وصلتُ، بعد جهدٍ جهيد، إلى حيث كان يقف أنطوان بشارة رئيس الاتّحاد العمّالي العامّ (الراحل). حنّ عليّ قلب مَن عاين إعيائي لاقتحام الحشود الغاضبة. ومن على “منبره”، كان بشارة قد بدأ كلمته مخاطباً المتظاهرين عبر مكبّر صوتٍ مخروطي. إلتصقتُ بالبرميل، ليصبح رأسي على مستوى قدميْه. فصرتُ أشدّ برِجْل بنطاله، لكي يتنبّه لوجودي ويتمهّل بإعلان المواقف. عندها، نظر إليّ وسألني “فيني إبدأ؟”. هززتُ برأسي علامة الموافقة. حدث ذلك سنة 1987. أثناء تلك التظاهرة الشهيرة على خطّ التماس الأشهر على تقاطع المتحف الوطني في العاصمة المقسَّمة. تظاهرة، توّجت أكبر إضرابٍ شهده لبنان ضدّ الحرب الأهليّة واستمرّ لخمسة أيّام.
ترافق ذاك الإضراب، مع تظاهراتٍ شارك فيها حوالي 300 ألف لبناني. جاؤوا من مناطق الانقسام الأهلي، آنذاك، رغم التهديد العسكري لهم. أطبّاء ومحامون ومهندسون ومعلّمون وهيئات أهليّة ونسائيّة وشبابيّة وطالبيّة، نزعوا بأيديهم ورفوشهم المتاريس الترابيّة والعوائق. غنّوا وهتفوا للّقاء والعيش المشترك ووقف الحرب وحقوق العمّال. ما شهدته منطقة المتحف، يومذاك، لا يبارح ذاكرة الكثيرين من اللبنانيّين، بعامّة، والنقابيّين بخاصّة. ومع انتهاء تلك التظاهرة الكبرى، كان قد بوشر بالتخطيط “لاغتيال” الاتّحاد العمّالي العامّ، بشتّى الوسائل والطرق. لماذا؟
أظهرت التظاهرة، وبوضوحٍ شديد، أنّ تحرّكات الاتّحاد العمّالي أمست “المتنفَّس” الأساسي لقوى الصراع، في الجانبيْن، بعدما دخلت الأزمة حال المراوحة. وبعدما انفضح عجزها الكبير في التلاقي. وعليه، تحوّل الاتّحاد العمّالي، في أواخر الثمانينيّات الماضية، إلى “نقطة الجمع” الوحيدة بين اللبنانيّين المشلّعين. وبقي موحَّداً، بالرغم من اختلاف الانتماءات السياسيّة والإيديولوجيّة، للقيادات والاتّحادات النقابيّة. خاض أركانه نضالاتٍ جمّة تحت شعارات موحِّدة للجميع، أيضاً. تولّى نظام “الوصاية السوريّة” إطلاق الشرارة الأولى، في عمليّة “خصي” الاتّحاد العمّالي قبل سحقه. وعاد أصحاب “المشروع النيوليبرالي” في لبنان واستكملوا، على طريقتهم، تدمير الحركة النقابيّة. تفتيتها، بمعنى أدقّ. أمّا التحوّلات الجذريّة الخطيرة، فلقد انطلقت إعتباراً من العام 1992 (غداة إسقاط حكومة عمر كرامي في الشارع).
إعتاد الريّس أن يقولوا له، “إنزلْ يا بشارة”، فينزل. “تحرّك يا أسمر”، فيتحرّك. هي عمليّة كبس أزرار، ببساطة. بالأحرى زرّيْن. “أون” و”أوف”. وعلى هذا المنوال، بتنا نختصر فلسفة وجود الاتّحاد العمّالي العامّ في لبنان!
دُشّنت “عمليّة التغيير”، بتعيين الأمين القطري لـ”حزب البعث العربي الاشتراكي”، آنذاك، عبد الله الأمين وزيراً للعمل. ومنذ الأسابيع الأولى في الوزارة، لم يُخفِ الأمين توجّهاته إزاء الحركة النقابيّة. إذْ خاطب القيادات العمّاليّة في ندوةٍ عُقِدت في مقرّ الجامعة اللبنانيّة قائلاً بصفاقةٍ موصوفة: “إذا لم توافقوا على مشروع الهيكليّة النقابيّة الذي طرحتُه، سأُنشئ اتّحادات ونقابات عمّاليّة لكلّ الطوائف والأحزاب”. إلتقطت القيادات النقابيّة الرسالة، فوراً. فطرْح الوزير البعثي لا يحتمل التأويل. فهو خيَّرهم بين المشي بالعصا وقبول ما “يقترح”، وبين الإجهاز على قرار الحركة النقابيّة ووضع اليد عليها. رفضوا. فكان لعبد الله الأمين ما أراد. بحيث، بوشر بتأسيس الاتّحادات والنقابات، على أساسٍ حزبي وطائفي. وبات تفريخها وتدجينها نهجاً رسميّاً لكلّ الوزراء الذين تعاقبوا على وزارة العمل (باستثناء شربل نحّاس). وبعد؟
نجحت السلطة اللبنانيّة في القضاء على الاتّحاد العمّالي العامّ. سحقت بُنيته التنظيميّة. وجعلت أكثر من ثلثيْ اتّحاداته ونقاباته ورابطاته، نقابات صُوَريّة. وحصرت عمله في تأمين “منصّةٍ شرعيّة” لعصاباتها، كي ينفّذ أجنداتها ومؤامراتها، بغطاءٍ نقابي. وكي يمنع ويقمع أيّ معارضة عمّاليّة فعليّة. وكي يجعل عمّال لبنان مطيّة لأحزاب السلطة وأتباعهم. يستخدمونه غبّ الطلب، لتحقيق مصالح سياسيّة (منظر المرأة المناصرة لتيار المستقبل وهي تدافع بكلّ قواها عن “كرسي سعد الحريري” مثال فاقع على ما نقول). ماذا بعد؟
مات الاتّحاد العمّالي سريريّاً، وقرؤوا الفاتحة عن روحه. لكنّ الأخطر ليس إعدامه بدمٍ بارد، بل في محو كلّ الإنجازات التي حقّقها نضال العمّال والنقابيّين، في القرن الماضي. إذْ أنّ جيل اليوم لا يعرف، أنّ ثمّة حركة نقابيّة في لبنان لديها تاريخٌ عظيم. هم يظنّون، بلا ريب، أنّ العمل النقابي هو على شاكلة بشارة الأسمر ومَن سبقه في رئاسة الاتّحاد منذ 1992. أي، أولئك الرجال الذين لو كانوا من صنف القيادات التي تستطيع (تتجرّأ؟) أن تناضل من أجل العمّال، لما جيء بهم من الأساس! فالسلطة، تريد في كلّ المواقع الحسّاسة أن تضع دمى متحرّكة. تتقمّص أدواراً في مسرحيّاتٍ تُعرَف بإسم “عروض العرائس” (سأخصّص مقالة عن دمى السياسة في لبنان). وهذه الدمى، لا تتوجّه في بلدنا للأطفال. بل للكبار. إنّها دمى امتهنت (كمشغّليها) ثقافة الاستثمار في الانهيار. فباتت تحاضر في العفّة. وفي الغضب. وفي الكرامة. وفي المقبول والمرفوض. وتعطي “وصفاتها” للأدوار المطلوبة من الشعب. بينما هي تتفرّغ للأدوار المشبوهة. فالتظاهرات الأخيرة التي دعا إليها الاتّحاد العمّالي العامّ، لا يمكن قراءتها إلاّ بسوء نيّة . كيف؟
قبل انفجار انتفاضة 17 تشرين الأوّل/أكتوبر 2019، نظّم قطاع الشباب والطلاّب في الحزب الشيوعي اللبناني تحرّكاً أمام مقرّ الاتّحاد العمّالي العامّ. دخلوا إليه، وعقدوا مؤتمراً صحافيّاً دعوا فيه العمّال والشباب وذوي الدخل المحدود إلى التحرّك من أجل حقوقهم. وفي هذا المؤتمر، شنّ الشبّان الشيوعيّون هجوماً عنيفاً على بشارة الأسمر. حمّلوا اتّحاده مسؤوليّة صمته وخذلانه للطبقة العاملة. دانوا ارتهانه للسلطة وأحزابها. إلى حدّ النطق باسم مصالحها في مواجهة مصالح وحقوق العمّال والمستخدمين والأجراء، في القطاعيْن العامّ والخاصّ.
نجحت السلطة اللبنانيّة في القضاء على الاتّحاد العمّالي العامّ. سحقت بُنيته التنظيميّة. وجعلت أكثر من ثلثيْ اتّحاداته ونقاباته ورابطاته، نقابات صُوَريّة. وحصرت عمله في تأمين “منصّةٍ شرعيّة” لعصاباتها، كي ينفّذ أجنداتها ومؤامراتها، بغطاءٍ نقابي
وعندما سأل أحد الصحافييّن الغربيّين باستهجان الأسمر عن سبب غياب الاتّحاد عن تظاهرات 17 تشرين، أجابه الأخير بالحرف: “نحن لم نُدْعَ رسميّاً للمشاركة..”! إذاً، كان الرجل ينتظر دعوةً لكي ينزل إلى الأرض الملتهبة بمطالب الناس والعمّال. تماماً، مثلما ينتظر المرء دعوةً إلى زفاف أو ندوة أو مؤتمر. وربّما لم يكن هذا ما قصده رئيس الاتّحاد العمّالي. كونه ينشط، تبعاً لردّ الفعل الشَرْطي. إعتاد الريّس أن يقولوا له، “إنزلْ يا بشارة”، فينزل. “تحرّك يا أسمر”، فيتحرّك. هي عمليّة كبس أزرار، ببساطة. بالأحرى زرّيْن. “أون” و”أوف”. وعلى هذا المنوال، بتنا نختصر فلسفة وجود الاتّحاد العمّالي العامّ في لبنان!
دعوة يوم الخميس الفائت للتحرّك والتظاهر كانت مشبوهة. فمَن تغيّب عن التظاهرات الجرّارة في زمن الثورة، كيف تُفهَم تظاهرته اليوم؟ إذْ إنّ كلّ ما يعانيه لبنان اقتصاديّاً وماليّاً واجتماعيّاً منذ سنوات، وتحديداً منذ ثمانية عشر شهراً، لم تزحزح الريّس بشارة الأسمر واتّحاده. لم يروا في زحف العمّال التشريني موجباً للانضمام إليهم أو تبنّي تحرّكاتهم! لكن، عندما فتح رئيس مجلس النواب “الردّيّة” في حفلة الزجل الحكومي، قرّر السيّد بشارة “إعلاء الصوت” للتعجيل بتشكيل “حكومة إنقاذ”. أي، لكي يرعوي الضالّون، هدّد زعيم ميليشيا الاتّحاد العمّالي ومَن وراءه، بالشارع (الدور المشبوه إيّاه). وما كاد يلوّح بغضبه الساطع الذي سيمرّ على أحزان الناس، حتّى هُرعت أحزاب السلطة لتلبّي النداء. وقد ردّ الأسمر لها التحيّة، بأن شكرها على تأييد الإضراب! أيُعقل؟ نعم وهذا ما حصل.
فكما يحاول البحّارة التماسك لتلافي الغرق، تنادت أحزاب السلطة إلى المشاركة في الإضراب والاحتجاجات قبل وصول الدعوة الرسميّة إليهم. تنادى للالتحاق بالجبهة، كلّ الشركاء والمذنبين والمرتكبين والمسؤولين عن خراب البلد وخرابنا. اصطفّوا كلّهم يعني كلّهم. بدءًا بالعرّابيْن، “حركة أمل” و”تيار المستقبل”. مروراً بسائر الأحزاب والقوى. وصولاً إلى سائر الخصوم. حتّى الأخوة كارامازوف (الأعداء) تحسّسوا مصيريّة نداء بشارة الأسمر. حتّى “حزب الوطنيّين الأحرار” بُعِث حيّاً من بين الأموات. أيّد ومن ثمّ انسحب. وفَّى قِسْطه للعُلى ونام (كما يقول الشاعر خليل مطران).
صارت البيانات تتطاير، يمنة ويسرة. وكادت أن ترفع شعارات الثورة ضدّ الشعب. أَوَليس هذا الشعب العظيم هو المسؤول عن عرقلة تشكيل حكومة سعد الحريري وعن سياسات الانهيار؟ بلى وربّ البيت. كان المشهد سورياليّاً. مثيراً للضحك والبكاء، في آن. سرت “الهاشتاغات” الساخرة من السلطة المنتفضة على نفسها. انتشرت التعليقات المتعجّبة “مَن يتظاهر ضدّ مَن”؟ المتسائلة عن الأهداف؟ عن المطلوب “سياسيّاً” من تحرّك الاتّحاد العمّالي؟ لما ينتفضون؟ هل يتلهّون بنا؟ أم إنّهم أرادوا تفجير الشارع تسريعاً لملء قاعة مجلس الوزراء القاحلة؟
كان المشهد هزليّاً. كمَن يدور في حلقةٍ مفرغة. تماماً مثل هذه الأقصوصة: “تسلّل الذئب فصاح الديك فنبح الكلب فانتبه الراعي فقام الأهل ففرّ الذئب فنجا القطيع فاطمأنّ الراعي فاستلقى الكلب فاحتفل الأهل فذبحوا الديك”! هل نجح إضراب السلطة فذبحوا له الديوك؟ كم جميلٌ ومفرحٌ ومنعشٌ للقلوب الحزينة أنّ الجواب هو كلاااااااا. لم يكن يوم الغضب غاضباً. ولا يوم الحشد حاشداً. ولم تأتِ الأعداد الهائلة المدعوّة إلى الموعد. ولم تلبِّ جماهير السلطة الدعوة. ولا الجماهير الأخرى، بطبيعة الحال. إلتزم الناس بيوتهم، كالعادة، منذ قمع الثورة. عرفوا بحدسهم، أنّ الإضراب هو لتصفية الحسابات. تمتّعوا بمشاهدة بضعة أنفار يتظاهرون في مقرّ الاتّحاد، حصراً. دولاب مشتعل هنا. وقطع طريق خاطف هناك. لم يكن ينقص نهاية مسرحيّة التحرّكات الهزليّة، إلاّ أن يقترح الريّس بشارة الأسمر وضع أكاليل الزهور على الضريح اللبناني. الله ستر!
كلمة أخيرة. عندما انتهت تظاهرة الاتّحاد العمّالي العامّ على المتحف في 1987، إنكفأ بعدها المتظاهرون، شرقاً وغرباً، وعادوا من حيث قَدِموا. رجعوا إلى مناطقهم التي قسّمتها حروبنا الأهليّة. لكنّهم، بمعظمهم، بكوا. لا أنسى هذا المشهد ما حييت. بدوري، لملمتُ نفسي ودموعي وعدتُ إلى مبنى الإذاعة. عندما وصلت، استقبلتني ضحكات زملائي ونكاتهم. إحداهم قالت لي وهي تقهقه: “شو يا وفاء.. سمعنا إنّو شلّحتيه بنطلونو لأنطوان بشارة؟!”. إبتسمت، وباشرت بكتابة تقريري. إقتضى الصمت وعدم التعليق.