يقول مؤلف الكتاب رونين بيرغمان، إنه في مايو/ ايار عام 1977 خسر حزب العمل “الإسرائيلي” الانتخابات التشريعية للمرة الاولى، منذ قيام الكيان المحتل عام 1948 وذلك في مواجهة حزب “الليكود” اليميني المتطرف بقيادة مناحيم بيغن، ويضيف ان العديد من القادة الاجانب، كما كبار المسؤولين “الإسرائيليين” كانوا يعتبرون بيغن من دعاة الحرب المتطرفين، كما ان بعض القادة الامنيين والعسكريين كانوا على قناعة ان بيغن سوف يسارع الى استبدالهم باشخاص من الموالين له، ولكن خطوات بيغن الاولى كرئيس وزراء فاجأت الجميع محلياً وخارجياً؛ فقد وقع مع الرئيسين المصري انور السادات والاميركي جيمي كارتر، في 17 أيلول/ سبتمبر 1978 على معاهدة سلام مع مصر (اتفاقية كامب ديفيد) تضمنت انسحاباً “إسرائيلياً” من شبه جزيرة سيناء التي احتلتها “إسرائيل” في حرب العام 1967، بما فيها انسحاب كامل للجيش “الإسرائيلي” وتفكيك كل المستوطنات والتخلي عن حقول النفط والمنشآت السياحية. وقد واجه بيغن معارضة شرسة من قبل الجناح اليميني في “إسرائيل” لكنه غامر بمستقبله السياسي ووافق على المعاهدة، كما اجبر حزبه “الليكود” على الامتثال لقراره، فتمكن بذلك من تقوية تحالفه الامني مع الولايات المتحدة وتعزيز سلطاته على المحكمة “الإسرائيلية” العليا.
لم يجر بيغن اية عمليات تطهير سياسي في الادارة. على العكس، طلب من الرجلين اللذين على علاقة وثيقة بحزب العمل – رئيس جهاز “الشين بيت” ابراهام اهيتوف ورئيس جهاز “الموساد” ايزحاك هوفي ان يبقيا في منصبيهما. ينقل رونين بيرغمان عن هوفي قوله “لقد اعتبرت هذا الامر غريباً، فحزب العمل كان براغماتياً وقاسياً جداً عندما يتعلق الامر بالشؤون العسكرية والمخابراتية، اما بالنسبة لبيغن فقد كان الجيش امراً مقدساً”.
اعطى بيغن هاتين المؤسستين العسكرية (الشين بيت) والمخابراتية (الموساد) اليد الطليقة، برغم انه عندما كان زعيماً للمعارضة البرلمانية كان لا يُعطى من المعلومات الا النذر القليل. لذلك، كان بحاجة لتعلم امور كثيرة، وعلى اي حال حتى عندما كانت تعرض عليه امور هامة فقد كان ينظر اليها بسطحية، وينقل بيرغمان عن نائب رئيس “الموساد” ناعوم ادموني قوله “كنا نشعر وكأنه يحلّق فوقنا على ارتفاع ثمانين الف قدم”!
يقول بيرغمان ان بيغن كان يساوي بين ياسر عرفات وادولف هتلر وكان يعتبر ان الميثاق الوطني الفلسطيني، الذي يدعو الى تحرير كامل فلسطين من النهر الى البحر، لم يكن الا شبيها بكتاب هتلر “كفاحي”
كان بيغن يوقع بلا اي إستفسار كل اوامر القتل المتعمد والاغتيال على “اللائحة الحمراء” التي كان يقدمها له جهاز “الموساد”، حتى انه لم يكن يصر على الاجراءات العملياتية المعتمدة وبينها ان يعقد مسشاروه الامنيون اجتماعاً مع رئيس “الموساد” قبل اقرار اية عملية قتل متعمد او تخريب، وهذا ما فاجأ هوفي الذي قال “مع (إسحاق) رابين كان يجب الحصول على موافقة مسبقة من قبل الحكومة المصغرة قبل اي قرار من هذا النوع، اما مع بيغن، فقد كان يوافق شفهياً على الفور من دون العودة لمساعديه العسكريين.. وانا نصحته انه من المهم جدا ان يكون كل شيء مكتوباً وليس فقط شفهياً”.
يضيف الكاتب ان الامر الوحيد الذي لم يكن هناك توافق عليه بين بيغن وقادة اجهزة الاستخبارات هو ترتيب الاولويات. ففي اول لقاء له مع هوفي، طلب بيغن من “الموساد” شن حملة قتل متعمد واغتيالات في العالم ضد مجرمي الحرب النازيين، فرد عليه هوفي بالقول “سيدي رئيس الوزراء لدى الموساد اليوم مهمة اخرى تتعلق بامن إسرائيل اليوم وفي المستقبل وانا اعطي الاولوية لليوم وللغد على الامس. تفهم (بيغن) ذلك ولكنه لم يُحبّه”.
يقول بيرغمان ان بيغن كان يساوي بين ياسر عرفات وادولف هتلر وكان يعتبر ان الميثاق الوطني الفلسطيني، الذي يدعو الى تحرير كامل فلسطين من النهر الى البحر، لم يكن الا شبيها بكتاب هتلر “كفاحي”. ويُنقل عنه قوله في اجتماع للكنيست الإسرائيلي في 9 يوليو/ تموز عام 1979 “نحن اليهود ونحن الصهاينة ومن خلال التجربة، لن نسير في الخط الذي سار عليه قادة اليهود في اوروبا وعبر العالم في الثلاثينيات (من القرن الماضي) فنحن نأخذ على محمل الجد كتاب كفاحي الثاني (الميثاق الوطني الفلسطيني) وسنفعل كل ما بوسعنا بعون الله لمنع تحقيق الرعب الذي يعدنا به ابن الشيطان (عرفات) قائد منظمة القتلة التي لم يوجد لها مثيل منذ ايام النازيين”.
أثار الحضور المتزايد لعرفات على المسرح الدولي جدلاً حاداً بين جهازي “الموساد” و”امان” بشأن ما اذا كان لا يزال من المناسب ابقاء عرفات هدفاً للاغتيال
في العام 1974 امر عرفات بوقف كل العمليات الفدائية في اوروبا والتركيز بكل قوة على الجهود السياسية في المحافل الدولية من أجل الحصول على اعتراف دولي بمنظمة التحرير الفلسطينية وحتى يقدم نفسه على انه جاهز للتفاوض مع “إسرائيل”. وبالرغم من اعتراض “إسرائيل” العالي النبرة، فقد افتتحت منظمة التحرير ممثليات لها في كل انحاء العالم ومن ضمنها اوروبا، وفي ذروة هذه الحملة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1974، أطل ياسر عرفات من على منبر الجمعية العامة للامم المتحدة والقى كلمة معتدلة لاقت قبولاً واسعاً لدى الرأي العام (قال فيها اتيتكم حاملاً غصن الزيتون بيد والبندقية في اليد الاخرى فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي).
فوق كل ذلك، بدات جهود عرفات التي يحاول فيها الظهور كداعية تسوية سياسية للصراع الفلسطيني “الإسرائيلي” تذيب الجليد في العلاقات بين منظمة التحرير والولايات المتحدة الاميركية. اثار هذا الامر قلق الاستخبارات “الإسرائيلية” من امكانية حصول تقارب بين حليفها الاساسي وعدوها الاساسي. وفي ورقة اعدها جهاز “امان” عام 1974 لرئيس الوزراء حينها اسحاق رابين “حذر الجهاز من تنامي المصالح الاميركية في الحصول على اقصى تأثير ممكن داخل منظمة التحرير كي لا تبقى حصراً تحت التأثير السوفياتي”. كما حذرت الورقة ايضا من ان وزير الخارجية الاميركي هنري كيسنجر “لا يوجد في كلامه ما يشير في المستقبل الى رفضه المطلق لمنظمة التحرير”.
يقول رونين بيرغمان ان المؤسسات الاستخبارية “الإسرائيلية” لم تقتنع بدبلوماسية منظمة التحرير. مثلاً، بالنسبة لجهاز “امان”، لم تكن هذه الدبلوماسية الا نسخة منقحة عن استراتيجية ابادة “إسرائيل”. وينقل الكاتب عن احد ابرز الجنرالات في عالم الاستخبارات “الإسرائيلية” اموس جلعاد قوله “لقد كان عرفات فعليا نقيضاً لما يبدو عليه، لقد كان عبقرياً، فقد كان لديه نائبان لادارة عمليات الارهاب هما ابو جهاد وابو اياد وباستثناء هجوم واحد فانك لا تجد صلة مباشرة لعرفات باية عمليات. هو كحارس حديقة الحيوان الذي يترك اسداً جائعاً يسرح في الطرقات، فاذا ما اكل الاسد شخصا ما من يتحمل المسؤولية؟ الاسد؟ لا، من الواضح ان المسؤول هو حارس الحديقة. ابو جهاد يتلقى التوجيهات العامة من عرفات وهو ينفذ الباقي بطريقته. ولم يكن عرفات يطلب اية تقارير كما لم يكن يشارك في التخطيط ولا يعطي الموافقة على العمليات”.
أثار الحضور المتزايد لعرفات على المسرح الدولي جدلاً حاداً بين جهازي “الموساد” و”امان” بشأن ما اذا كان لا يزال من المناسب ابقاء عرفات هدفاً للاغتيال، فالعميد ايغال برسلر الذي كان رئيس قسم الاغتيالات في جهاز “امان” كان متحمساً جداً لابقاء عرفات على رأس لائحة المطلوبين للقتل وكان يقول “عرفات ارهابي وعلى يديه دماء يهودية ويواصل اعطاء الاوامر لمقاتليه بشن هجمات ارهابية لذلك يجب ان نفعل كل ما يمكن للتخلص منه”. في المقابل، فان رئيس جهاز مكافحة الارهاب في “الموساد” شيمشون ايزحاكي كان يقول “بعد خطاب عرفات في الامم المتحدة، اصبح شخصية سياسية، انه رأس الافعى ولكن المجتمع الدولي اعطاه مشروعية وبقتله ستكون إسرائيل في وضع سياسي دولي معقد جداً”. ويضيف الكاتب في النهاية انتصر الرأي الثاني وازيل اسم عرفات عن لائحة القتل واستبدل باسم وديع حداد.
مع اغتيال وديع حداد، انتقل جهاز “الموساد” الى هدفه التالي علي حسن سلامة (أبو حسن سلامة)، يقول رونين بيرغمان
على مدى 18 شهراً بعد عملية عنتيبي، عاش وديع حداد بأمان وسرية تامين بين بيروت وبغداد. وكان جهاز “الموساد” يحاذر استخدام الاسلحة النارية في عمليات الاغتيال في العواصم العربية، وبالاخص في بغداد ودمشق وبيروت وذلك بسبب الخوف من الاعتقال الذي كان مرجحاً جداً في هذه الحالة، وهكذا بدأ البحث عن سبل صامتة لتنفيذ عمليات الاغتيال. عمليات لا يكون واضحاً من هو المسؤول عنها ويبدو فيها الموت وكأنه حدث طبيعي او نتيجة مرض او حادث سيارة. ففي هذه الحالات حتى لو كان هناك شكوك بوجود مخطط اغتيال، فانه في الوقت الذي يتم التوصل الى تلك النتيجة يكون القتلة قد لاذوا بالفرار على عكس استخدام الاسلحة النارية التي تعني ان القتلة ما زالوا في مكان العملية. وهكذا قرر “الموساد” استغلال خرقه العميق لتنظيم وديع حداد وكلف وحدة “المفصل” بتنفيذ عملية اغتياله وانيطت هذه المهمة بعميل داخل تنظيم حداد لقبه “تعاسة” وكان له وصول كبير إلى منزل وديع حداد ومكتبه.
في العاشر من يناير/ كانون الثاني عام 1978، تمكن العميل “تعاسة” من استبدال اصبع معجون الاسنان لحداد بشبيه له يحوي سماً قاتلاً جرت صناعته خصيصاً بعد جهود حثيثة في “المؤسسة الإسرائيلية للبحوث البيولوجية” (أنشئت عام 1952) في منطقة “نيس زيونا” جنوب شرق تل ابيب، وهي لا تزال تستخدم كمركز لتطوير الاسلحة البيولوجية الدفاعية والهجومية بسرية تامة.
وفي كل مرة كان وديع حداد ينظّف اسنانه بالفرشاة والمعجون، كانت تدخل كمية من السم الصناعي القاتل الى دورته الدموية. بعد فترة، بدأ حداد يشعر انه مريض وأُدخل الى مستشفى حكومي عراقي وقال للاطباء انه منذ منتصف يناير/ كانون الثاني بدأ يشعر بالمرض على شكل انقباضات معوية قوية بعد كل وجبة طعام، وبدأت شهيته تتراجع وأنه خسر اكثر من 12 كيلوغراماً من وزنه. في البداية، وصف الاطباء مرضه بالتهاب الكبد ولاحقاً برشح قوي واعطوه كمية كبيرة من المضادات الحيوية ولكن حالته لم تتحسن وبدأ شعره بالتساقط. فاسقط ما بيد الاطباء العراقيين واشتبهوا بانه جرى تسميم حداد، فأمر ياسر عرفات بطلب المساعدة من جهاز الاستخبارات الالماني الشرقي “شتاسي”، فقد كان هذا الجهاز يزود المنظمات الفلسطينية بالمعلومات الاستخبارية والجوازات المزورة والاسلحة ويوفر لهم الملجأ الآمن، فقد كان الرئيس الالماني الشرقي ايريك هونيكر وقيادته ينظرون الى عرفات كثوري حقيقي شبيه بـ(الزعيم الكوبي) فيديل كاسترو وكانوا على استعداد لمساعدته. في 19 مارس/ اذار عام 1978 نقل حداد الى مستشفى مخصص للاستخبارات الالمانية الشرقية في برلين الشرقية، وقام مساعدوه باعداد حقائبه التي تضمنت معجون الاسنان المسموم. وتفيد تقارير “الموساد” في تلك الفترة ان حداد كان قد انتهى تقريبا عند وصوله الى برلين، وقال خبراء في المؤسسة البيولوجية “ان حداد كان جثة رجل تسير”. وهكذا لم تفلح كل محاولات الاطباء الالمان في انقاذه ووصفوا حالته بانها ناجمة عن عملية تسمم وقد توفي بعد عشرة ايام من وصوله الى برلين في 29 مارس/ أذار.
وبرغم أن حداد كان في لحظة وفاته يقود تنظيماً منشقاً عن تنظيم جورج حبش، إلا أن الأخير حزن كثيراً على رفيق دربه ولم يخالجه اي شك بان “إسرائيل” قتلته.
مع اغتيال وديع حداد، انتقل جهاز “الموساد” الى هدفه التالي علي حسن سلامة (أبو حسن سلامة)، يقول رونين بيرغمان.