بذل الإسرائيليون جهودًا كبيرة في إحتلالهم لفلسطين لتقويض التحديث البطيء بالفعل للمدن التي تضم اليوم الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني وخصوصًا قطاع غزة. وما نراه اليوم مِن قصف العمارات السكنية ومراكز الخدمات في غزة، هو سياسة من سياسات أوسع لنهب أي رمز ثقافي أو بيروقراطي لفلسطين، وتأتي في إطار إستراتيجية “قتل المُدن” التي إستخدمها بشكل واضح رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون خلال هدم وسط مخيم جنين للاجئين في نيسان/ أبريل 2002، بحجة مُكافحة الإرهاب[1]، لكن الهدف الرئيسي كان هو حرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه الجماعية والفردية والثقافية في الحداثة.
شملت إستراتيجية “قتل المُدن” الصهيونية، بجانب قصف المنازل إلى تدميرها بالجرافات؛ خرق مواسير المياه، والخزانات بشكل ممنهج بإستخدام رصاص القناصة، وتدمير شبكات الصرف الصحي، والحفر الإعتباطي لطرق السير، وأخيرًا قصف شبكات الموبيل والتشويش عليها، وسرقة الأجهزة الإلكترونية، حيث بلغت خسائر قطاع غزة في البنية التحتية في عام 2014 نحو 4 مليارات دولار على أقل تقدير، فيما راحت تقديرات أكثر شمولًا لتقدير الخسائر بـ 7.5 مليار دولار[2]. (وكانت الحرب الإسرائيلية قد دمرت خلال 7 أسابيع فقط أكثر من 80 ألف منزل كلياً أو جزئياً)[3].
لا يكتفي الكيان المُحتل بالتدمير فقط بل يقوم بالتوازي بإعاقة محاولات إعادة الإعمار وإزالة الذخائر غير المنفجرة، وأبرز أليات الإعاقة تكمن في إستخدام الكيان لمؤسسات الأمم المتحدة للسيطرة على مواد البناء، حيث يتم دخول الإسمنت المخصّص لقطاع غزّة عبر المنظومة التي تم إنشاؤها بطلب من إسرائيل تحت رقابة الأمم المتّحدة. وقد تمت إقامة هذه المنظومة المعقّدة لتمكين إسرائيل من مراقبة استخدامات موادّ البناء. لتصبح نسبة 87 بالمئة من مجمل الإسمنت الدّاخل إلى غزّة عن طريق إسرائيل[4]، وهو ما يسمح لها في فترات كثيرة لحظر دخول الأسمنت بدون أسباب ولفترات طويلة.[5]
كشف شارون عن الفلسفة الكامنة وراء قتل المدينة بواسطة الجرفات في مقابلة مع “هآرتس” في 26 كانون الثاني (يناير) 2001. عندما سئل عما سيفعله إزاء استمرار مقاومة الفلسطينيين للمستوطنات اليهودية، أجاب: “سأقضي على صف أول من بيوت قرى المقاومين”. سئل: وإذا استمرت المقاومة؟ أجاب: سوف أقضي على الصف الثاني من المنازل، وهكذا. اعرف العرب. إنهم لا يتأثرون بالطائرات المروحية والصواريخ. بالنسبة لهم ليس هناك ما هو أهم من منزلهم.[6]
تشير الحرب الحالية إلى تحول عمليات الهدم الإنتقامية إلى التدمير المنهجي والمخطط للمستوطنات المستهدفة بعناية لأسباب سياسية وعسكرية. زعم رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال أفيف كوخافي مؤخرًا أن “الجرافة D-9 [المدرعة] التي تستخدم دائمًا للقيام بالتدمير، هي سلاح استراتيجي هنا”. فبالنظر إلى الشريط الحدودي الذي يفصل غزة عن الأرض الفلسطينية المُحتلة هناك أراضٍ فارغة تمتد على طول 41 كيلومتراً، وبعمق متفاوت بين 300 إلى 1500 متر، وتشكل نحو 17% من مساحة القطاع. وعادة ما يطلق الإسرائيليون على هذه الأراضي مصطلح المناطق مقيدة الوصول، حيث يمنع على سكان القطاع البناء أو السكن أو إقامة أي مشاريع فيها على أن تبقى مفتوحة أمام الجيش لأسبابٍ أمنية. وبعد التصعيد العسكري الإسرائيلي على القطاع عام 2014، عبّدت المقاومة الفلسطينية شارعاً على بعد أمتار من المنطقة (يعد أقرب نقطة للحدود) على طول الشريط الفاصل، وبعمق 250 متراً تقريباً، ليتمركز فيه عناصرها في نقاط رصد وأبراج مراقبة، ويكون آخر نقطة محددة يمنع على المواطنين تجاوزها. وبعد استقرار الأوضاع الأمنية، تمكنت فرق اللجنة الدولية للصليب الأحمر من إتاحة جزء من هذه الأراضي للمزارعين، وعملت على تنظيفها من مخلفات الذخائر غير المنفجرة لتكون صالحة للزراعة. لكن الآليات العسكرية الإسرائيلية نفذت تجريفاً لأراضٍ داخل قطاع غزة، على طول الشريط الحدودي، بعد ما علقت إشعاراً خاصاً بالمزارعين، متذرعة بأن محاصيلهم تجاوزت المساحة المسموح بها في المنطقة مقيدة الوصول، من دون إشعار الجهات الحكومية، ولا حتى المنظمات الدولية والمؤسسات الحقوقية العاملة في القطاع بالأمر.[7]
سئل شارون عما سيفعله إزاء استمرار مقاومة الفلسطينيين للمستوطنات اليهودية، أجاب: “سأقضي على صف أول من بيوت قرى المقاومين”. سئل: وإذا استمرت المقاومة؟ أجاب: سوف أقضي على الصف الثاني من المنازل، وهكذا. اعرف العرب. إنهم لا يتأثرون بالطائرات المروحية والصواريخ. بالنسبة لهم ليس هناك ما هو أهم من منزلهم”
العملية التي شرعت إسرائيل فيها أواخر 2020 ليست لإزالة التعديات الزراعية، بل تهدف إلى تعديل الحدود، وهذا ما سيؤثر كثيراً على مساحة القطاع الضيق، الذي يعيش فيه أكثر من مليوني نسمة. تحاول القوات المُحتلة إنشاء فراغات إقصاء (استثناء) إجباري من المساحات والحقوق الجماعية: وهي فراغات لها ملمحان، الأول هو المخيمات المنصوبة في مناطق يصعب الوصول إليها، والثاني هو المناطق المهمشة التي تحدّها الأسوار والجدران أو الأجسام الطرقية (المكونة من طُرُق). يبرَّر الإقصاء بالحالة القانونية المعلقة، ويمارَس في منطقة الحرب أو في الفراغات الرمادية العشوائية التي تمثل علاقات القوة مكانياً والعزلة التي تسبّبها القوات المُحتلة[8].
إن هذا التحول إلى القتل المتعمد للمدن بالجرافة وبالصواريخ هو نتيجة لتعمق العداء بين النخب العسكرية والسياسية اليمينية في الكيان تجاه النمو السكاني والحضري الطبيعي للشعب الفلسطيني. وهم يرون التحضر والنمو الديموغرافي السريع والعفوي للفلسطينيين، داخل أراضي فلسطين على أنه “السلاح[9]” الاستراتيجي الطويل المدى للفلسطينيين في تحويل التوازن الديموغرافي والجيوسياسي والعسكري ضد الكيان المُحتل. يشعر الكيان وقادته العسكريون بالقلق من أن التوسع الحضري الفلسطيني والنمو الديموغرافي – إلى حد كبير غير مخطط وغير مخدوم بشكل جيد بالبنية التحتية – يقوّض الآن قابلية الدولة الصهيونية نفسها للحياة.[10]
ومن هنا جاء التحول إلى الهدم الجماعي كاستراتيجية لدى الكيان مفضلة ومتمثلة في تسهيل إدخال الدبابات إلى أقرب نقاط إشتباك مُحتملة في أي وقت لو حدثت مواجهة شاملة. كانت عمليات الهدم رد فعل وحشي من جانب السياسيين الإسرائيليين والمخططين العسكريين على مقتل جنود الاحتلال الإسرائيلي. لكنها كانت أيضًا ردًا على حقيقة أن العديد من المقاتلين الفلسطينيين لجأوا إلى بيئة مبنية يتحدى وجودها ضمنيًا القدرة العسكرية الكلية المتغطرسة لإسرائيل على كامل المساحة الجيوسياسية لـ”إسرائيل الكبرى المُتخيلة”[11].
عمليات الهدم هذه هي العنصر الأكثر تطرفًا في استراتيجية أوسع قاعدتها إنشاء وتوسعة المستوطنات الإسرائيلية واليهودية ومساحات التنقل التي يُفترض أنها أقل عرضة للهجوم الفلسطيني. وأكثر ما يلفت الانتباه في فلسطين الآن هو العنف الموجه ضد الأرض والتضاريس. وتتكثف هذه العملية الآن مع البناء، الذي بدأ في حزيران/ يونيو 2002 [12]، لبناء سياج ضخم بطول 110 كيلومترات على طول جزء كبير من “الخط الأخضر” لعام 1967 على أراض انتزعت بالقوة من الفلسطينيين. هذا السياج عبارة عن “منطقة عازلة” تمتد لعدة كيلومترات على الجانب الغربي تم هدم كل ما في طريقها حيث دُمِّرت المنازل، واقتُلعت أشجار الزيتون وبساتين البرتقال لتحسين الرؤية الجوية والبرية للآلة العسكرية الإسرائيلية!
تبدو الجرافة/والطائرة/والدبابة لدى الفلسطيني متساوية في الإستخدام، وبرغم كون كلمة جرافة أو طائرة ليست بالضرورة في المخيلة تعني عملًا عسكريًا، لكن في الواقع الذهني لأجيال فلسطينية عربية، فهذه الآلات غير الهجومية جزئيًا تحولت لنذير للعنف الصامت، أي أكثر وحشية من الحرب.
المصادر والمراجع
[1] Bulldozers and Bombs: The Latest Palestinian–Israeli Conflict as Asymmetric Urbicide . Stephen Graham School of Architecture, Planning and Landscape, Newcastle University, Newcastle, UK.
[2]https://www.skynewsarabia.com/business/694341-%D9%85%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%AA%D9%83%D9%84%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%95%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%95%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%B1-%D8%BA%D8%B2%D8%A9
[3]https://www.skynewsarabia.com/business/694341-%D9%85%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%AA%D9%83%D9%84%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%95%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%95%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%B1-%D8%BA%D8%B2%D8%A9
[4] https://gisha.org/ar/updates/3889/
[5] https://al-ain.com/article/israel-gaza-pretext-incendiary-balloons
[6] Bulldozers and Bombs: The Latest Palestinian–Israeli Conflict as Asymmetric Urbicide.Stephen Graham School of Architecture, Planning and Landscape, Newcastle University, Newcastle, UK.
[7]https://www.independentarabia.com/node/179081/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B3%D8%B7/%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84-%D8%AA%D8%AC%D8%B1%D9%8A-%D8%AA%D8%B9%D8%AF%D9%8A%D9%84%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%AD%D8%AF%D9%88%D8%AF%D9%87%D8%A7-%D9%85%D8%B9-%D8%BA%D8%B2%D8%A9
[8]https://www.aljumhuriya.net/ar/content/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%88%D9%81
[9] https://180post.com/archives/15198
[10] https://180post.com/archives/15198
[11] Bulldozers and Bombs: The Latest Palestinian–Israeli Conflict as Asymmetric Urbicide. Stephen Graham School of Architecture, Planning and Landscape, Newcastle University, Newcastle, UK.
[12] Bulldozers and Bombs: The Latest Palestinian–Israeli Conflict as Asymmetric Urbicide. Stephen Graham School of Architecture, Planning and Landscape, Newcastle University, Newcastle,Uk .