تتطلب الديموقراطية تسويات وتقتضي قبول الآخر، المختلف سياسيًا ومذهبيًا وطائفيًا. لا يستطيع أيٌّ كان فرض رأيه على الآخرين في نظام ديموقراطي، خاصة اذا كان توافقيًا، كما تمارس الديموقراطية في لبنان منذ ايار/ مايو ٢٠٠٨.
جرّب لبنان بعد انتهاء عهد الوصاية السورية في ربيع عام ٢٠٠٥، بدعم خارجي، نظام اكثرية تحكم واقلية تعارض وفشل فشلًا ذريعًا وكاد يعود الى زمن الحرب الأهلية. لا يمكن للنظام اللبناني الحالي المنبثق من إتفاق الطائف الا ان يكون توافقيًا. النظام الاكثري يتطلب تغيير وتجديد النظام بتعديلات اقترحها اتفاق الطائف، وهذا موضوع آخر.
بكلام آخر، اللبنانيون منقسمون حول كل شيء، سياسيًا وطائفيًا ومذهبيًا ومناطقيًا واقتصاديًا ومصرفيًا؛ وحتى على جائحة الكورونا ومن يتحمل مسؤولية الإتيان بها إلى لبنان وكيف نواجهها.
في الواقع، لا يبدو ان المتطلبات الضرورية موجودة لاتفاق القيادات اللبنانية على حكومة تقوم بالاصلاحات المطلوبة سواء من اللبنانيين أو من المؤسسات الدولية والإقليمية. ماذا عن الجو الدولي والعربي في مواجهة أزمة تهدد لبنان بالانهيار الشامل وجعله بلدًا فاشلًا؟
لا الاجواء الداخلية ولا الظروف الدولية والإقليمية تسمح بمساعدة لبنان وشعبه
اعتمدت الطبقة السياسية منذ الاستقلال على التدخل الخارجي لمعالجة وايجاد الحلول لازماتها المستعصية. في عام ١٩٥٨ فرض اتفاق اميركي مصري فؤاد شهاب رئيسًا للجمهورية بترحيب من المتخاصمين؛ في عام ١٩٨٩ فرضت قمة عربية اجتماع نواب لبنان في السعودية وتوافقهم على اتفاق الطائف الذي تضمن سلة اصلاحات جذرية عدلت نظام العام ١٩٤٣ وأفرزت نظامنا الحالي؛ في عام ٢٠٠٨ إستضافت دولة قطر القيادات اللبنانية التي اتفقت على انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة وحدة وطنية.
اليوم، تبدلت الظروف الدولية. كل الدول المعنية تاريخيًا بشؤون لبنان باتت مشغولة بمشاكلها الداخلية، الصحية والاقتصادية والمالية والسياسية. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحده ترك مشاكله الداخلية الكثيرة وزار لبنان مرتين واجتمع بالقيادات السياسية اللبنانية ومد يده لمساعدة اللبنانيين. وبرغم ذلك لم تقتنع تلك القيادات بعقد اجتماع واحد في ما بينها لبحث المشاكل التي تأخذ لبنان الى الانهيار الكامل والشامل. وعندما تأكد ماكرون من فشله في اقناعهم بالعمل معًا على اساس “عفا الله عما مضى”، والمضي بالاصلاحات المطلوبة، ترك وزير خارجيته يقول بالقيادات اللبنانية ما قاله أبو نواس في الخمرة. لم يترك كلمة او عبارة شنيعة لم يرجمهم بها وراح يتعامل معهم بفوقية غير مسبوقة. وللأسف، يدّعي كل منهم ان الكلام الفرنسي موجه للآخرين. يبدو ان المتطوع الوحيد، أي ماكرون، ليس على استعداد لتضييع المزيد من الوقت على مهاترات لا تمت ابدًا الى القضايا الاساسية والمصيرية التي يواجهها لبنان وشعبه.
إذًا، لا الاجواء الداخلية ولا الظروف الدولية والإقليمية تسمح بمساعدة لبنان وشعبه.
***
إن تجربة لبنان مع النظام المنبثق من الطائف تشير الى ان حالة عدم الاستقرار التي سادت بعد انتهاء الوصاية السورية ستستمر، بغض النظر اذا تشكلت حكومة ام لا، او من هو رئيس الجمهورية او رئيس الحكومة، طالما أن فجوات النظام تسمح للقيادات اللبنانية باستغلالها. كررت في عدة مقالات سابقة من على هذا المنبر ان نظامنا الحالي لم ولن يوفر الاستقرار والطمأنينة والازدهار للبنانيين. ان لبنان بحاجة الى تطبيق كامل لإتفاق الطائف. لكن، هذا موضوع اخر. هذا المقال يعالج فقط الفجوات الدستورية التي تمنع اللبنانيين من التمتع بحياة طبيعية في ظل النظام القائم:
أولًا؛ حكومة تصريف اعمال. عمليًا، لا حكومة منذ تسعة اشهر. لا حكومة تجتمع لاتخاذ القرارات المطلوبة لمعالجة الازمات الصعبة التي اصابت اللبنانيين وجعلت لبنان بلدًا فاشلًا. هذه الفجوة تفرز الفوضى والفقر. لا يمكن لاعمال الدولة ان تتوقف او ان تعمل وزاراتها ودوائرها والمصالح المستقلة فيها من دون قرار او مراقبة فعلية، بانتظار تشكيل حكومة جديدة. ان أعمال الدولة يجب ان لا تتوقف واستمرار العمل الحكومي ضروري لتمكين الدولة من القيام بواجباتها تجاه مواطنيها. ان تسيير امور الدولة يتطلب باستمرار عقد اجتماعات حكومية واتخاذ القرارات المناسبة. لذلك، من الضروري الغاء مصطلح “حكومة تصريف الاعمال”، واعتبار الحكومة (المستقيل) قائمة ومستمرة وفاعلة حتى اصدار مرسوم استقالتها قبيل تشكيل الحكومة العتيدة. لنتعظ من الدول البرلمانية التي لا تسمح دساتيرها بفراغ حكومي.
ليس هناك نظام ديموقراطي في العالم مشابه للنظام اللبناني. لكن يمكن القول ان الدستور اللبناني هو توافقي اكثر مما هو اكثري، ومن ثم تشكيل الحكومة يتطلب تشاورًا عميقًا بين الرئيس المكلف والكتل النيابية، واتفاقًا وثيقًا بين رئيسي الجمهورية والحكومة
ثانيًا؛ الوقت اللازم للاستشارات النيابية الملزمة وتشكيل الحكومة. ثمة تلازم بين هذين هذين البندين او هاتين الفجوتين. ان عدم وجود وقت محدد لاحدهما يسري على الآخر. لذلك، هناك مصلحة لبنانية بامتياز في تحديد الوقت لكل من البندين. مثلا، يُعطى رئيس الجمهورية مهلة عشرة ايام ليقرر موعد بدء الاستشارات ويمكن تمديدها لخمسة ايام بالاتفاق مع رئيس مجلس النواب. ويعطى رئيس الحكومة المكلف ثلاثين يومًا لتشكيل الحكومة ويمكن تمديدها خمسة عشر يومًا بالاتفاق مع رئيس الجمهورية. وبينما هناك حتمية في الاستشارات الملزمة، على الرئيس المكلف ان يعتذر عن التأليف في حال عدم تمكنه من تشكيل الحكومة بعد ٤٥ يومًا من تكليفه. يمكن لمجلس النواب ان يعيد تكليف الرئيس المعتذر من خلال الاستشارات النيابية الملزمة التي تلي اعتذاره.
ثالثًا؛ آلية تشكيل الحكومة. هناك مادتان في دستور عام ١٩٩١ تتعلقان بتشكيل الحكومة:
-المادة ٥٣، البند ٤: يصدر (رئيس الجمهورية) بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء او اقالتهم.
-المادة ٦٤، البند ٢: يجري (رئيس الحكومة) الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها.
الدستور ليس واضحا من ناحية دور كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف في ما يتعلق بتأليف الحكومة. هل يشكل الرئيس المكلف الحكومة ويعرضها على رئيس الجمهورية للموافقة او الرفض؟ هل بإمكان رئيس الجمهورية ان يغير اسماء الوزراء المقترحين؟ هل يختار الاثنان الوزراء معًا؟
لقد بدأ تطبيق إتفاق الطائف فعليًا بعد انتهاء الوصاية السورية عام ٢٠٠٥. اختار رئيس الحكومة المكلف معظم وزراء الحكومة الاولى بعد الانتخابات النيابية، والتي اصبحت بعد استقالة الوزراء الشيعة منها حكومة اكثرية نيابية غير ميثاقية، وانتهت بعد حوالي ثلاث سنوات بحركة ميليشيوية عسكرية. الحكومات التي تلت لقاء الدوحة كانت توافقية بامتياز. إبتداءً من لقاء الدوحة، اصبحت الكتل النيابية المشتركة في الحكومة تختار ممثليها في مجلس الوزراء مع حصة لكل من رئيسي الجمهورية والحكومة.
ليس هناك نظام ديموقراطي في العالم مشابه للنظام اللبناني. لكن يمكن القول ان الدستور اللبناني هو توافقي اكثر مما هو اكثري، ومن ثم تشكيل الحكومة يتطلب تشاورًا عميقًا بين الرئيس المكلف والكتل النيابية، واتفاقًا وثيقًا بين رئيسي الجمهورية والحكومة. ان الانتقال الى نظام ديموقراطي اكثري يتطلب تعديلات جذرية وردت بمعظمها في وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف).
ان احدى النتائج السلبية للحكومات الوفاقية هي ضعف الانتاجية لأن الوزراء فيها يتجادلون ويتخاصمون اكثر مما يعملون ويقررون. بالمقابل، يخشى على حكومات الاكثرية، في بلد كلبنان، تحولها إلى حكومة سلطوية، فتضعف الديموقراطية وربما تكون مصدر إهتزازات داخلية.
وأخيرًا، يجدر التنبيه إلى ان سد الفجوات في النظام الحالي لن يفرز إستقرارًا مثاليًا ولا طمأنينة مطلوبة، لكن لبنان سيكون أكثر إستقرارًا وطمأنينة وإزدهارًا من الخمسة عشر عامًا الماضية.