعج مثل الفحص الذي يجري عن طريق قحط او حفّ الغشاء الداخلي للأنف بواسطة ريشة صغيرة. وهو لا يُعرّض ايضاً كثيراً الأطقم الطبية لمخاطر إنتقال العدوى مثل الفحص المُعتمد حالياً. ولذلك فإن الفحص عن طريق اللعاب قد يكون ذو فائدة كبيرة عند الأطفال او عند المُتقدّمين في السنّ الذين لا يحتملون الألم والإزعاج. وكذلك عند بعض المرضى الذين يُعانون من بعض المشاكل والأمراض النفسية والعقلية والذين لا يتعاونون كثيراً مع الأطقم الطبية.
خلاصة
يُمكننا القول ان طُرق وأساليب المناعة المُتاحة في جسم الإنسان مُتعددة ومُعقدّة للغاية وانّ جزءاً كبيراً منها معروف بشكلٍ جيد ويمرّ عبر قسم من الكريات البيضاء هي “الخلايا البائية” التي تفرز الأجسام المناعية التي من المُمكن قياس كميّتها وتاريخ بدء إفرازها وإندحارها في الدم او في اللعاب بشكلٍ سريع وفعّال. وقد اكدّت معظم الدراسات العلمية المُتوفرة حتى الآن ان هذه الأجسام المناعية تبقى في الجسم على الأقل لفترة ثلاثة اشهر بعد بدء الأعراض المرضية، علماً أن بعض العلماء لا يستبعدون أن تستمر لفترة اطول من دون ان يعرفوا ما إذا كانت ستبقى مانعة او كابحة لحصول الإلتهابات الفيروسية، ما يعني أن الأمر بحاجة الى الكثير من الوقت ومن الدراسات الدقيقة.
اما كيفية تعاطي هذا الجزء من المناعة مع اللقاحات المُتوقّعة فلا معطيات كثيرة حتى اليوم ونحن بإنتظار نتائج الكثير من الدراسات الجارية والتي كما ذكرنا سابقاً اعطت مؤشّرات اوّلية لنجاح اللقاحات في تحفيز إفرازاها مع التأكيد على ان فترة وجودها في الجسم بعد حقن اللقاح غير معروفة بالكامل حتى اليوم وستختلف حتماً بين لقاح وآخر لأن كل لقاح يتضمن مُكوّنات مختلفة عن الآخر. وبالتالي يجب تحليل ردّات فعل الجسم على كل لقاح ولا يمكن ابداً تعميم نتيجة اية دراسة مع لقاح معيّن على لقاحات اخرى لأن المُكوّنات والجرعات وطريقة العمل مختلفة بين لقاح وآخر.