هذه “السالفة” البعيدة في الزمن، تذكّرنا بأبشع ما يمكن أن يحصل للشعوب. أن يهين ذكاءَها المتذاكون. أن يمتهن كبرياءَها حُكّامٌ بطشوا بها، فظنّوا أنّهم يُسدون لها خدمة! واطمأنّوا إلى أنّ بطشهم، لن يترك بصمات. لا في الزنازين، ولا على أعواد المشانق! نعم. إنكار صاحب السلطة لبطشه، هو الإهانة بعينها. هو الظلم بذاته. ولهذا الإنكار، إسم. ولحالة انفصام صاحبه عن الواقع، توصيف. وللتهيّؤات والأوهام التي تسكنه، تعريف. لكن، لماذا كتب رضا بهلوي ما كتبه؟
لأنّه كان يعاني، كأمثاله من البطّاشين، من عوارض ما يُسمّى “الشخصيّة النرجسيّة”. تلك الشخصيّة التي أُعطيَت لها توصيفات عديدة عبر التاريخ. وتجلّى ظهورها، أكثر ما يكون، لدى مَن يحكم. أباطرة وسلاطين وملوك وأمراء ورؤساء وزعماء، عانوا (وعانت معهم البشريّة) من تورّمٍ في عقولهم وأرواحهم. من تضخّمٍ في حبّ ذاتهم. يتعدّى المستوى الطبيعي المقبول لحبّ الإنسان لذاته. فالشخصيّة المتورّمة، هي شخصيّة مريضة. والسبب، هو انجرافها الهستيري نحو الأنانيّة ومندرجاتها، ولا سيّما الشعور بالعظمة.
هكذا حصل مع “نرسيس” في الميثولوجيا الإغريقيّة. وقع في غرام انعكاس صورته في مياه البحيرة. بات لا يرى سواها. تولّد لديه شعور مفرط بأنّه أفضل من الآخرين، جميعهم. هو في الأعلى، وهم في الأسفل. هو المعصوم وهم الخَطَّاؤون. وهكذا، بدأت شخصيّته بالانحراف نحو نوعٍ من الجنون. سمّى علم النفس هذا المرض “جنون العظمة” أو الـ”ميغالومانيا”. ومجنون العظمة هو امرؤٌ يعتقد أنّ الديك يصيح، عندما يستفيق، هو، من النوم. مثله مثل “الطحّان المقتنع بأنّ القمح ينمو لتشغيل طاحونته”، كما يقول غوته أشهر أدباء ألمانيا. لماذا هذا الكلام اليوم؟
مواقف الجنرال الملتهبة، فجّرت بداخلي رغبة جامحة بإطلاق الرصاص ابتهاجاً. نعم. لكن، ما باليد حيلة. فالرصاص في منطقتنا بات مُحرَّماً
كلّ الفضل يعود لرئيس بلادنا. وَلُّوا، يا أصدقاء، أسماعكم شَطْر بعبدا وانصتوا: “أنا ميشال عون رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة”. “أنا ميشال عون أقول لكم يا أيّها اللبنانيّون الأعزّاء” (لم يعودوا شعباً عظيماً؟). “أنا ميشال عون الجنرال الذي عرفتموه.. تعالوا إليّ”! عبارات ليست كالعبارات. إنّها تُحيلنا، نحن الذين خَبِرنا سياساته وانفعالاته وولعه بالتوقيتات الخاطئة، إلى ذكريات نريد شطبها من ذاكرتنا. مواقف الجنرال الملتهبة، فجّرت بداخلي رغبة جامحة بإطلاق الرصاص ابتهاجاً. نعم. لكن، ما باليد حيلة. فالرصاص في منطقتنا بات مُحرَّماً.
عبارات الرئيس ميشال عون، يمكن اعتبارها نموذجاً لما يفكّر به أصحاب الشخصيّات المتورّمة (آنفة الذكر). مسكين رئيس جمهوريّتنا. دائماً بـ”بوز المدفع”. غيره أذكى وأخبث، في إخفاء عوارض الورم في شخصيّته. لكنّه الجنرال ميشال عون، تلاحقه هزائم الوقت كيفما اتّجه. هو، وكلّ سياسيّي لبنان، يقدّمون أنماطاً للزعامة الوهميّة. لا يستطيعون فعل شيء، سوى التخريب ومن ثمّ البكاء على أطلال ما خرّبوه. عبثاً تحاول مع هكذا صنف من المهزومين. ممّن جعلوا أهمّ ركيزة لحُكمهم، محو كلمتيْ “حُرمة” و”رحمة” من قواميسهم. فهُم، وكما يكتب جورج أورويل، يعتبرون أنّ “عامّة الشعب مخلوقات هشّة جبانة لا تتحمّل الحريّة أو مواجهة الحقيقة، لذا لا بدّ من حكمها وخداعها بشكلٍ منهجي عن طريق آخرين يكونون أكثر قوّة”.
وهؤلاء الآخرون في لبنان، متجسّدون في عصابة الـ 6 الحاكمة. وكلّ العصابات المتناسلة من نُطفتهم. جميع أفراد هذه العصابات، لهم شخصيّات متورّمة. بشكلٍ أو بآخر. لذا، معظمهم زعماء وهميّون. ففي لبنان تتفشّى جائحتان: كورونا والزعامة الوهميّة! والزعامات الوهميّة لا تبني، يا سادة، حياةً سياسيّة سليمة. ولا تساعد على تشكيل جماعة سياسيّة متماسكة. وبطبيعة الحال، لا تخدم المصلحة العامّة. لأنّ “التمركز حول الذات”، يعني ألاّ يدع زعيمنا الوهمي المواطن اللبناني يعيش كما يهوى. بل، هو يطالبه بأن يعيش كما يريد له الزعيم أن يعيش. وحتماً، يؤدّي ذلك إلى الظلم والاستبداد بالآخرين، كما يشرح بليز باسكال العالم والفيلسوف الفرنسي. كيف تحكم زعاماتنا الوهميّة اللبنانيّين؟
يا إلهي..! تطوّقنا جبال أمراضهم ونفاياتهم وخرابهم، من كلّ صوب
يحكمونهم، بوحي من مقولة للمولى سليمان (أحد السلاطين العلويّين): “نحن معشر الملوك، مَن كَرِهَنا قتلناه. ومَن أحبَّنا عذّبناه. والسعيد الذي لا يعرفنا، ولا عرفناه”. هذا هو نهجهم المرتكِز إلى تكتيكٍ فذّ. سياسة “الهروب إلى الأمام”. مَن عايش ديناصوراتنا اللبنانيّة، يعرف جيّداً كم يتقنون الهروب إلى الخلف. هم يتعرّفون ويشهدون اليوم، على هروبهم إلى الأمام. وهذا النوع من الهروب، حالة مرضيّة أيضاً. يا إلهي..! تطوّقنا جبال أمراضهم ونفاياتهم وخرابهم، من كلّ صوب.
لكن، ما هو الهروب إلى الأمام؟
إنّه المخرَج الممتاز للخلاص، من الأزمات والقضايا الميؤوس من حلّها. فعندما نهرب إلى الأمام، نتهرّب من المسؤوليّات وتحمّل عواقب الفشل. وكي نستدرّ التعاطف معنا، نرمي نتائج قصورنا وتبعات تقصيرنا على “الآخرين”. كيف؟ من خلال زجليّات “نظريّة المؤامرة”. تلك التي حفظناها عن ظهر قلب. هكذا بالضبط، يهرب زعماؤنا الوهميّون إلى الأمام. مدحرجين البلاد والعباد إلى الوراء. فالمخطئ والمفسِد والمجرِم منهم، يهرب ليُخفي ما اقترفت يداه أو عقله (المريض أيضاً). فإمّا يُخرِج أرنباً من الأكمام. أو يأتينا بفعلٍ مفاجئ، يأمل بأن يصبح هذا الفعل حديث الساعة والشغل الشاغل للّبنانيّين. فينسون الموضوع الأساسي. والقضيّة الأمّ. فنهج الهارب في السياسة والإدارة، يقوم على ما نسمّيه “الإسقاط”. إسقاط إخفاقاته على غيره. يُعتبَر ذلك، أخطر أنواع الهروب. ويكمن في صُلب سلوكيّات الشخصيّة المتورّمة. كيف؟
لا يستمدّ أصحاب الشخصيّات المتورّمة شعورهم بالتفوّق على الناس، من قدرةٍ أو كفاءةٍ أو علمٍ أو مهاراتٍ لديهم. هم يفتقدون، غالباً، لكلّ ذلك. لذا، هم يسعون جاهدين إلى تغطية عجزهم، بتفخيم ذاتهم والنفخ فيها. ليس بالضرورة أن يقوموا، هم، بهذا النفخ وذاك التفخيم! عادةً، يتوكّل أتباعهم بالمهمّة. وهناك دور كبير، كذلك، للإعلام التابع لهم (أو الذي يمونون عليه). فهو مكرَّس لتبييض كلّ الأوساخ التي يفرزونها. ولا ننسى، بالتأكيد، جماعاتهم اللصيقة. ولا المرتزقة الذين يعتاشون من فتات عائدات عراضات تأليه زعمائهم. رصاص وهتافات ويافطات وملصقات، تدعو لمجوِّعي الشعب بالعمر المديد وبالنصر المبين في قهر أعدائهم. أي قهرنا نحن، للتذكير. تسونامي جداريّات وصورٍ عملاقة لشخوصهم. تكتسح الساحات ومنعطفات الشوارع وتغطّي واجهات البنايات. غريب هذا الثبات لصورهم! يشعر المرء، وكأنّها جزءٌ لا يتجزّأ من خرائط تصميم تلك البنايات المنتصبة في أحيائنا. وبعد؟
حُكّامنا، هم جهنّم الحمراء. كلّ الهجاء والاتهامات لهم، لم تعد تجدي نفعاً. صارت لا شيء، أمام أهوال ما فعلوا
تسعى الشخصيّات المتورّمة للسياسيّين في لبنان، إلى كسب اعتراف الناس الأبدي بهم كزعماء. وعبر إلحاحهم الواضح بالظهور، ينشد زعماء لبنان الإعجاب ولفت الإنتباه وتركيز الأنظار عليهم. كلٌّ على طريقته، يحاول إزاحة المنافسين من دربه. فهذه سمة من سمات الشخصيّة المتورّمة الهاربة إلى الأمام. لذا، نراهم يتجاهلون الخصوم (والحلفاء أحياناً). يُنكِرون قدراتهم ومزاياهم. يحقّرونهم إذا دعت الحاجة. ويشوّهون صورتهم (المشوَّهة أصلاً). فلا شيء يجب أن يحجب “أنوار الزعيم الساطعة”.
كيف يتظهّر ذلك؟
يتظهّر عبر المكابرة الانفعاليّة والمعاندات الصبيانيّة والمزايدات السخيفة والمكائد الابتزازيّة، وصولاً إلى التباكي على حقوق الطائفة المهدورة. أيضاً، عبر التعمية المستمرّة للتغطية على سوابق في الفشل واللصوصيّة والفساد والإفساد والإجرام. يجد الهارب إلى الأمام، من دون كلل أو ملل، المبرّرات لنفسه ولهربه. هو للإشارة، كائنٌ ضئيل متآكِل. شخص لا يستخدم قلبه، إلاّ في ضخّ الدم لجسمه. لا يرى ولا يسمع ولا يشعر ولا يفكّر ولا يتّعظ. فقط يهرب. ليجعل أيّامنا مذيَّلة برائحة الموت. واللبنانيّون أمسوا ناساً نياماً. إذا ماتوا انتبهوا! مَن ينقذنا من موتنا؟
نحن، لا غير. إنّ أدنى أمل بهذه السلطة الحاكمة، هو خطيئة لا تُغتَفر! نهاية الخراب بوجودها، مستحيل. النهوض من كبوتنا بظلّها، مستحيل. الإصلاح معها، مستحيل. البقاء مع بقائها، من سابع المستحيلات. فهذه السلطة، هي مصيبتنا. وفي هذا النظام، نهايتنا. وحُكّامنا، هم جهنّم الحمراء. كلّ الهجاء والاتهامات لهم، لم تعد تجدي نفعاً. صارت لا شيء، أمام أهوال ما فعلوا.
كلمة أخيرة. في يومٍ من أيّام 1989، وبينما الاحتجاجات الشعبيّة تعمّ رومانيا، سأل صحافي الديكتاتور نيكولاي تشاوشيسكو: “هل ستؤدّي التظاهرات إلى تغيير؟ هل تخشى من أن تتطوّر الأمور للأسوأ؟”. فأجابه تشاوشيسكو هازئاً: “لا يوجد شيء ممّا تقول. لن يحدث تغيير في رومانيا، إلاّ إذا تحوّلت أشجار البلّوط إلى تين”! بعد أربعة أيّام، فقط، قُبِض على تشاوشيسكو هارباً مع زوجته إيلينا. ومن ثمّ أُعدِما رمياً بالرصاص. متى يبدأ تطعيم أشجار البلّوط في بلادنا؟ إقتضى التساؤل والجهاد الزراعي.. إنّما على طريقتنا!