“هندسة الجسد الفلسطيني”.. تطبيع الشعوب مع لغة الإبادة!

جاع أبناء شعبي. بعضهم جاع حدّ النسيان. يَصلون إلى المشافي المتهالكة يشكون من احساس بالتيه – وهنٌ يخشون أنه يمس ذاكرتهم. يذهبون بما تبقى فيهم من حولٍ وقوّة لينقذوا ذاكرتَهم! أما نحن ها هنا ففي تيهِنا ممعنين، نُلهي الذاكرة بما يخفف عنا وطأة ضلوعنا في هذه المذبحة.

في مطلع هذا الشهر، أعلنت الأمم المتحدة أن الوضع الإنساني في غزة قد بلغ “نقطة اللاعودة”. لم يتبقَّ ما يمكن أن يُستجد على هذا القطاع المنهك بأرضه، وشعبه، ودوابه. وفي ضوء ذلك، وقّعت 24 دولة من دول الاتحاد الأوروبي، وهي من الدول الداعمة ماليًا ولوجستياً للإبادة الجماعية الجارية، على عريضةٍ تدعو إلى وقف الحرب في غزة، بدعوى أن “دوامة العنف لن تفيد أحدًا عند هذه المرحلة”.

وقد أُعدّت هذه العريضة مسبقًا – وجمهورها بصراحة ما يزال مجهولًا، فهذه الدول هي الوحيدة القادرة، بموجب البند التاسع من القانون الدولي، على كبح جماح الدولة الصهيونية فعليا، عسكرياً ومالياً إن أرادت. أُعدّت هذه العريضة مسبقًا لتُصدر في هذه اللحظة التاريخية. انها “نقطة اللاعودة”، تفرض نفسها كأمر واقع في قطاع غزة.

***

نجا من كمائن القتل المنصوبة حول ‘مؤسسة غزة الإنسانية’، وتقدّم حاملاً شوالاً من الطحين زنة 50 كلغ. بعد خمسة أشهر من الجوع، شقّ طريقه بين الرمال والركام، حتى وصل إلى منزله في قلب المدينة المنكوبة فرأته تكنولوجيا المعلوماتية العسكرية تهديدًا وجوديًا على بنية النظام الدولي! لم ينجُ من المسيّرة التي استهدفته شخصيًا، لأن هذا الجسد – جسد الرجل الفلسطيني القادر – لا بد وأن يُمحى.

ليس الجسد هنا مجرد ضحية، بل مؤشر ماديّ على الخطر الذي تراه المنظومة الاستعمارية الكولونيالية في “القدرة” – الحول والبأس فالعزيمة، تحديداً في جسد الإنسان الفلسطيني، لا في حركته في لحظة العوز، بل في إرادة البقاء التي ترفدها، لا في انكساره، بل في همّة مسعاه، لا في صرخة استغاثته، بل في واقع صموده المدني المجرّد. هذا الجسد المرفود بوعي جماي متوارث لا بدّ أن ينتهي.

***

الآن، بفعل المجاعة وجغرافيا النزوح وتضخم أعداد المصابين، أعيدت هندسة هذا الجسَد – وفي هذه اللفظة بحر من الأدبيات التي عملت عليها مراكز الاستعمار منذ غزواتها الأولى. بعد ان أُعيد تشكيل هندسة هذا الجسد القادر، واغتيل ما تبقّى من الأجساد الممشوقة – رُغماً عن التجويع والتعطيش الذي تُعانيه – تلك التي شقّت الصحراء رغماً عن شهورٍ من الجوع، لتحمل أكياس الطحين على أكتافها – اغتيلت هذه الأجساد فرديًا وجماعيًا بتكنولوجيا القتل الأوروبية والصينية والأميركية.

لقد بدأت عملية “غربلة” الأجساد عبر خرائط المساعدات الميدانية، التي يسميها الكادر الطبي الفلسطيني بالكمائن البشرية. غربلة تسعى لاغتيال جسد الرجل الفلسطيني القادر، والابقاء على الاجساد الضعيفة لتُواجه المستوى الخامس من المجاعة. هكذا هُندِس الجسد الفلسطيني، ووُضعت معالم واضحة للخريطة البيولوجية لمن سيسميهم التاريخ بـ”الباقين”.

كما ان هذه الهندسة الجسدية للبنية الفلسطينية البيولوجية، ساهمت في الكشف عن “الانتصار الليبرالي الأكبر”: تطبيع شعوب العالم مع ظاهرة الإبادة الجماعية. ومع هذا التطبيع نقول “التأقلم” الرشيق والسريع لمثقفينا الوطنيين مع هذه الإبادة وسرعتهم في تحويلها إلى مصدر رزق وشهرة، إلى حزن لا يعرف في عتمة أساريره سوى خوف الأنا وعنجهيتها في آن.

وهذه أيضًا، يا سادة، “نقطة اللاعودة”.

بهذا، يكون قد أجهز الاتحاد الأوروبي، بريطانيا، والولايات المتحدة على آخر بيئة حاضنة للمقاومة الشعبية ضد الاستعمار. نعم، آخر بيئة حيّة منظمّة (وليسامحنا اهل الأميركيتين والكاريبي وغيرها من بقاع الأرض)! فمقاومات الاستعمار المبعثرة في كافة أرجاء المعمورة لم تصل بعد إلى ما وصلت إليه البنية المركبة للفعل السياسي المقاوم في الحاضر الفلسطيني – على تشرذمه وعلى علاته. لذلك اضطر المجتمع الدولي، بمواليه ومعارضيه على حد سواء، إلى الاجهاز على هذه البيئة، على ذاك الجسَد الشديد.

***

أن تكون معادياً للصهيونية يعني أن تمتلك إطارًا تحليليًا قادراً على فهم الحركة الصهيونية كمنظومة استعمارية فاشية بل كهيكل سلطة يجب تفكيكه لأنه يفتك بالبشرية، فالصهيونية ببعدها المركب تبني مجاهيل جديدة. إنّها بنية تحتاج إلى موقف يتجاوز العاطفة نحو معرفة دقيقة لبنيانها: من يقف خلف تأسيسها، أدواتها الراهنة، شبكات تمويلها، آليات عقابها، تناقضاتها الراهنة مع اقتصادات العالم، وكيفية تأثيرها وتأثُّرها بحركة الأفراد والدول والمنظمات ضمن نظام دولي معولم؟

في مكاتبهم في عمّان، يعيش مسؤولو وكالة “الأونروا” بين الوهم والكذب، متشبثين بأمل “الضغوطات الجدية العالمية” على إسرائيل. هؤلاء الموظفون الأمميون، برواتبهم الفاحشة، ليسوا سوى اثباتاً إضافياً على رأس مال اجتماعي–مالي–أخلاقوي، يُجنى على حساب التحليل الحقيقي لحجم المؤامرة وأبعادها الاقتصادية العميقة. يحاولون التخفيف عن أهلنا في غزة بالكذب الخطابي الممنهج والتغني الأفيونيّ بالقليل من المظاهرات الشعبية الواهنة ضدّ العدوان – أو مع الحق في التعبير عن إدانته للمعتدي وتعاطفه مع المُعتدى عليه، والله ما عدنا نفهم ما هدف تلك الأساطيل الرمزية والتظاهرات الفردانية والمُفتقرة إلى عنصر العجالة والالحاح.

إقرأ على موقع 180  عالم ما بعد حرب غزة.. فُرصٌ وخسائر وفوضى!

لقد تمكّن هذا العالم من التطبيع مع الإبادة، لا بالصمت فحسب بل بتحويل غزة إلى سؤال خلاصٍ شخصي ونرجسيةٍ ذاتية أخلاقوية. فالمتضامن مع فلسطين، يا سادة، ليس أقلّ تورطًا في هذا الاغتيال الجماعي على أرض غزة من ذاك الصامت.

ليس المطلوب مناصرة الضحية، بل المطلوب تحديد معالم الجلاد أو، بدقةٍ أشد، ليس المطلوب إعلان التعاطف مع المقاوم أو بيئته وحسب، بل كشف البنية الكاملة التي جعلت من قرار تصفيته وآليات تنفيذها أمراً واقعاً. قلنا هذا منذ بدايات الإبادة، لكن الليبرالية المتعاطفة أجهضت تلك الفكرة الحيوية، وحرمتها من أي ترجمة حقيقية ملموسة على ارض الواقع.

إن مناصرة الفلسطيني لم تعد فعلاً نافعًا، بل صارت قناعًا لأخلاقيات جوفاء، تستخدمها حتى الحكومات الغربية لتبرّئ نفسها من الواقعة[1]. ما هو مُلحّ الآن هو العداء الصريح والمنهجي للصهيونية، بكل تفاصيلها: بنيتها، أدواتها، مواقعها الموضوعية في صلب النظام الرأسمالي العالمي.

***

أن تكون معادياً للصهيونية يعني أن تمتلك إطارًا تحليليًا قادراً على فهم الحركة الصهيونية كمنظومة استعمارية فاشية – لا فقط كعدو أخلاقي – بل كهيكل سلطة يجب تفكيكه لأنه يفتك بالبشرية، واضعًا مصيرها إلى مجهول جديد – فالصهيونية ببعدها المركب تبني مجاهيل جديدة. إنّها بنية تحتاج إلى موقف يتجاوز العاطفة نحو معرفة دقيقة لبنيانها: من يقف خلف تأسيسها، أدواتها الراهنة، شبكات تمويلها، آليات عقابها، تناقضاتها الراهنة مع اقتصادات العالم، وكيفية تأثيرها وتأثُّرها بحركة الأفراد والدول والمنظمات ضمن نظام دولي معولم؟

الركون إلى الجانب الأخلاقي وحده في الدفاع عن قضايا عادلة لا يُنتج إلا استهلاكاً لنرجسيات فردية وأزمات وجدانية، بينما معاداة الصهيونية كمنهج نقدي، تُحوّل الغضب الشعبي إلى قاعدة مادية لتقويض أدوات السيطرة، وإلى رافعة لاستكمال مشروع المقاومة الشعبية بأقل الخسائر، وضمن فضاء الإمكان.

***

لا بد أن يُبنى الانحياز السياسي للفرد على الاقتصاد السياسي لموقعه: ما هي وظيفته في بنية النظام؟ وما هي المهام التاريخية التي يمكن أن يضطلع بها؟ هذا التحديد ليس لغوًا بل ضرورة استراتيجية، لأن التعاطف الوجداني وحده لا يخلق مقاومة، بينما معاداة الصهيونية وحدها هي القادرة على إنتاج وعي نقيض للهيمنة – مقاومة تتكلم بلغة القوة، وتفكر بلغة التحرير.

التعاطف لا يبني حركة تحررية بل يبني هذا الواقع الذي نحن في ظلماتِه. الانعتاق من سيرورة الاغتيال هذه يكمن في تسمية البُنى، ومواجهة سردياتها لا بالمقالات العلمية وحسب بل بلغة التحريض، وفضح اقتصادها العنيف، وتفكيك الأساطير التي تحرسها من خلال الانتظام الجماعي والقيادات المركزية في المركز الاستعماري. هذا ما غفلت عنه مقاومتنا المعاصرة، تلك كانت خطيئتها الاستراتيجية الوحيدة. وتلك هي مهمتنا ها هنا خارج جغرافيا الاغتيال الجماعي.

***

جاع أبناء شعبي حدّ النسيان.. إذن، دعونا لا ننسى نحن ها هنا، أن بداية هذه الابادة كانت في جنين، وأن بداية الملحمة كانت صرخةً لاسترجاع أسرانا. من منا سيتيقّن من أن النسيان هدف من أهداف الإبادات؟ من منا سيصل بداية الملحمة بحاضرها المفجع؟ هل يجفّ الطوفان عند حناجر أهلنا العطشى، أم يجد لنفسه بقاعًا أخرى على هذه المعمورة يثأر فيها للخذلان الحاضرِ ويتقدّم فيها نحو الهدف الأوّلِ؟

[1] بيانات الحكومتين النمساوية والبريطانية والحزب الشيوعي النمساوي نموذجًا على الالتفافة الأخلاقية عند المرحلة الخامسة من الابادة في محاولة لتبرئة الكيانات السياسية الغربية من دورها المباشر في الإبادة

Print Friendly, PDF & Email
مايا نشأت زبداوي

باحثة فلسطينية، لبنان

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  البربرية الجديدة.. إنسان آليٌ وَعيهُ عَدائيٌ