لنأخذ نموذج الدعوة الرسمية التي وجّهها الروس إلى رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد. ركّز الكثير من الإعلام اللبناني والعربي على صورة “الفان” التي أوصلت وفد حزب الله إلى مقر وزارة الخارجية الروسية، وراح هؤلاء يبنون على هذه الصورة. بالمقابل، عمّر إعلاميون على صورة الحريري والمفارز السباقة ورجال الأمن الذين كانوا يسبقونه إلى مواعيده والسيارات الفارهة التي أقلته وبرنامج مواعيده الروسية إلخ..
عندما زار محمد رعد موسكو في العام 2011، كانت الزيارة بطلب من حزب الله نفسه. كانت سوريا في الأشهر الأولى لأزمتها التي طالت نيرانها خلال أشهر قليلة العاصمة دمشق. إقتصرت اللقاءات على “الدوما” ومساعدي وزير الخارجية الروسي. لم يكن حزب الله قد إنخرط في تلك الحرب (2012 قرار المشاركة). كان لبنان أسير أزمة سياسية بعد الإستقالة القسرية لحكومة الحريري وتشكيل حكومة نجيب ميقاتي وكان مناخ معظم الوسط السياسي اللبناني أن سقوط النظام السوري “مسألة أشهر”!
الأفدح أن روسيا في تلك الفترة، كانت نبرة رئيسها ديمتري ميدفيديف (2008 ـ 2012)، إنتقادية جدا للدولة السورية، رئيساً ومؤسسات، وكانت تتعامل ببرودة مع مجريات الأزمة السورية، قبل أن يتحرج الموقف وصولاً إلى 2015 تاريخ إنخراط روسيا عسكرياً في الأزمة السورية.
عشر سنوات كانت كفيلة وحدها بجعل الروس وحزب الله يقدمون خلاصاتهم المتبادلة ويمكن إيجازها في الآتي:
أولاً، ثمة مرحلة دولية جديدة مع وصول جو بايدن إلى سدة الرئاسة الأميركية. روسيا وحزب الله، ولو بفوارق كبيرة، يقعان في صلب التحديات التي تواجه الأمن القومي الأميركي، حسب العديد من الوثائق والمواقف والقراءات الأميركية، ما يعني أن للطرفين مصلحة في أفضل العلاقات وأوثقها.
ثانياً، ثمة تجربة ميدانية بين الجانبين عمرها عشر سنوات على الأرض السورية، أكسبت الطرفين ثقة متبادلة، ويمكن أن تنسحب على السياسة، أي جعل العلاقة السياسية بين الطرفين بمستوى الإنجازات الميدانية، وبالتالي ثمة رغبة بتعميق حضور الطرفين وليس العكس، إذا أن أي تراجع سيكون لمصلحة الأميركيين، وهذا ما لا يريده الجانبان.
ثالثاً، ينظر الروس إلى لبنان، بوصفه حديقتهم الخلفية، أخذاً بعين الإعتبار حضورهم العسكري والأمني في سوريا، وبالتالي أي إهتزاز للوضع في لبنان سيرتد سلباً على الوضع السوري، ويؤثر على الحضور الروسي. من هنا مصلحة موسكو بالسعي إلى عدم وقوع لبنان أسير الفوضى، وأن يكون لحزب الله دور وازن في إنجاز التسوية اللبنانية.
ملف العلاقات الثنائية بين روسيا وحزب الله، الذي سيكون مفتوحا على إحتمالات شتى، ما جعل أحد المعنيين بالزيارة يجزم أن صفحة تأسيسية جديدة فتحت بين حزب الله وموسكو، ومن يراجع حتى البروتوكول يستطيع أن يلتقط ما هو أبعد من “الفان” الذي نقل الوفد إلى مقر وزارة الخارجية الروسية
رابعاً، ثمة فرص إقتصادية لبنانية ـ سورية، خصوصاً في مجال التنقيب عن النفط والغاز، في ظل تقديرات روسية بأن ما يملكه هذان البلدان من ثروات غازية في البحر المتوسط يفوق ما تملكه خمس دول خليجية، ما عدا قطر. وهذا التوجه الإستثماري الذي بدأ مع دخول شركة “نوفاتيك” الروسية في كونسورتيوم الغاز في البلوكين 4 و9، تطور من خلال حضور شركة “روزنافت” في معامل الشمال، وهناك عشرات الشركات الروسية التي تريد الإستثمار في لبنان وفي قطاعات عديدة.
خامساً، هناك لقاح “سبوتنيك 5” الذي يتعبر أهم إنجاز علمي روسي منذ إنهيار الإتحاد السوفياتي، وهذه الدبلوماسية اللقاحية ستترك بصمتها في هذه المعركة الدولية المفتوحة في مواجهة فيروس كورونا، وروسيا أبدت إهتمامها بأن يكون لبنان من بين أوائل الدول التي ستنال دفعات كبيرة من هذا اللقاح.
سادساً، هناك ملف العلاقات الثنائية بين روسيا وحزب الله، الذي سيكون مفتوحا على إحتمالات شتى، ما جعل أحد المعنيين بالزيارة يجزم أن صفحة تأسيسية جديدة فتحت بين حزب الله وموسكو، ومن يراجع حتى البروتوكول يستطيع أن يلتقط ما هو أبعد من “الفان” الذي نقل الوفد الحزبي إلى مقر وزارة الخارجية الروسية!
هذا نموذج من نماذج التعامل الدولي مع لبنان. في المقابل، يمكن القول إن رئيس الحكومة المكلف الذي له مستشاره للشؤون الروسية، وبعض علاقات العمل (بيزنس) مع شخصيات روسية، بعضها في مواقع رسمية نافذة، لم يتمكن طوال 16 سنة من بناء علاقة ثقة وطيدة بالروس، خصوصاً أن العلاقة مرت بمحطات عديدة، سواء على صعيد تجربة تسليح الجيش اللبناني بالسلاح والذخائر الروسية أو كيفية التعامل الرسمي اللبناني مع ملف أزمة سوريا (قضية اللاجئين السوريين تحديداً).. وصولاً إلى قضية اللقاح الروسي حيث يسجل دخول لبناني على خط هذا الأمر لإعتبارات سياسية ضيقة، مرورا بقضية المحكمة الدولية الخاصة بلبنان حيث كانت موسكو أول من حذر من أنها لن تخدم لبنان وإستقراره.
لذلك، ندر أن تمر سنة إلا وتكون هناك زيارة حريرية، على الأقل، إلى موسكو التي قررت هذه المرة أن تنزع الدمغة السياسية التي يريد البعض إلصاقها بها، لذلك، كان قرار توجيه دعوات رسمية إلى العديد من الشخصيات اللبنانية التي ستزور العاصمة الروسية خلال الأيام العشرة المقبلة (جبران باسيل، سليمان فرنجية، طلال ارسلان إلخ)، فيما إعتذر رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط، بسبب ظروف كورونا، واعداً بتلبية الزيارة في أقرب فرصة ممكنة.
وعدا عن الإلتباسات التي تسببت بها زيارة الحريري إلى موسكو، وقبلها إجتماعه “غير المريح” بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في دولة الإمارات، فإن زيارة رئيس الحكومة المكلف إلى الفاتيكان غداً، ستكون أيضاً حمالة تفسيرات كثيرة. فماذا يقول أهل الفاتيكان؟
دولة الفاتيكان لم تبدّل “سياسة النفس الطويل” والعمل بصمت وهي تشتهر بالتأني والتعمّق في دراسة ومتابعة اية قضية تطرح امامها. الملف اللبناني حاضر دائماً في الكرسي الرسولي، لكن ليس كما يشتهيه هذا اللبناني أو ذاك، طالما أنه لا يوجد مفهوم موحد للوطنية اللبنانية.
طلب الحريري موعدا عاجلا لزيارة الفاتيكان، غير أن دوائر الكرسي الرسولي حددت الموعد غداً (الخميس في 22 نيسان/ أبريل الجاري)، ووفق البرنامج المعد، فان لقاء رئيس الحكومة المكلف مع البابا فرنسيس سيكون بروتوكولياً، ولن يتجاوز العشر دقائق، وسيكون اللقاء الأبرز مع أمين سرِّ دولة الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين الذي يتابع ملف لبنان شخصياً ويملك الكثير من المعطيات اللبنانية، وليس مستبعداً أن يسمع ضيفه اللبناني كلاماً عالي النبرة منه، على طريقة الكلام الفرنسي والأوروبي الموجه ضد كل الطبقة السياسية في لبنان وأيضاً إلى بعض القيادات الروحية.
ومن الواضح أن لا مبادرة فاتيكانية إزاء لبنان. حتى الزيارة التي كان قد ألمح إليها البابا فرنسيس إلى لبنان، بالتزامن مع الذكرى السنوية الأولى لإنفجار مرفأ بيروت في آب/ أغسطس المقبل، لم تدرج حتى الآن، على برنامج الزيارات البابوية الخارجية، ما يعني أنها لن تحصل على الأرجح. وفي الوقت نفسه، لا دعوة فاتيكانية إلى سينودس جديد لأجل لبنان “لأن سينودسين عقدا ولم يتم تطبيقهما بل اهملهما المسؤولون الدينيون، وبالتالي لن يعطي البابا فرنسيس “credit” (رصيد) للسياسيين اللبنانيين الذين همهم التقاط الصور معه ومحاربة بعضهم البعض بالتلطي وراء هذه الصور.
عود على بدء. الزيارات الخارجية قد تكون مفيدة عندما تكون هناك مؤسسات تعمل في الداخل، لكن إزاء الفوضى التي يشهدها لبنان في السياسة والقضاء والإقتصاد، تصبح بعض الزيارات عبئاً على المسؤولين، لا سيما عندما يبادر المسؤولون الأجانب إلى قول أقسى الكلام بحق قيادات لبنانية تتفرج على بلد فيه كل شيء إلا “الدولة”.
الأكيد أنه ليس ببريق الكاميرات تتألف حكومة في لبنان.