في الحلقة السادسة والعشرين من كتابه “إنهض واقتل أولاً، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية”، يشرح الكاتب “الإسرائيلي” رونين بيرغمان أسباب تراجع جولدا مائير عن قرارها السابق بعدم تغطية الإغتيالات التي تستهدف فلسطينيين في القارة الأوروبية، ثم كيف أعطت الأوامر بالقتل والإغتيال في دول أوروبية، قائلاً إن مائير ولدت في مدينة كييف الأوكرانية ونمت وترعرعت في ولاية ميولووكي الأمريكية وكانت الأمور بالنسبة لها إما أسود أو أبيض وإما سيئة أو جيدة. كانت جولد مائير تقول إنه لا علم لها بالأمور العسكرية والإستخبارية وأنها تعتمد في هذه الأمور على وزير دفاعها موشيه دايان والوزير في الحكومة المصغرة يزرائيل جاليلي ورئيس “الموساد” زفي زامير، ولكن بعد عملية ميونيخ، فهمت مائير بشكل واضح أنها لا تستطيع أن تعتمد على الدول الأخرى في حماية مواطنيها، وبالتالي على “إسرائيل” أن تقتل أياً كان في أي مكان، متجاوزة مبدأ إحترام سيادة الدول الأوروبية على أراضيها.
هذا التغيير في موقف مائير كان له أثره الكبير على عمليات وحدة “قيصرية”. قبل عملية ميونيخ، كانت الأهداف الأمنية الفلسطينية محصورة في “دول معادية” مثل سوريا ولبنان ومصر، لكن كان من الصعب على عناصر وحدة “قيصرية” تنفيذ إغتيالات في تلك الدول نظرا للبيئة المعادية لـ”إسرائيل”، فإستخدام قناص مع بندقية لتنفيذ العملية يمكن أن يجذب إنتباه السلطات المحلية، وحتى لو إستطاع المنفذ مغادرة مسرح العملية، فقد كانت هناك مخاطر بأن يُلقى القبض عليه أثناء مغادرته حدود تلك الدول، وهذا يعرضه للتعذيب الوحشي قبل قتله. أما القتل عن بعد، وتحديداً بالعبوات الناسفة، في تلك الدول، فقد كان من شأنه أن يكون أقل فعالية مع مخاطر قتل الكثير من الأبرياء. لذلك، يقول بيرغمان، كانت عمليات القتل في دول صديقة لـ”إسرائيل” أكثر ملاءمة، ففي حال القبض على القاتل، يمكن أن ينال في أسوأ الأحوال حكماً قضائياً بالسجن، وكان هناك قسم إسمه “الموساد العالمي” الذي أصطلح على تسميته بـ”الأريكة الناعمة” في جهاز “الموساد” ومهمته التواصل مع أجهزة الإستخبارات الأجنبية وتبادل الخدمات معها.. ومن شأن ذلك أن يسهل حياة السجين أو أن يؤدي إلى إطلاق سراحه.
***
يقول الكاتب رونين بيرغمان إن تنفيذ العمليات التي نالت الضوء الأخضر من جولدا مائير، بدأ في العاصمة الإيطالية روما في شهر اكتوبر/ تشرين الأول عام 1972، عندما قامت وحدة “الحربة” التابعة لقوات “قيصرية” الإستخبارية بقتل المترجم في السفارة الليبية في إيطاليا الفلسطيني وائل زويطر الذي كانت تعتبره أجهزة الإستخبارات “الإسرائيلية” قائد مجموعات منظمة “ايلول الاسود” في إيطاليا، وتعتقد أن عمله كمترجم في السفارة ما هو إلا غطاء لمهمته الأساسية، كما تعتبر أن أجهزة الإستخبارات الإيطالية كانت ضعيفة في مواجهة الإرهاب على أراضيها، وأن أوروبا باتت مركزا لـ”الإرهاب” الفلسطيني في ذلك الوقت. وكان “الموساد” يعتقد أن زويطر كان مسؤولاً عن تهريب النشطاء الفلسطينيين والأسلحة وتحديد الأهداف التي يجب ضربها. كما كان يعتقد أن زويطر كان مسؤولاً في سبتمبر/ أيلول من ذلك العام عن محاولة زرع عبوة ناسفة في إحدى طائرات “شركة العال الإسرائيلية” المتجهة من روما إلى تل ابيب، ويضيف بيرغمان أن السلطات الإيطالية كانت تشتبه بعلاقة ما لزويطر بـ”منظمة أيلول الأسود” لذلك أوقفته في أغسطس/ آب من ذلك العام وحقّقت معه في هجمات نفذتها المنظمة ضد شركات نفط إيطالية تتاجر مع “إسرائيل” لكنها أطلقت سراحه لعدم وجود أدلة ضده.
وقع زويطر أرضاً وتناثرت صفحات كتابه “ألف ليلة وليلة” حول جثته. وخلال ساعات قليلة تمكن الفريق المنفذ للعملية المؤلف من 17 عنصراً من مغادرة إيطاليا عائداً إلى “إسرائيل”
في إحدى ليالي تشرين/ أكتوبر، أعطى قائد “قيصرية” مايك هراري أمره من موقع قيادته للعملية في روما إلى المنفذين بالقول “اوكي، تحركوا وكونوا جاهزين للاشتباك، لقد غادرت الجميلة سارة المبنى وهي في طريقها إلى منزلها”. لم تكن الجميلة سارة ـ حسب رونين بيرغمان ـ سوى الإسم الوهمي الذي أعطاه الجهاز الإستخباري “الإسرائيلي” لرجل طويل القامة نحيف البنية مع نظارة طبية وشعر أسود فاحم ووجه معبر كثيراً، وكان إسمه الحقيقي وائل زويطر. كان الأخير تقريباً قد أنهى للتو ترجمة كتاب “ألف ليلة وليلة” من العربية إلى الإيطالية، وأمضى تلك الأمسية مع صديقته الفنانة الأوسترالية جانيت فين براون مناقشاً معها تفاصيل الرسوم التي ستتضمنها الترجمة الإيطالية لكتابه. قبل مغادرته منزلها، قدّمت فين براون إلى زويطر رغيفاً من الخبز (باغيت) كانت قد خبزته خصيصاً له فوضعه في المغلف نفسه الذي كان يضع فيه أوراق كتابه المترجم.
غادر زويطر منزل مضيفته متجهاً إلى منزله في شارع 4 بلازا أنيبليانو مستخدماً حافلتين، وعندما نزل من الحافلة الثانية، إتجه إلى مقهى قريب وهو لا يزال يحمل مغلف الخبز في يده، بينما كان فريق المراقبة التابع لوحدة “الحربة” يلاحقه. بعد برهة من الوقت، غادر زويطر المقهى متوجهاً إلى منزله، فأبلغ فريق المراقبة إثنين من المجموعة، عبر جهاز الإرسال، بإقتراب زويطر منهما، فما أن دخل زويطر في الممر الخفيف الإضاءة داخل البناية وضغط زر المصعد، حتى خرج الرجلان المكلفان قتله من الزاوية المظلمة قرب منور البناية وأمطراه بـ 11 طلقة من مسدسي “باريتا” مزودين بكاتمين للصوت، فوقع زويطر أرضاً وتناثرت صفحات كتابه “ألف ليلة وليلة” حول جثته. وخلال ساعات قليلة تمكن الفريق المنفذ للعملية المؤلف من 17 عنصراً من مغادرة إيطاليا عائداً إلى “إسرائيل”.
أول لائحة إغتيال أعدتها “قيصرية”، كانت تضم أحد عشر “إرهابياً” كانوا على صلة بمجزرة الألعاب الأولمبية في ميونيخ، حيث تبين أن كل هؤلاء يعيشون إما في دول عربية أو في دول أوروبا الشرقية (كانت دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي مناصرة قوية للقضية الفلسطينية وتقدم الدعم لمنظمة التحرير)، وذلك ما كان يصعّب الوصول إليهم. ومع ذلك، بدأت المعلومات تتراكم أكثر فأكثر عن أهداف أخرى أقل أهمية تعيش في أوروبا، فبعد عملية ميونيخ بات “الموساد” يعتبر أن أي شخص له علاقة بمنظمة “أيلول الأسود” (يستطرد الكاتب هنا بالقول وبالحري اي شخص ينتمي إلى منظمة التحرير الفلسطينية بصورة عامة) يُعتبر هدفاً مشروعاً للإغتيال.
***
في هذا الفصل نفسه، يروي رونين بيرغمان قصة حياة أحد المكلفين بتنفيذ عملية إغتيال منفذي عملية ميونيخ. إنه “ناميا مائيري” الذي يقول عنه بيرغمان إنه كان قائداً لإحدى فرق الإغتيال والقتل المتعمد. هو واحد من الناجين من الهولوكوست في الحرب العالمية الثانية وإبن عائلة يهودية من قرية دمبلين جنوب بولندا.
كان “مائيري” في الثانية عشرة من عمره عندما جمع جهاز الإستخبارات الألماني (“الغستابو”) اليهود في القرية وأجبرهم على السير إلى غابة مجاورة لبلدتهم حيث أمرهم بأن يحفروا خندقاً وأن يصطفوا على حافته قبل أن يتم رشقهم بوابل من الرصاص. كان الطفل (“مائيري”) ولداً واسع الحيلة وقوي البنية في ذلك الحين، فتمكن من التسلل بين المصطفين والقفز إلى الخندق قبل ثوانٍ من بدء إطلاق النار عليهم، ولم يلاحظه الجنود الالمان عندما فعل ذلك، وبعدها بقي مستلقياً بين جثث أفراد عائلته وأقاربه إلى حين إنتهاء عملية القتل. عندما رحل الجنود الألمان، زحف من القبر الجماعي الغارق بالدماء وغادره. في وقت لاحق من الحرب العالمية الثانية، ألقي القبض على “مائيري” وأجبر على الأشغال الشاقة في أحد المطارات العسكرية الألمانية حيث أنقذ حياة طيار برتبة رفيعة عندما أسقطت طائرته الحربية على المدرج فتسلقها “مائيري” وهي مشتعلة وأنقذ حياة الطيار الغائب عن الوعي، ما جعله يحصل على حماية لسنوات طويلة.
“مائيري” صاحب دم بارد وليست لديه أية روادع أخلاقية لقتل أي شخص يعتبره مؤذياً لليهود. وينقل الكاتب عن أحد أعضاء فريقه قوله إن “مائيري” كان يستيقظ صباحاً “وهو يضع سكيناً بين أسنانه”!
ويضيف بيرغمان أنه بعد إنتهاء الحرب العالمية، هاجر “مائيري” إلى فلسطين وشارك في حرب العالم 1948 حيث وقع في الأسر، ومرة أخرى.. نجا بأعجوبة خلال تصفية أحد الجنود الأردنيين لأسرى حرب إسرائيليين (لا يشرح الكاتب كيف نجا هذه المرة). في ما بعد إنضم “مائيري” إلى جهاز “الشين بيت” وخدم ضمن فريق المرافقة الأمنية لرئيس الوزراء ديفيد بن غوريون، من منطلق أنه “صاحب دم بارد وليست لديه أية روادع أخلاقية لقتل أي شخص يعتبره مؤذياً لليهود”. وينقل الكاتب عن أحد أعضاء فريقه قوله إن “مائيري” كان يستيقظ صباحاً وهو يضع سكيناً بين أسنانه!
“مائيري” كان منضوياً في وحدة “الطيور”، وهي تضم فريقاً من القتلة من عملاء جهازي “الموساد” و”الشين بيت”، وقد شارك “مائيري” في خطف الضابط البحري “الإسرائيلي” الكسندر يزرائيلي الذي حاول بيع أسرار عسكرية للسفارة المصرية في روما، كما شارك في حملة إغتيالات العلماء الألمان الذين كانوا يتولون البرنامج الصاروخي للرئيس المصري جمال عبد الناصر.
إنضم “مائيري” إلى وحدة “الحربة” المخصصة لعمليات الإغتيال. وينقل بيرغمان عن أحد أشهر الصحافيين “الإسرائيليين” إيتان هابر الذي خدم مديراً لمكتب إسحاق رابين قوله إنه وبّخ رئيس “الموساد” زامير لتعيينه اللأخلاقي لـ”مائيري” في وحدة “الحربة”، وقال هابر عن هذا التعيين إنه “إستغلال لرعب الهولوكوست من أجل خلق آلة للقتل”.
يقول بيرغمان إنه بعد سنوات من خدمة “مائيري” في وحدة “الحربة”، كان يتساءل الناس القريبون منه عما إذا كان مهجوساً بصور الناس الذين قتلهم في حياته أو عما إذا كانت تراوده الكوابيس بشأنهم، فكان يجيبهم “أنا أحلم فقط بعائلتي وأحلم بوادي الموت قرب قرية دمبلن البولندية. أحلم بأقربائي الجوعى والمرضى في مخيمات التعذيب الألمانية. هذه هي الأحلام التي تزعجني وليس لدي أي مشكلة مع أي شخص قتلته. كل من قتلتهم كانوا يستحقون رصاصة في الصدر ورصاصتين في الرأس لكل واحد منهم”.
يضيف بيرغمان أن “مائيري” كان أحد العنصرين الإستخباريين اللذين أطلقا النار على زويطر في روما، وبعد هذه العملية بأسبوعين تحدد الهدف الثاني وهو محمد الهمشري الذي كان يصنفه جهاز “الموساد” الرجل رقم اثنين في “منظمة ايلول الاسود”، وحمّل جهاز “الموساد” الهمشري مسؤولية استخدام البريد الجوي لزرع قنابل على متن الطائرات المنطلقة من أوروبا إلى “إسرائيل”، وقد إنفجرت واحدة من تلك القنابل في فبراير/ شباط عام 1970 وذلك بعد وقت قصير من اقلاع طائرة من مطار فرانكفورت في رحلة إلى فيينا ولكن الطيار تمكن من تنفيذ هبوط اضطراري، وزرعت قنبلة ثانية في طيارة تابعة لشركة طيران “سويس إير” كانت في رحلة من زيوريخ إلى هونج كونج يتخللها توقف في تل ابيب، لكن الطيار فشل في تنفيذ هبوط اضطراري عندما إنفجرت القنبلة في قسم الشحن في الطائرة فتحطمت الطائرة في إحدى الغابات وقتل الركاب الـ 47 الذين كانوا على متنها. كما كان “الموساد” يعتقد أن منزل الهمشري في باريس عبارة عن ترسانة سلاح لـ”منظمة ايلول الاسود” وأنه كان مسؤولاً عن محاولة الإغتيال الفاشلة لبن غوريون خلال زيارة له إلى الدانمارك في مايو/ أيار 1969.
بعد وقت قصير من عودة الهمشري إلى منزله رن هاتفه: “هل المتحدث هو السيد الدكتور همشري”؟ جاء الصوت عبر سماعة الهاتف وما أن اعطى المجيب الرد بالايجاب حتى جرى تفجير عبوة القاعدة عبر مفجر عن بعد، ما ادى إلى إنقطاع جسد الهمشري تقريبا إلى نصفين
وفي سرده لعملية قتل الهمشري، يقول بيرغمان إن عملاء “الحربة” الذين كانوا يراقبون الهمشري في باريس تبين لهم أنه كان يمضي معظم اوقاته مع زوجته وطفلته في المنزل، أما باقي الوقت فكان يمضيه بلقاءات مع أناس في اماكن عامة مكتظة بالناس. وكونه معظم الوقت محاطا بأناس أبرياء شكّل معضلة لعملاء “الموساد” كون رئيسة الوزراء جولدا مائير كانت شديدة الحساسية حيال الأعمال الأمنية وبالأخص في فرنسا إلى درجة أنها استدعت قائد وحدة “قيصرية” إلى منزلها وقدمت له كوبا من الشاي وقالت له: “مايك، عليك أن تكون متأكداً جداً أن شعرة واحدة من رأس مواطن فرنسي يجب أن لا تسقط، شعرة واحدة، هل تفهم ما اقول؟”
ويضيف الكاتب أنه على الرغم من الرغبة المستجدة لمائير في تنفيذ عمليات القتل في أوروبا، فقد كانت تعتبر أن هناك بروتوكولا لا بد أن يتبع، وكانت لا تزال تعتبر أن اتخاذ قرار بقتل إنسان مسؤولية كبيرة ملقاة على عاتقها لذلك كلما حمل اليها مدير “الموساد” زفي زامير “الورقة الحمراء” لتوقيعها (يوضح الكاتب هنا أن الورقة الحمراء هي أمر بالقتل يطبع على ورقة لونها احمر) كانت تطلب الإجتماع بمجموعة من وزراء الحكومة المصغرة وبينهم وزير الشؤون الدينية زيراك وارهافتيج لوضع الختم الديني على الموافقة على القتل.
وهكذا بات واضحاً أن قتل الهمشري يجب أن يتم عندما يكون وحيداً في منزله، يقول الكاتب رونين بيرغمان، وفي الثالث من ديسمبر/ كانون الاول، قام فريق من وحدة “قوس قزح” (الاسم الجديد لوحدة كولوسيوس وهو بالعبري كيشيت) بالتسلل إلى شقة الهمشري، وقام بتصوير كل محتوياتها مع التركيز على الاماكن التي كان يعمل الهمشري فيها، وتم ارسال الصور إلى “إسرائيل” لدراستها في القسم التقني التابع لـ”الموساد”. هناك لوحظ وجود هاتف على قاعدة رخامية، فقام القسم بتصنيع نسخة مطابقة لهذه القاعدة ولكنها محشوة بالمتفجرات، وفي السابع من ديسمبر/ كانون الاول، اتصل رجل بالهمشري مقدماً نفسه كصحافي إيطالي إسمه كارل، وهذا الرجل لم يكن سوى “ناميا مائيري” نفسه واتفق معه على اجراء مقابلة صحافية في مقهى قريب من منزله في اليوم التالي، وفيما كان الهمشري يجري المقابلة، كان فريق “قوس قزح” يتسلل مجدداً إلى منزله ويستبدل قاعدة الهاتف بالقاعدة المفخخة التي جُهِزَت في تل ابيب.
بعد وقت قصير من عودة الهمشري إلى منزله رن هاتفه: “هل المتحدث هو السيد الدكتور همشري”؟ جاء الصوت عبر سماعة الهاتف وما أن اعطى المجيب الرد بالايجاب حتى جرى تفجير عبوة القاعدة عبر مفجر عن بعد، ما ادى إلى إنقطاع جسد الهمشري تقريبا إلى نصفين بسبب شظايا الرخام وقد توفي بعد بضعة أسابيع في إحدى مستشفيات باريس.