البعد الفلسفي للقانون.. وأثره على العدالة (6)

تُسلّط هذه الدراسة الضوء على عنوان استقلالية القضاء. في الجزء الأول تم التركيز على عدد من المفاهيم والأبعاد وفي الجزء الثاني تناولنا التحولات التي نشهدها بكل أبعادها وتأثيراتها وفي الجزء الثالث، ثمة عودة إلى الأصول التي بني القضاء على أساسها. في الجزء الرابع نتوقف عند معايير الحوكمة في الأنظمة المعاصرة وأبعادها الفلسفية.

شكّل حكم القانون المفتاح الأساس في تفعيل الحوكمة. وقد أظهرنا سابقاً أثر هذا التحول على طبيعة الحكم وعلاقة السلطات ببعضها ودور القضاء في حفظ التوازن المرجو للاستقرار والاستدامة. وأوضحنا أنه بموجب حكم القانون يفترض أن تتناغم ثقافة المجتمع مع مضمون القواعد القانونية على أسس الأخلاقيات والدوافع الذاتية. وبرز على ضوء هذه التغيرات، إضافة إلى القواعد القانونية التقليدية، التي عرفت بالقواعد الصلبة، قواعد ذات مصادر أخرى عرفت باللينة. تختلف القواعد اللينة بين القواعد ذات الطبيعة العالمية الشاملة وتلك ذات الطبيعة المحلية الاجتماعية، وتتقاطع أحياناً مع القواعد الصلبة وتخرج عنها أحياناً أخرى. فبين الحكمة والأخلاق، والآداب العامة والنظام العام، وأخلاقيات العمل وغيرها من قواعد السلوك، والمبادئ القانونية والقيم، فوارق في أبعادها القانونية وتقاطعها مع القواعد الملزمة. سنوضح البعد الفلسفي المستجد في القانون قبل أن نبحث في أثر التوجه الواقعي في تفعيل القواعد القانونية على وقع حضور القواعد اللينة.

البعد الفلسفي المستجد في القانون

اختلفت قراءة النظريات الفلسفية للقانون وأثره على العدالة، وتطورت بين القانون الطبيعي والوضعي وصولاً إلى التيار الواقعي. وبموازاة تطوّر النظريات المعنيّة بالظواهر المجتمعيّة، تطورت النظريات المعنية بعلم القانون. فمع مجتمع ما بعد الحداثة، والتحوّلات الاجتماعية في الممارسات مع التعسف في استخدام السلطات، عاد الحديث عن القانون الطبيعي دون التخلي عن مكتسبات القانون الوضعي وفقاً لمعايير الأخلاقيات وقواعد السلوك. لم تعد التشريعات بنصوصها الصادرة عن السلطة السياسية ضامنة للاستقرار، ولم يعد القاضي بعيداً عن التفاعل الاجتماعي والسياسي ولا عن رقابة الشعب. فبين نظرية القانون الطبيعي ونظرية القانون الوضعي، تراوحت الآراء في تحديد مصادر القاعدة القانونية وطبيعتها. وقد قدمت نظريات علم الاجتماع مقاربات لوظيفة كل من القانون والعدالة في المجتمع دون أن يكون ذلك هاجساً في الدراسات القانونية التي أخذت بعداً تطبيقياً.

فالقانون الوضعي الذي ساد منذ القرن الثامن عشر بمدرستيه الفرنسية (المكتوبة) والانكليزية (القائمة على السوابق القضائية والأعراف) هو الذي طبع المقاربة القانونية في القرن الماضي. ورغم اختلاف المنهجية المتبعة في كلا المدرستين إلاّ أنهما اتفقتا على الأخذ بـالمنظور الداخلي في دراسة القانون، وهو منظور جامد يعنى بالقانون في نواحيه الفنيـة من خلال دراسة النـصوص وتطبيقها، ولا يتجاوزه إلى ما عدا ذلك. إلا أن التجربة الأمريكية منذ سبعينيات القرن الماضي بدأت تنظر إلى القانون ليس فقط بمنظور داخلي حصري، وإنما عبر منظور خارجي يدرس علاقة القانون بحقول المعرفة الأخرى[1]. هذه المدرسة هي التي طبعت التوجهات الدولية في اعتمادها على مبدأ “حكم القانون” والتفاعل والتناغم بين مصادر القاعدة والمجتمع والرقابة والتفعيل. فنجدها متأثرة بطبيعة نظام القانون العرفي الاجتهادي الذي أخذ بعداً أكثر مرونة وواقعية، وهو يرتكز بشكل أساسي على دور القضاء في مواكبة التحديات والحاجات.

وهنا تبرز أهمية الدور الاجتهادي وفقاً للنظام القانوني المعتمد في لبنان والمتأثر بالمدرسة الفرنسية، والذي يجد أسسه في المادة 4 من قانون أصول المحاكمات المدنية. وعلى أثر العولمة والتحوّلات التي واكبتها، سعت النظريات القانونية المختلفة، وعلى رأسها النظرية الواقعية، إلى إعادة إدخال مبادئ الأخلاق والأخلاقيات في القانون، وبشكل خاص منذ العام 1970 في مرحلة أولى، ومرحلة ما بعد الحداثة لاحقاً. فالقانون الوضعي، ذهب باتجاه الطبيعة الرسمية أكثر من اتجاهه لقواعد تتضمن حكمة ومبادئ، كما كان الهدف عند تبنيها. كما وأن استغلال القانون الوضعي لحماية مصالح ضيقة على حساب الفئات الاجتماعية، أضعف فاعلية القانون الوضعي في تحقيق العدالة والاستقرار الاجتماعي، ما أدى إلى استعادة دور المعايير الأخلاقية كضابط لاستغلال السلطة.

وإن كانت نظرية القانون الوضعي انبثقت مع فلسفة القرن التاسع عشر، فقد تكرست بفعل التقنين الذي حصل في عهد نابوليون، حيث تضمنت النصوصُ القانونية المكتوبة القواعدَ القانونية الناظمة للمجتمع. هذا النص- ركيزة القواعد الصلبة- يفترض أن يكرس بفعل آلية إصداره “حكمة” المرحلة التي انبثق عنها[2]. وقد افقدت التطورات الراهنة، على المستويات كافة، وتقاطع المصالح المختلفة بين المحلي والدولي والعالمي، (أفقدت) القواعد المتمثلة بالقوانين ركائزها الأخلاقية، وأصبحت هذه القواعد بذاتها قوة مرتبطة بالسلطة. لذلك استعاد التيار الواقعي آلية تفعيل القوانين من خلال ربطه بالأخلاقيات، تحت مظلة حكم القانون. والأخلاقيات المرجوة بموجب التوصيات الحديثة لا تعني بالضرورة قواعد النظام العام والآداب العامة التي تشكل ركائز للقواعد الملزمة، والتي يفترض أن تشكل أساساً لتفسير النصوص بحيث تعطيها معان متجانسة غير متناقضة على ضوء المادة 4 من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني[3].

وبذلك، أعادت النظرية الواقعية فرض الدور المرن على عاتق القضاء بصفته السلطة الدستورية المعنية بمقاربة القوانين على أساس العدالة في أبعادها المختلفة، وتفعيل هذه القوانين في المجتمع.

فاعلية القواعد بين الصلبة واللينة

من أجل توضيح دور القاضي في أدائه، بين إلتزامه باحترام القاعدة القانونية انطلاقاً من سموّها على غيرها من القواعد، وتقديره للقواعد اللينة والعمل على توصيفها القانوني وتصنيفها، لا بد لنا من أن نميز بين طبيعة كل من هذه القواعد، وتوضيح أنماط القواعد اللينة وتمايزها عن بعضها، وأهمية تأصيلها وربطها بالقانون من أجل خلق نسق متناغم ومتجانس يحقق الغايات المرجوة منها. وهذا ما يشكل خصوصية دور القاضي القانوني.

ارتكزت مبادئ حكم القانون على أن القواعد اللينة تأتي في مرتبة ثانية تحت مظلة القانون الوضعي، لذلك تفترض ضرورة التكامل بين القواعد الصلبة والقواعد المرنة. هذا الافتراض يعكس ضرورة أن تكون القواعد الصلبة متناغمة أيضاً مع القواعد التي ستتلقاها ليستطيع الفرد في المجتمع تقبلها والتفاعل إيجاباً معها بشكل إيجابي

تمييز القواعد الصلبة عن القواعد اللينة

تتميز القوانين أو القواعد الصلبة –باعتبارها مجموع القواعد الصادرة عن السلطات الدستورية-، بمواصفات خاصة تختلف عن غيرها من القواعد الاجتماعية والدينية. فهي قواعد عامة مجردة مستمرة ملزمة وردعية/زجرية أي يعاقب على مخالفتها. وهي بموجب هذه الخصائص تحقق المساواة بين المواطنين وتضمن الانتظام والاستقرار في المجتمع على أسس العقد الاجتماعي.

تختلف القواعد القانونية الصلبة عن القواعد الحديثة ذات الطبيعة اللينة التي أصبحت فاعلة بموجب قواعد السوق، إذ تهدف هذه الأخيرة إلى إنتاج معايير جديدة للسمعة الحسنة أو تسعى للأخذ بعين الاعتبار خصوصية الجماعات المحلية بهدف جذبها. فنشير في هذا السياق إلى الأحكام المرتبطة بقواعد أخلاقيات المهن أو قواعد السلوك أو التوصيات الدولية أو معايير التقييم الصادرة عن مؤسسات خاصة عالمية. لذلك، تسعى التوجهات الحديثة إلى وضع “القيم” التي يجب تبنيها في الممارسات، والتي تعتمد لتقييم المنظمة أو المؤسسة الفاعلة في السوق أو المجتمع. وتعبير “القيم” أصبح هو مفتاحاً مفصلياً في معايير التصنيف والمسؤولية الاجتماعية وبالتالي معايير السمعة. ودخلت أنماط السوق في وضع المعايير وتفعيلها وفي آلية الرقابة والمحاسبة. وأخذت بعداً واسعاً في العالم الرقمي بحيث أصبحت حملات الفضح ممارسة شائعة، مرتبطة بمتطلبات السوق، وهي بعيدة عن ضوابط المحاكمات العادلة التي كانت تشكل ضامناً للاستقرار وحماية للكرامة الانسانية. وتختلف القيم المتبناة بين منشأة وأخرى، وتدخل ضمن الضوابط الأخلاقية الاختيارية التي يعود للمنشآت حق تبنيها وفقاً لأولوياتها، وتصبح بالتالي إحدى المعايير المرنة المرتبطة بمسؤوليتها الاجتماعية. وبذلك تختلف القيم التي تدخل ضمن معايير السمعة والترويج داخل السوق عن القيم التي تشكل ركائز في الدولة، والتي ترتبط بمبادئها القانونية العامة والأساسية، والتي يعود للقضاء حمايتها.

تعدد أنماط القواعد اللينة

تتألف القواعد اللينة من مجموعة أشكال/أنماط من القواعد منبثقة عن مصادر متعددة، تحاول أن تجد مكاناً لها في الأنظمة القانونية المحلية[4]. ويتم هذا الدمج أو التقاطع من خلال عدة آليات: فإما أن يسعى المشرع إلى تبنيها بشكل واضح فتعكس توجهات الدولة انطلاقاً من طبيعة القواعد المتبناة إذا كانت ذات طبيعة حمائية اجتماعية أو توجيهية اقتصادية، وتصبح بذلك قواعد قانونية عامة؛ أو من خلال إدخالها في العقود التي تصبح شريعة المتعاقدين، فتعكس بذلك توجهاً ليبرالياً خاضعاً لحرية السوق؛ أو من خلال تبنيها في المحاكم من خلال الاجتهاد، وتبقى نسبية بين أطراف الدعوى ما لم تتحول إلى مبدأ قانوني عام، من خلال دور الهيئة العامة لمحكمة التمييز؛ أو من خلال إصدارها في قرارات وتعاميم إدارية، ويبقى النقاش بذلك سائداً حول قيمتها وفقاً لمصلحة المستفيد منها والضرر الناتج على الطرف الأضعف. نذكر مثالاً على ذلك تعاميم المصرف المركزي اللبناني ودور القواعد التي تبنّت توصيات لجنة بازل، تلك القواعد التي لم تتفعّل لمصلحة المودعين، مع تلكؤ اجتهادي قضائي في حسم هذه المسائل. هذا مع العلم أن محكمة التمييز في لبنان كان لديها موقف واضح، منذ العام 1974، باعتبار التعاميم غير ملزمة للقاضي نظراً لعدم صدورها عن السلطة التشريعية، كما أنها لا تلزم عميل المصرف لكونه ليس طرفاً معنياً بها، واعتبارها شأناً مصرفياً داخلياً، وتبقى إلزاميتها ضمن نطاق المصارف[5]. وتشكل قرارات المحاكم عند نشوء نزاع حولها المفصل لتحديد قيمة كل قاعدة من هذه القواعد. ويعكس تبني المحاكم للمبادئ المستجدة، وتكريس قيم الدولة، وفقاً للدور المنتظر من القضاء، جرأة اجتهادية يقترب فيها نظام القانون المكتوب من نظام القانون العرفي. إلا أن بعض القواعد اللينة يبقى منفصلاً عن أي رابط قانوني محدد[6].

نميز ضمن سياق القواعد اللينة الممارسات المهنية التي قد تتحوّل إلى أسس للوائح الداخلية أو قواعد أخلاقيات المهن أو شرعات خاصة أو قواعد سلوكية أو قيم ثقافية عامة. وفي هذه الحالة، ترتبط هذه القواعد بإرادة الأطراف التي صدرت عنها -على منصة رقمية أو في شركة معينة أو مهنة خاصة- غالباً ما تعلنها الشركات على مواقعها الرقمية، وتعتبرها عادة جزءاً من الترويج لسمعتها في السوق، ولا يعني بالضرورة التزامها أو إمكانية إلزامها بها[7].

كما تشكل ثقافة الجماعات في المجتمع أحد أشكال القواعد اللينة، وهي ربما أكثر ليونة من الأولى بحيث تصبح مائعة-لزجة، تعرف بالقواعد الشفهية. وهي قواعد اجتماعية أو ثقافية محلية، لا تعني بالضرورة آداباً عامة ولا ترتقي لمرتبة الأعراف ذات القيمة القانونية. هذه القواعد ترتبط بالثقافات الخاصة، وتشكل مصدراً للتناقضات بين خلفيات المعتقدات المتنوعة في المجتمع الواحد، وتزيد حدة مظاهرها في العالم الرقمي وعلى وسائل التواصل التي أصبحت منصات تتجسد فيها الكثير من أشكال العنف. لا يمكننا أن نتجاهل أثر هذا الواقع من الممارسات المبنية على القواعد الطبيعية والخصوصية الثقافية على قواعد الحكم وتفعيل الديمقراطية والاستقرار[8]، ولنا في النزاعات المبنية على الثقافة الدينية والطائفية نموذج في المجتمعات المتعددة، أو الصراعات الاجتماعية بين الجماعات ذات الخلفية الثقافية المحافظة والجماعات ذات التوجه المبني على الحريات الفردية الحديثة.

إقرأ على موقع 180  استقلالية القضاء اللبناني.. ودولة العدالة الإجتماعية المفقودة (3)

تثير الخصوصية الثقافية تحديات أمام الفكر القانوني، وتدخل ضمن منظومة ما يعرف بالقواعد ذات المصدر الاجتماعي أو القواعد الشفهية، مقابل القواعد ذات المصادر الخاصة، بمعنى الصادرة عن الشركات الخاصة التي تفرض نمط حكمها في منظومة خدماتها. فأُعيدت في هذا السياق مناقشة الحقوق من خلفيتها المقوننة في القوانين الوضعية، ومن خلفيتها الأخلاقية ذات الطبيعة المرنة. وتدخل هذه القواعد ضمن معايير السوق وآلية ترويج المنتجات على ضوء مصالح الشركات. وتتغير باختلاف الأهواء المتوجه لها، إذ تشكل طريقة مخاطبة لأهداف اقتصادية ولا تعني فعلياً إلتزاماً قانونياً مرتبطاً بمبادئ حماية المستهلك. أصبحت إذاً عنصراً في الانتاج، كما أصبحت القوانين بموجب نظرية اقتصاد القانون مصدراً للثروة. ففي السوق العالمي، تبحث الشركات عن القوانين الجاذبة لها. وبالإضافة إلى المعنى الشائع لجاذبية البيئة القانونية، والمتعلق باستقرار القوانين وضمانات النظام القضائي، فهي تعني ضمناً قوانين تحفيزية للشركات لا تفرض إلتزامات ضريبية عالية أو ضمانات واسعة لمصلحة المجتمع. ودخلت هذه العناصر الأخيرة بما تشملها من حماية حقوق الإنسان وضمانات العمال وحماية البيئة وكل ما يتعلق بمعايير التنمية المستدامة جزءاً من المسؤولية الاجتماعية للشركات. هذه المسؤولية، التي تبقى ذات مصدر أخلاقي، لا تعني بالضرورة التزاماً قانونياً ما لم تجد لها مدخلاً في القانون الوضعي، وقد ثبت عدم نجاعتها على الشركات ما لم يتم تبنيها في القانون المحلي[9]. ورغم أن هذا التبني قد يشكّل سبباً لهروب الاستثمارات، إلا أن الانتظام القانوني ووضوح النصوص وسهولتها وتناغمها من جهة، والضمانات القضائية الفاعلة في جدية عمل القضاء وحل النزاعات ضمن المهل المعقولة من جهة ثانية، يمثلان أحد أهم عناصر جذبها.

خلاصة القول، وأمام نموذج الفردية في المجتمعات المعاصرة، ودور الشركات الكبرى في التحكم في السيطرة على القرار السياسي ومضمون القانون، أصبحت قواعد الأخلاقيات هي الضامن غير المؤكد للتوازن. هذه الاخلاقيات تنبثق عن الإرادة الفردية. فما هي قيمتها القانونية؟

القيمة القانونية للقواعد اللينة

تبقى إذاً القيمة القانونية للقواعد اللينة محل تساؤل: فهي تصدر عن إرادة الجهة التي تفرضها وتتعهد بالالتزام بها، وأصبحت هذه الجهات منافسة للسطات الدستورية في إنتاج القواعد الفاعلة؛ وهي مرنة مرتبطة بثقافات الجماعات المتعددة والمجموعات التي تحمل صفة أصحاب المصالح، وتبقى قابلة للتفاوض والتعديل على أساس تغير هذه المصالح وترددها؛ واختيارية لا تخضع للإلزامية والعقوبة، إذ تبقى مرتبطة بطبيعة القاعدة الأخلاقية التي تشكل في حدها الأقصى موجباً طبيعياً يحتاج لتدخل قضائي لتحويله إلى موجب قانوني بغياب نص واضح؛ ونسبية لا تلزم إلا الأطراف أصحاب العلاقة الذين توافقوا عليها بموجب قواعد العقد، الذي بدوره يخضع للوسائل البديلة لحل الخلافات بعيداً عن تدخل القضاء ما لم تشكل تهديداً للنظام العام؛ ومعنوية لأنها مرتبطة بالسمعة وتفقد قيمتها عندما تضعف الروابط بين المؤسسة التي صدرت عنها والأطراف المحيطة بها. فهي غالبا مبنية على علاقة الولاء وترتبط بالتالي بمعايير المنافسة وقواعد السوق. وبذلك، دخلت القوانين بذاتها في المنافسة ضمن ما عرف بسوق القوانين بحسب نظرية اقتصاد القانون[10]. وزاد هذا الواقع من ضعف سيادة الدولة المتمثل بسيادة القانون. ما لم يكن للقاضي دور محوري مسؤول.

التكامل بين القواعد الصلبة واللينة

أمام هذا المشهد، لا يمكننا تجاهل دور القواعد اللينة في تفعيل القواعد القانونية، وفي تحقيق التوازن والاستقرار في مجتمعات وأسواق مفتوحة على كل الاختلافات والتغيرات. من هنا، يتطلب التفاعل القانوني في المنظومة الحديثة احترام القواعد المرنة كونها تعبر عن حقوق مشروعة. كما أن التشاركية في توازن العلاقات ليست مرتبطة بإلزامية القانون انطلاقاً من حصرية استخدام القوة من قبل الدولة، بل لأن التوازن هو الذي سيؤدي إلى تطوير العمل وإمكانية المنافسة في السوق المحلي وعلى المستوى الدولي. إلا أن الخطورة تكمن في مجتمعات لم تنضج مؤسساتياً على أساس ثقافة القانون، حيث نجد أن ممارسات المؤسسات، العامة والخاصة، تعتمد على تصنيفات تساعد في الاعتراف بوجودها في الأسواق بغض النظر عن الاحترام الفعلي للقانون. إزاء هذا الواقع المستجد، أصبحت الغاية ترتكز على السمعة الشكلية النموذجية، مع تغاضٍ عن المعايير القانونية الوضعية غير المفعّلة أو استفادة من واقع قانون وضعي ضعيف المضمون، رغبة منها في الحصول على تصنيفات في المجتمع المعولم وفي السوق الدولي. ولنا في نظام التصنيف الدولي المنبثق عن مؤسسات ذات غايات ربحية، وإن كانت موثوقة، نموذجاً لجذب المتعاملين على حساب قانونية الممارسات وأخلاقياتها[11]، الأمر المتروك تقديره للرقابة والمحاسبة القضائية المحلية. وتبرز أهمية تفعيل القواعد القانونية الصلبة التي يجب أن تشكل حجر الزاوية الضامن في المجتمع، لأنه العنصر الثابت أو المستقر مرحلياً، والذي يؤسس للمساواة بين أفراده، وأن تكون معياراً واضحاً لاعتماده بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، بموجب القانون الوضعي. لذلك ارتكزت مبادئ حكم القانون على أن القواعد اللينة تأتي في مرتبة ثانية تحت مظلة القانون الوضعي، لذلك تفترض ضرورة التكامل بين القواعد الصلبة والقواعد المرنة. هذا الافتراض يعكس ضرورة أن تكون القواعد الصلبة متناغمة أيضاً مع القواعد التي ستتلقاها ليستطيع الفرد في المجتمع تقبلها والتفاعل إيجاباً معها بشكل إيجابي.

[1] المستيري يوسف مختار، الدراسات القانونية والتشتت في متاهات الوضعية، مجلة البحوث القانونية،جامعة مصراتة، كلية القانون، 2015، ص. 249-257.

[2] BATIFOLL, Henry. La philosophie du droit. 7e ed. Que sais-je?. Paris : PUF, 1987, p. 7-8.

[3] بنصها على واجب تفسير النص على أساس “… المعنى الذي يحدث معه أثراً يكون متوافقاً مع الغرض منه ومؤمناً التناسق بينه وبين النصوص الأخرى”.

[4] Joël MORET-BAILLY et Didier TRUCHET, Droit des déontologies, 1ère éd. (Paris, PUF, 2016), p. 4-14 

[5] محكمة التمييز المدنية، الغرفة الثالثة، قرار رقم 9 تاريخ 5 آذار/مارس 1974، النشرة القضائية، 1974، ص. 166. 

[6] ABBOTT and SNIDAL, “Hard and soft law in international Governance”, International Organization, 54, 3/2000, p. 424 et suiv. ; ROUVILLOIS, « l’efficacité des normes, Réflexions sur l’émergence d’un nouvel impératif juridique », fondation pour l’innovation politique, 2006, L’efficacité des normes (fondapol.org), p. 7 (viewed 4/11/2024)

[7] MESTRE, « L’ordre public dans les relations économiques », in L’ordre public à la fin du XXe siècle, op. cit., p. 37 (sur la valeur des règles de la déontologie et leur admission ou pas par la jurisprudence)

[8] Ondřej ŠVEC, « La fragilité de la démocratie face au défi de la technique », in Frédéric Worms, Annales bergsonniennes V,) France, PUF, 2012), p. 304-305;

[9] Jacques IGALENS, Splendeurs et misères de la RSE, (Paris, EMS, 2023)

[10] Shopping law: Supiot, p. 156-157-158 ; Thierry Kirat, Économie du droit, (Paris, La Découverte, 2002) ;

[11] J. BADRAN et A. EL HAJJ SLEIMAN, « L’articulation entre légalité légitimité et éthique pour une résilience durable des micros petites et moyennes entreprises au Liban », La Revue des Sciences de Gestion, no 330, Déc. 2024.

Print Friendly, PDF & Email
عزة الحاج سليمان

أستاذة في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، بيروت

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  ماذا لو.. إستيقظ العرب؟