حُسن سَير وسُلوك

ظهرت منذ أيام عريضةٌ مكتوبةٌ بعناية، تدعو دورَ النشر إلى عدم التعامُل مع أي فردٍ ينتمي إلى إدارة الرئيسِ الأسبق دونالد ترامب. يرى أصحابُ العريضة أن المجالَ لا يجب أن يظلَّ مفتوحًا أمام أعضاءِ الفريق الرئاسيّ الذين تركوا مواقعهم مؤخرًا، للتعبير بمُطلق الحرية عن أفكارِهم وآرائهم، ثم جني الربح مِن بيعها في كُتُب للجماهير.

وقَّع العريضةَ خمسمائة كاتب أمريكيّ، جميعهم موافق على المَنع، جميعهم يجد المُبررات الوافية في مَسلَك ترامب، جميعهم لا يرى غضاضةً في الجَهر بموقفِه وتسجيلِه وتوثيقه.

***

تَصِفُ العريضةُ ترامب وإن عن طريقٌ غير مُباشرة بأنه كاذبٌ خائن، وتؤكد أن مَن يطعن في نتائجِ انتخاباتٍ حكمَت بنزاهتِها وصحتِها المحاكمُ الأمريكية؛ لا يمكن السماح له بترويج مزيدٍ مِن التُرهات.

***

على الجانبِ المُقابل؛ أعلن الائتلافُ الوطنيّ الأمريكيّ المُناهض للرقابةِ؛ رفضَه ما جاء في العريضة؛ إذ رأى أن الحفاظَ على حرية التعبير هو أفضل وسيلةٍ لدعمِ الديمقراطية، أما انتزاع حق أصيل من الحقوق التي تبناها المُجتمع لعقودٍ؛ ففعلٌ لا يؤدي إلا لاستبدادٍ مُستقبلي غير مأمونِ العواقب.

***

لا توجد في عالمِ النشر قوانين لمنع أشخاصٍ بعينِهم من الكتابةِ؛ إلا في ضوءِ ارتكابِ جرائمِ مَنصوص عليها، والقواعد المُنظمة لإصدارِ الكُتُب لا تشترط في المُؤلف حسنَ السَير والسلوك، ولا تحظر التفاهاتِ والترهات، ولا تتوقف طويلًا أمام صحةِ الأفكارِ ومِثاليتِها وإنسانيتِها؛ فتلك أشياءٌ نسبيةٌ تُترَك لتقدير جَماهيرِ القُّراء، ولتوجُّهات الكاتبِ ذاته، والزوايا التي تُرى مِن خلالِها الأحداثُ مُتعددة وبعض الأحيان تكون مُتباعدةً بل ومُتنافرة. الحالُ التي تستوجِب المنعَ الصارمَ والتي لا تحتمِل تبايُن الآراءِ والاختلافِ؛ أن يقومَ الكاتبُ عبر نصِّه بالتحريض ضد آخرين، أو بالحضِّ على مُمارسة العنفِ والإيذاءِ تجاه المُجتمع أو قسم منه.

***

تثير العريضةُ تساؤلات كثيرة، فمَن الذي سيضع مَعايير المَنع في دور النشر مستقبلًا؛ إن هي استجابت؟ لمَن يكون الحكمُ ولمَن الغلبة إذا قرَّرت مجموعةٌ أخرى مِن الشخصيات العامة أو حتى من الأفرادِ العاديين؛ جمعَ التوقيعات على عريضةٍ مُضادة؛ تشجُب استحداثَ القيود وتدافع عن حقّ كل مواطن في التعبير عن أفكارِه؟ هل يُقاس عدد المؤيدين للمنعِ وعدد الرافضين؟ وماذا إذا قرر الرئيسُ المَنبوذ أن يؤسسَ دار نشرٍ، وأن ينشرَ فيها كُتبه، وكُتب أصدقائه والموالين له؟ هل تصدر عريضةٌ جديدة تُطالِب بغلقِ الدار، ووضعِ الشمعِ الأحمر على منافذِها وأبوابها؟

***

يبدو الأمر مدهشًا؛ فبلد قام على حمايةِ الحريات المَدنية، قد حادت عنها نخبتُه عند أول اختبار حقيقيّ، وراحت تَطلب الحجبَ والتقييد. الذعر مما جرى أفقد الكثيرين اتزانَهم، صدمهم وفاجأهم وأطاح بما عُدَّ في السابِق مِن الثوابت والبديهيات. قيمٌ عديدةٌ صارت مَحَلَّ مُراجعةٍ واختبار، النظامُ الديمقراطيّ نفسه بات مَحَلَّ مُساءلة، وتحوَّل النموذجُ البراق إلى مطمعٍ يغري المُستبدين بطعنِه وتشويهِه. صحيح أن النتائجَ النهائيةِ قوَّمت انحرافَ المسار؛ فأبعدت ترامب وجاءت بإدارة جديدة؛ لكن التجربةَ كانت مِن القسوةِ بما خلخلَ القناعاتِ الراسخة، وزلزل التقاليدَ المُجتمعيةِ المتينة ونزع عنها هيبتها.

***

اعتدنا في مُجتمعاتنا على دعوات المَنع والحَجب وفَرض القيود؛ حتى لم تعد أيها مدعاة للمناقشة. أسبابُنا كثيرة ودوافعنا متنوعة؛ الدين مرَّة والجنس مرَّة والسياسة مرات، ومسألة المنع نفسها لا تجد مُعارضةً قوية، بل أحيانًا ما تُقابَل بالترحيبِ والاستحسان. لا يقتصر الأمر على دور النشرِ أو على النصوص المكتوبة تحديدًا؛ بل يَمتد لمَساحاتٍ شخصيةٍ ضيقة ليس لأحد التدخُّل فيها؛ لكنها تصبح مع أجواءِ القمعِ العامةِ مُستباحة.

***

واجه ترامب الاتهامات والمُساءلات مِن الكونجرس مَرتين، وربما يخضع للمُحاكمة خلال الأيام القادمة بمُتقضى القوانينِ الطبيعية، وسوف يضعه التاريخُ في مكانِه المُستحَق، أما أن يحظى بمُعامَلةٍ خاصة أشبه ما تكون بأسلوبه المُنتَقَد في فترةِ ولايته؛ فأمر مِن السذاجةِ بمكان.

***

لم يكُن حرقُ الكُتُبِ في زمنٍ غابت عنه الوسائطُ الإلكترونية؛ بحلٍّ شافٍ أو مانعٍ لتداول ما ورد بها مِن أفكار، ولا أظنُّ مُحاولات المَنع في يومنا هذا أفضل حظًا هنا أو هناك.

(*) نقلاً عن “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  ويلٌ لمجتمع إعتزل نساؤه..
بسمة عبد العزيز

طبيبة وكاتبة

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  بيرنز رئيساً لـ"سي أي آيه".. بلا "عصا سحرية"