دخل ناصر الصباح الى العمل الحكومي الفاعل متأخراً وخرج منه باكراً تحت وطأة ضربات ما يسمى “الدولة العميقة”، وفقاً لأدبيات المعارضة الكويتية التي تكن له كل التقدير، وكانت راغبة في التعاون معه الى أبعد الحدود الاصلاحية الممكنة، لكن المرض داهمه ليتوفاه الله عن عمر ناهز 72 سنة، بعد 3 اشهر فقط على وفاة والده الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد الصباح.
ظهر نجل الأمير الراحل أول مرة في المعترك السياسي الحقيقي في العام 2006 وزيراً لشؤون الديوان الأميري. لكن سرعان ما حورب حتى أخرج من منصبه بعدما رفض أن يكون شاهد زور على ممارسات حكومية “غير سوية”، برأيه آنذاك.
قرر الشيخ ناصر النأي بنفسه عما جرى خلال أصعب حقبة من تاريخ الكويت الحديث التي امتدت من 2008/2009 حتى العام 2016/2017. ووقعت خلال تلك السنوات أحداث جسيمة أبرزها فضيحة رشاوى تلقاها نواب من أطراف حكومية لتأييد جناح ضد آخر من أبناء الأسرة الحاكمة، والامعان في التحالف الحكومي مع التجار على حساب شرائح من القبائل والتيارات الإسلامية والشعبية التي كانت تنشد حضوراً أقوى في النظام مع اندلاع احداث الربيع العربي. لكن التيارات الشرسة غير العابئة بالتوازنات تعرضت للقمع والتهميش، وحُلّ البرلمان عدة مرات، وتغير النظام جذرياً أملاً في تفتيت تلك “المعارضة المراهقة”، برأي النظام.
في هذه الاثناء، كان الشيخ ناصر على الحياد التام خارج أي اتهامات بالفساد طالت نافذين من طبقة التجار وابناء عمومته الطامحين للصعود على سلم المواقع السيادية. وركز، مع زوجته، جهوده في العمل التراثي والثقافي تحت راية مجموعة الصباح الآثارية الاسلامية التي تضم مجموعة فنية كويتية نادرة وثمينة جداً حضارياً يملكها الشيخ ناصر وتضم 20 ألف تحفة وقطعة وأثر تنتمي الى عالم يمتد من الصين الى الأندلس، وعرضت بعض تلك الموجودات في عواصم عالمية لتعكس وجه الكويت الحضاري حيث لاقت تقديراً دولياً.
لكن بعد العام 2016 وانتخاب مجلس أمة جديد، أراد الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد الصباح عودة ابنه الشيخ ناصر ليلعب دوراً في اعادة التوازن المفقود ضمن هيكل النظام، والمساهمة في تهدئة ساحة ضجت بأخبار الفساد وملياراته، اذ زادت خطورة تلك الآفة في سنوات قليلة على نحو خطير دفع بترتيب الكويت في مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية من 65 الى 85 في تدهور غير مسبوق، برغم وجود البرلمان الذي تعطلت رقابته بفعل فاعل كما تعطلت أدوار الجهات الرقابية الأخرى.
بغياب الشيخ ناصر تفقد الكويت رجلاً أراد الإصلاح بكل جوارحه حتى الرمق الأخير من حياته، ليترك البلاد غارقة مرة أخرى في صراعات لن تهدأ قبل ان تسجل المعارضة المحاربة للفساد “نصراً ما” متسلحة بنتيجة الانتخابات الاخيرة
وبالفعل، تم تعيين الشيخ ناصر وزيراً للدفاع والنائب الأول لرئيس مجلس الوزراء في 2016. ولأن طبيعته اصلاحية، لم يتردد في كشف الفساد في الوزارة التي تولاها، لا سيما في عقود التسليح الجوي، وما يسمى صندوق الجيش الذي حصلت فيه تحويلات مشبوهة بنحو مليار دولار في الفترة التي سبقت توليه حقيبة الدفاع خصوصاً المرحلة التي تولى الحقيبة فيها الشيخ جابر المبارك الصباح ثم الوزير خالد الجراح الصباح. وشكل ذلك في 2019 زلزالاً سياسياً في الكويت استدعى استقالة رئيس الحكومة الشيخ جابر المبارك الذي ذهب معه وزير الداخلية الشيخ خالد الجراح، مع تحويل الملفات الى النيابات العامة.
لكن الدولة العميقة أبت إلا تدفيع الشيخ ناصر الثمن أيضاً وحالت دون عودته الى الحكومة التي ترأسها الشيخ صباح الخالد الصباح، وترافق ذلك مع اشتداد وطأة المرض العضال على صدره. ومع ذلك، لم يتخل الشيخ ناصر عن محاربته للفساد. ومما قام به هذه السنة، على سبيل المثال، كشف تجاوزات وزارة الداخلية في التنصت على المواطنين وحساباتهم في وسائل التواصل الاجتماعي. لكن الدولة العميقة اياها طمست القضية وعاقبت الضباط الذين سربوا للشيخ ناصر تلك التجاوزات الخطيرة القامعة للحريات.
والى أدواره السياسية والأمنية كان الشيخ ناصر حامل حلم تحويل الكويت الى مركز مالي وتجاري اقليمي. ودعم بقوة مشروع مدينة الحرير المفترض اقامتها في جزيرة بوبيان بشراكة استراتيجية مع الصين وبالتعاون مع العراق وايران لارساء مصالح مشتركة تحول دون النزاعات مع الجارين الشيعيين. لكن تلك النظرة التصالحية للشيخ ناصر وجدت أيضاً من يحاربها لتعطيل اي تقدم في تنفيذ ذلك المشروع الاستراتيجي الذي تقدر استثماراته بنحو مائة مليار دولار، ويعد المحاولة الجدية الأولى لتنويع مصادر دخل الإمارة بعيداً من النفط.
ويرتبط إسم الشيخ ناصر بـ“رؤية الكويت 2035”، حيث كان يدفع نحو تنويع موارد الاقتصاد بعيدا عن النفط وتعزيز العلاقات مع بلدان القارة الآسيوية. كما كان قريباً جداً من مواقف والده بالعطف على لبنان والتمسك بالقضية الفلسطينية.
بغياب الشيخ ناصر تفقد الكويت رجلاً أراد الإصلاح بكل جوارحه حتى الرمق الأخير من حياته، ليترك البلاد غارقة مرة أخرى في صراعات لن تهدأ قبل ان تسجل المعارضة المحاربة للفساد “نصراً ما” متسلحة بنتيجة الانتخابات الاخيرة التي حصدت فيها أغلبية مقاعد مجلس الأمة.