ذكرت صحيفة “واشنطن بوست” أن السطر الأول من تقرير وكالة المخابرات المركزية ينص على الآتي: “إننا نقدر أن الرئيس فلاديمير بوتين وكبار المسؤولين الروس على دراية وربما يوجهون عمليات التأثير الروسية التي تهدف إلى تشويه سمعة الولايات المتحدة، وخصوصًا نائب الرئيس السابق جو بايدن، وتأجيج الخلاف العام قبل إنتخابات الولايات المتحدة.” وما نُشر في التقرير السري للغاية يعتمد على معلومات استخباراتية تم جمعها من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الأمن القومي.
وذكرت صحيفة “واشنطن بوست” أن التقرير يحذر أيضًا من أن الأوكراني أندري ديركاش – الذي كان يعمل علنًا مع محامي ترامب رودي جولياني لعدة أشهر – ينشر معلومات مهينة عن جو بايدن داخل الولايات المتحدة، وذلك من خلال قائمة طويلة من مجموعات الدعاية المؤثرة.
وفي السياق نفسه، نشرت نينا يانكوفيتش مقالةً على صفحات “فورين أفيرز” بعنوان: “كيفية هزيمة التضليل – أجندة لإدارة بايدن”، تشير فيها لإصابة الأميركيين بالصدمة من المحاولات الروسية للتأثير على الناخبين من خلال نشر روايات مُضللة. وتقول:”لم يتخيل الشعب الأميركي أبدًا أن قوة أجنبية قد تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من التقنيات الحديثة للتدخل في انتخاباتهم. وقد ظهر التهديد عبر المعلومات المُضللة خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016، ما جعل الأمر يتحول الآن إلى واجهة النقاش العام”.
بعد أربع سنوات، يبدو أن الخصوم الأجانب لم يكونوا قادرين على تعطيل الانتخابات الرئاسية الأميركية للعام 2020. فقد أعلنت وكالة الأمن السيبراني وأمن البنية التحتية الأميركية (CISA) أن هذه الانتخابات الأخيرة “الأكثر أمانًا في التاريخ الأميركي”. لكن المعلومات المضللة مستمرة في الانتشار على نطاق واسع في البلاد حيث لم يسلم الرئيس دونالد ترامب بالتنازل للرئيس المنتخب جو بايدن. بالإضافة إلى نظريات المؤامرة حول شرعية مسار نتائج الانتخابات والتي تبث من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وتملأ موجات البث، وتتسرب من البيت الأبيض نفسه. المأزق الحالي هو التذكير بأن المعلومات المضللة ليست مجرد تهديد خارجي غير مكتمل – بل هي أيضًا باثولوجيا أميركية.
إدراك المشكلة
مع إنتشار المعلومات المضللة المحلية في هذا العام الانتخابي، بما في ذلك الادعاءات بأن مسلحين بدأوا حرائق الغابات في شمال غرب المحيط الهادئ والتأكيدات – التي تغذيها مؤامرة QAnon المتزايدة – وبأن ترامب ينقذ البلاد من عصابة قوية من المشتهين بالأطفال، ازدهرت مفاهيم خاطئة عمقت الانقسامات المجتمعية في عهد ترامب – خصوصًا بين أولئك الذين يعيشون في المناطق الريفية وأولئك الذين يعيشون في المدن. كما تفاقمت الانقسامات بسبب جائحة COVID-19، هذا إلى جانب أربع سنوات من خطاب ترامب الشعبوي، وبيئة وسائل التواصل الاجتماعي التي تشجع الغضب والتطرف. وسعى البيت الأبيض إلى مكافحة المعلومات المضللة فقط عندما أُجبر على ممارسة الضغط على شركات التواصل الاجتماعي واستمر في ذلك من أجل مصلحته السياسية – على سبيل المثال، بسبب قرارات تعديل المحتوى التي تؤثر على الرئيس ترامب، مثل قرار تويتر وصف تغريدات ترامب بأنها غير صحيحة، لذلك، أجرت منصات وسائل التواصل الاجتماعي تغييرات متواضعة ومؤقتة للحد من انتشار الادعاءات الكاذبة، لكن هذه الإدعاءات تواصل الاستفادة من الهياكل والضرورات ذاتها التي تدفع الآن مجموعات من مؤيدي ترامب لإنكار الواقع.
يبدو أن جو بايدن ومستشاريه يدركون حجم ونطاق المشكلة. بصفته سياسيا مخضرما، قد يكون الرئيس المنتخب مؤهلا بشكل فريد لقيادة الجهود لدعم المرونة الأميركية في مواجهة المعلومات المضللة الأجنبية والمحلية، كما تظن نينا يانكوفيتش، فإن بايدن هو المُوقّع الأميركي الوحيد على تعهد نزاهة الانتخابات، وهي وثيقة لعام 2019 صاغتها مجموعة تحالف الديموقراطيات عبر الأطلسي. وتعهدت مجموعة من السياسيين الأوروبيين الذين وقعوا على التعهد بأنهم لن يقوموا “بتلفيق أو استخدام أو نشر البيانات أو المواد التي تم تزويرها أو تلفيقها أو تحريفها أو تمت سرقتها لأغراض التضليل أو الدعاية”؛ أو توزيع مقاطع فيديو تم التلاعب فيها؛ أو استخدام وسائل غير أصلية، مثل الروبوتات، لتضخيم الرسائل.
لكن، بعد أربع سنوات من التسييس والاستقطاب، سيستغرق الأمر أكثر من التعهدات الرسمية لمعالجة تدهور الخطاب العام في الولايات المتحدة والتلاعب بالمعلومات من قبل الدجالين المهتمين بهذا. ولن يكون أداء الإدارة القادمة أفضل في هذه المعركة إلا إذا ضغطت من أجل هياكل وتشريعات حكومية جديدة، فالوضع القائم يُمكن الرئيس المنتخب للطلب مِن الحزبين اتخاذ تدابير واضحة لحماية الديموقراطية الأميركية من التهديد السام للمعلومات المضللة.
كيفية مواجهة التضليل
يجب على إدارة بايدن التأكد أولاً من أن جميع مستويات الحكومة الفيدرالية تأخذ تهديد المعلومات المضللة على محمل الجد. ولا ينبغي أن يكون هذا التحدي موضوعًا فرعيًا يُناقش بنبرة هادئة بعيدًا عن إدارة الرئيس، كما كان الحال في عهد ترامب، الذي وصف المعلومات المضللة بأنها “خدعة” ورفض أي إجراء لمواجهتها باعتباره رقابة. ونتيجة لذلك، لم تدن أعلى المستويات في الحكومة الأميركية انتشار الرسائل الكاذبة بشدة، ولم يصدر البيت الأبيض على الإطلاق توجيهًا سياسيًا موحدًا لتوجيه الوكالات في العمل معًا لمكافحة المعلومات المضللة. في بلدان اخرى، مثل المملكة المتحدة، ثمة تقدير لحجم المشكلة. وتجتمع الحكومة البريطانية مع مسؤولي السياسة الخارجية والمحلية لوضع خطط للتخفيف من التهديدات عبر الإنترنت والاستجابة لأزمات معينة، مثل هجوم المعلومات المضللة الروسية الذي أعقب حادثة تسميم ضابط المخابرات الروسي السابق سيرجي سكريبال في المملكة المتحدة عام 2018.
يجب على الولايات المتحدة اتباع نهج مماثل، وإنشاء جهاز مكافحة التضليل داخل مجلس الأمن القومي. سيقوم هذا الجهاز بمراقبة بيئة المعلومات بحثًا عن التهديدات وتنسيق استجابات السياسة المشتركة بين الوكالات. ولن يحاول القيام بأي دور إشراف على المحتوى، وبالتالي تجنب الاتهامات بالرقابة. وبشكل حاسم، سيجمع الفريق الأفكار والآراء من خارج مجالات الأمن القومي والسياسة الخارجية التقليدية، بما في ذلك من وزارة التعليم ومنظمات مثل National Endowment for the Humanities، وهما ذراعان حكوميتان يتعاملان مباشرة مع الأميركيين. كما سيشجع الجهاز الجديد التعاون وتبادل المعلومات مع القطاع الخاص ومجموعات المجتمع المدني.
مع وجود هذا الهيكل البيروقراطي الأكثر شمولاً، يجب على إدارة بايدن أن تضع الكونجرس نصب عينيها، حيث كانت جلسات الاستماع في عهد ترامب بشأن التضليل عبر الإنترنت في الغالب عبارة عن تمارين في المسرح السياسي، وولدت مقاطع سريعة لأعضاء في الكونجرس ينتقدون المديرين التنفيذيين في مجال التكنولوجيا ولكن لا توجد سياسة. يجب أن يعتمد بايدن على سجله الحزبي وأن يشجع الكونجرس على إنشاء لجنة فيدرالية للرقابة والشفافية على الإنترنت. تظن نينا يانكوفيتش أن من شأن هذه اللجنة التأكد من أن منصات وسائل التواصل الاجتماعي تمنع المحتوى الأجنبي الخبيث ولا تقع فريسة للتحيز الحزبي ويمكن للمشرعين إجبار شركات وسائل التواصل الاجتماعي على الإبلاغ عن القرارات التي يتخذونها في ابتكار الخوارزميات وفي تعديل المحتوى، بهدف بناء إنترنت أكثر شفافية وديمقراطية.
ميزانية مناسبة
لقد تراجعت الولايات المتحدة بشكل يرثى له عن نظرائها في وضع وتنفيذ تشريعات مكافحة التضليل الإعلامي. مثل قانون الإعلانات الصادقة، والتي من شأنها أن تجعل تمويل الإعلانات السياسية عبر الإنترنت واستهدافها أكثر شفافية والتي يُعتبر ليندسي جراهام، السناتور الجمهوري من ولاية كارولينا الجنوبية من بين المشاركين في رعايتها، لكن مجلس الشيوخ بقيادة زعيم الأغلبية ميتش ماكونيل، وهو جمهوري من كنتاكي، رفض مشروع قانون أقره مجلس النواب يوجه المؤسسة الوطنية للعلوم والأكاديميات الوطنية للعلوم والهندسة والطب لإجراء بحث حول المعلومات المضللة بشأن جائحة COVID-19 – بما في ذلك التهديدات التي قد تؤثر على ثقة الجمهور في لقاح مستقبلي – لم يكتسب المشروع ثقة الجمهوريين ولم ينتقل من لجنة مجلس الشيوخ للصحة والتعليم والعمل والمعاشات التقاعدية. حتى مشاريع القوانين غير السياسية هذه وقعت ضحية الإستقطاب في الكابيتول هيل.
وتتطلب الجهود الجادة لمكافحة المعلومات المضللة ميزانية مناسبة. يجب أن تنظر إدارة بايدن إلى الحلفاء الذين لديهم عقود من الخبرة في التعامل مع المعلومات المضللة. وقامت بعض الدول الأوروبية باستثمارات في بناء برامج محو الأمية الإعلامية والرقمية لكل من الطلاب والبالغين في سن التصويت. هناك الجهود الفنلندية لجعل أطفال رياض الأطفال على دراية بوسائل الإعلام، أو برامج الحكومة السويدية التي تركز على تهديد المعلومات المضللة، وتوعية الناس لكيفية التنقل في بيئة الإنترنت المحمومة اليوم بشكل متزايد حتى يتمكنوا من التعرف على الرسائل الخاطئة أو الخبيثة. وتشير البيانات الواردة من أوكرانيا إلى أن هذه البرامج على المدى الطويل تغير السلوك وتجعل المواطنين أقل عرضة للتلاعب.
يجب على إدارة بايدن أن تعزز وسائل الإعلام العامة من أجل توفير بدائل أكثر واقعية، علماً أن بلدانا مثل ألمانيا والمملكة المتحدة تتجه إلى الاستثمار في نظام إعلامي قوي للإعلام العام.
تنفق الولايات المتحدة مبلغًا زهيدًا يبلغ 1.35 دولارًا للشخص الواحد سنويًا في مؤسسة البث العام، على الرغم من الاستطلاع الذي يشير إلى أن البرامج التلفزيونية لخدمة البث العامة موثوقة أكثر من برامج منافسيها من القطاع الخاص الربحية. أحيانًا تكون الشركات التابعة للإذاعة المحلية العامة والوطنية هي المنافذ الوحيدة في المناطق التي قد تكون صحارى أخبار؛ حيث سوف تصبح الأخبار غير المرغوب فيها والإستقطابات الحزبية قادرة على إختراقها. وتعتمد الديموقراطية الفعالة على وصول الجمهور إلى معلومات موثوقة يمكنها الوثوق بها. لذا يجب على الحكومة الأميركية دعم وسائل الإعلام العامة، وليس التهديد (كما فعل ترامب في شباط/فبراير) بقطع تمويلها.
إصلاح الشقوق
يجب أن يكون كل من الديموقراطيين والجمهوريين قادرين على دعم هذه السياسات. لكن هذه الإجراءات لن تبدأ إلا في معالجة ظاهرة التضليل عبر الإنترنت. انهارت ثقة الجمهور في الولايات المتحدة إلى درجة أنه من المرجح أن تنتشر المعلومات المضللة حتى في مواجهة الجهود الحكومية المنسقة لمكافحتها. وقد صوت أكثر مِن سبعون مليون أميركي لصالح ترامب، المرشح الذي ينشط في نشر المعلومات المضللة لتعبئة وتنشيط مؤيديه. وقد أعلن بايدن ونائبة الرئيس المنتخب كامالا هاريس على أن إدارتهما ستحكم جميع الأميركيين لذا يجب أن يحسبوا حساب التحدي الهائل المتمثل في إصلاح الخلافات السياسية والاجتماعية التي سمحت للمعلومات المضللة بالازدهار في المقام الأول. ولا يوجد حل سريع لسد هذه الانقسامات، وهو تحد يتطلب، على سبيل المثال، معالجة أفضل لقضايا مثل العنصرية النظامية. لكن يبدو أن فريق بايدن ـ هاريس مستعد لتولي المهمة وجهاً لوجه. ويتطلب هذا بناء مرونة دائمة لمواجهة المعلومات المضللة، وعلى الأقل، حكومة ملتزمة ومهتمة.
فشل الخصوم الأجانب والمخادعون المحليون في تعطيل انتخابات 2020، لكن البلاد بالكاد نجحت. لا تستطيع إدارة بايدن أن تكون راضية أو قصيرة النظر. لقد أمضت حكومة الولايات المتحدة بالفعل أربع سنوات في رفض معالجة هذه الأزمة المتنامية. بدون معالجة فعالة على أعلى المستويات وفهم أن مكافحة المعلومات المضللة تبدأ بالحكم الرشيد، ستثبت الفوضى في عهد ترامب أنها القاعدة وليس الاستثناء.