يقوم الأوروبيون بشكل خاص بالتوسط حتى تعود واشنطن إلى الاتفاق النووى محاولين إيجاد صيغة جامعة تسقط لعبة الشروط والشروط المضادة التى يطرحها الطرفان، والتى هى فى نهاية الأمر سمة طبيعية فى مفاوضات من هذا النوع فى قضية تحمل تأثيرات أساسية فى «المسرح الاستراتيجى الشرق أوسطى».
البعض فى المنطقة يتصور أو يتمنى أو يتخوف من مواقع سياسية مختلفة من أننا أمام احتمالات ثلاثة:
أول هذه الإحتمالات ما صار يسمى بالعودة إلى «نموذج أوباما» أى عودة واشنطن إلى الاتفاق النووى من جديد مع بعض الضمانات التى تريدها وترك «يد إيران حرة» فى المنطقة.
ثانى هذه الاحتمالات، أو التمنيات توخيا للدقة، قوامه أن واشنطن ستصر أو يجب أن تصر على سلة شروط مترابطة تشمل إلى جانب النووى كلا من الصواريخ الباليستية الإيرانية والسياسات التدخلية فى المنطقة أيا كانت عناوينها أو الأطراف التى تقوم بها نيابة عن إيران ولمصلحتها. إنه «نموذج ترامب» وهو مستبعد كما تدل جميع المؤشرات الأمريكية وغيرها.
الاحتمال الثالث وهو المرجح كما تدل العديد من المؤشرات فى المفاوضات وعلى الأرض عبر الرسائل المتبادلة فى سوريا والخليج بشكل خاص، أن انطلاق مسار تسوية الملف النووى يواكبه بشكل خاص موضوع «الدور الإيرانى» فى المنطقة ولو أن هذا المسار ليس بالضرورة بالوتيرة ذاتها. وتدرك الولايات المتحدة أن دول المنطقة الحليفة لها معنية بذلك بشكل أساسى، ويقع فى رأس أولوياتها الأمنية والاستراتيجية بعد تجربة سنوات ست تقريبا منذ التوصل إلى الاتفاق النووى المشار إليه، والحرب الباردة والحروب بالوكالة القائمة بين هذه القوى العربية وإيران فى المنطقة وفى «النقاط الساخنة» بشكل خاص.
إن استمرار هذه الحروب التى أشرنا إليها منهك ومكلف لجميع الأطراف المشاركة بها بشكل أو بآخر. هذا الأمر شجع ويشجع الأطراف الإقليمية المعنية، كما تدل على ذلك بعض المؤشرات التى ما زالت خجولة وفى بداياتها، على ولوج طريق الحوار مع الآخر، الخصم، بغية التوصل إلى تفاهمات أو اتفاقات دون أن يعنى ذلك أن النجاح مضمون، ويحظى ذلك بتشجيع من القوى الدولية برغم اختلاف مصالحها فى المنطقة فى لعبة التنافس القائمة بينها مع وجود تقاطع وتوافق فى المصالح حول حماية الاستقرار الإقليمى.
وللتذكير فإن القوى الدولية الموجودة فى الشرق الأوسط، أيا كانت درجة أو طبيعة انخراطها فى المنطقة، والتى تعمل على إنقاذ الاتفاق النووى، لها علاقات ومصالح مع مختلف القوى والأطراف الإقليمية الفاعلة. ولا تجد هذه القوى مصلحة لها لأن تجر إلى الانحياز لهذا الطرف أو ذاك فيما لو انفجر الصراع فى المنطقة ولو أنها قد تتعاطف مع موقف هذا الطرف أو ذاك فى مسألة معينة.
انطلاق مسار تسوية الملف النووى يواكبه بشكل خاص موضوع «الدور الإيرانى» فى المنطقة ولو أن هذا المسار ليس بالضرورة بالوتيرة ذاتها. وتدرك الولايات المتحدة أن دول المنطقة الحليفة لها معنية بذلك بشكل أساسى، ويقع فى رأس أولوياتها الأمنية والاستراتيجية
من أول مؤشرات هذا التحول على صعيد القوى الإقليمية، والذى ما زال فى بداياته، الخطوات التى اتخذتها وتتخذها تركيا فى إخراج العامل العقائدى الإسلاموى من سياساتها بشكل تدريجى فى إطلاقها لمسار تطبيع علاقاتها مع بعض القوى العربية كشرط أكثر من ضرورى للنجاح فى تحقيق هذا الهدف. كذلك يمكن الإشارة إلى المحادثات أو الاتصالات السعودية الإيرانية وغيرها من اتصالات إيرانية عربية مشابهة، أو عبر أطراف ثالثة، أيا كان مستواها أو طبيعة المسئولية التى يتولاها المشاركون فيها والتصريحات الصادرة عن الطرفين والحاملة لخطاب مختلف عن خطاب الأمس القريب. خطاب يتطلع لتطبيع العلاقات وهذا ما يفترض الاتفاق على أسس وقواعد واضحة لما يجب أن تكون عليه العلاقات الطبيعية. ويحب أن تستند هذه إلى الأعراف والمبادئ والقواعد التى تنظم وترعى عادة العلاقات بين الدول. بقى أن يبلورها هذا الحوار حتى ينجح فى انطلاقته.. وليس ذلك بالأمر السهل بسبب الإرث المستقر والمؤثر بشكل كبير فى التفاعلات الصراعية فى المنطقة وتشابك الداخلى بالخارجى فى هذه الصراعات المختلفة الأوجه والمشارب. ولكن هذا الأمر ليس بالمستحيل إذا ما استقرت القناعة بأن الجميع رابح من تطبيع العلاقات على الأسس والقواعد المشار إليها.
إن الانطلاق الخجول لهذه الحوارات وتبادل الرسائل التطبيعية التى أشير إليها وترجمتها إلى سلوكيات سياسية على أرض الواقع الإقليمى، وهو ما سيحمل دون شك نتائج إيجابية ملموسة فى المنطقة، يمكن أن يؤسس لاحقا لإطلاق عملية تدريجية لحوار عربى تركى إيرانى يهدف لإقامة نظام إقليمى مستقر (شبيه بمسار هلسنكى عام ١٩٧٥). نظام إقليمى يقوم على احترام سيادة الدول الأطراف فيه وحلول منطق التعاون وإدارة الخلاف متى يحصل بين أطرافه وليس التدخل المباشر أو غير المباشر فى شئون الآخر تحت أى مسميات عقائدية أو سياسية، وذلك حسب القواعد الدولية المعروفة، الأمر الذى يسمح بتوفير الأمن والاستقرار والازدهار لجميع دوله. إنه تحدٍ أساسى فى منطقة تعيش جميع أنواع الصراعات والنزاعات وتدفع شعوبها ودولها كلفة باهظة لذلك. فهل تكون القيادات على مستوى هذا التحدى؟
(*) بالتزامن مع “الشروق“