في خاطري كلام عاطفي لست معتاداً عليه. نعم أغار على بيروت من أقداح تقبل ثغرها بفمٍ متبسمٍ وآخر متجهمٍ. لقد زيّن الحُسن وجه مدينة ليس لها مثيلاً بين عرب وأعجم. لن تقتلوها وإن ظفرتم بتفجيرها وتفقيرها، لأن بيروت تشفي النفس قبل التندم. هي، لو يتذكر أهلها، وجه الجمال لأنطاكيا وسائر المشرق.
بحثت عن كلام أصف فيه مدينة بيروت ولم أجد غير الجمال في خاطري. بالرغم من كل ما تمر به هذه المدينة الساحرة، وبالرغم من مرور الذكرى الأولى لحادثة تفجير مرفأها، يبقى الجمال علامتها الفارقة. لست من أصحاب الكلام المغمغم كما يقول الشاعر، إلا أن الجمال يأبى أن يؤتى ذكره من دون مشاعر الحب والشوق الغارم. الجمال يأبى أن نتحدث عن بيروت من دون كلام شاعري.
بالإذن منكَ يا من حكمتَ الشامَ يوماً. بالإذن منك يا يزيد بن معاوية الأموي استعير قصيدتك، فأنا أصابني عشقٌ ورميت بسهم فما هذه إلا سجية مغرم.
إذا أردت التعرف على سر جمال هذه المدينة، إليك بهذه الخارطة التي تقودك إلى راس بيروت وتحديداً شارع الحمراء. فما أن تنحدر من تلة الخياط ماراً بشارع فردان حتى تجد أمامك بقعة ضوء تشع جمالاً عربياً شرقياً أصيلاً. وإن جئتها من ناحية البحر سالكاً طريق الكورنيش، تجد أمواج البحر الأبيض المتوسط تستريح على البر حاملة هواء غربياً محبباً. لم يكن السيد دانيال بلس مخطئاً حين قرر إنشاء كليته التبشيرية على بقعة تطل على البحر وعلى جبل صنين من الزاوية نفسها. هو كان يعرف شخصية هذه الأرض الولاّدة.
بيروت مدينة صُنعت مرتين. مرة من فوق بكنائسها ومساجدها. ومرة من تحت، بجسارتها ومقاومتها وبساطتها وغناها. من قال إن بيروت هي من صنع الزعيم؟ إسألوا عنها قبضايات الفكر العربي. رواد الفكر في منطقتنا الذين تخرجوا من مدرسة ست الدنيا
بقعة ذهبية تختصر المعارض التشكيلية كلها. راس بيروت أو المدينة داخل المدينة. المنطقة التي تضع العالم بين كفيك. كوزموبوليتانية بنكهة لبنانية. تجمع الشرق والغرب. النار والماء. البحر والجبل. الإيمان والعلم. خصيصة لمدينة لا يضاهيها أحد في المشرق مجتمعاً. وإذا ما اتصلت في مشوارك بقلبها الدفّاق، شارع الحمراء، ستجد ما لذ وطاب كأنك أمام نهر يغذي المدينة. يفيض الشارع بكل ما يحمله من إبداع. من بائع الصحف الذي صار قارئاً ومُنظراً إلى صانع الشطائر والمعجنات الذي يتقن فن البيع في سوق متفلت. تجد في هذا الشارع المسارح والمطاعم. المقهى الشعبي وزوايا المثقفين. فقراء يتسولون. تجار ذهب وعملات. لاجئون من جنسيات مختلفة. أطباء ورجال أعمال. مجتمع يرقص على رؤوس الثعابين بسبب سوء الأحوال الاقتصادية السرمدية. تجد الصحافيين والفنانين. الهادئين والمتعبين. ثوار تغييريون، واقعيون مستسلمون. رواد شارع يبحثون عن طعم ما للحياة. متناقضون نعم. جنسيات وطوائف وقوميات متعددة نعم. هذه هي محلة رأس بيروت بأبراجها المستجدة وبيوتها الحجرية القديمة. مدارسها الحديثة وجامعاتها الغزيرة. مستشفياتها. متاجرها. أرصفتها. سياراتها الفارهة ودراجات عاملي توصيل الوجبات السريعة.
سبحان من خلق مدينة سكنها البشر والحجر. أقول سكنها لأن حجرها إنسان يتكلم سياسة ويتنفس حرية ويرقص إذا حان وقت الاحتفال. هذه مدينة نادرة من بين المدن. هي مدينة صُنعت مرتين. مرة من فوق بكنائسها ومساجدها، ومرة من تحت، بجسارتها ومقاومتها وبساطتها وغناها. من قال إن بيروت هي من صنع الزعيم؟ إسألوا عنها قبضايات الفكر العربي. رواد الفكر في منطقتنا الذين تخرجوا من مدرسة ست الدنيا. راجعوا التاريخ، أي تاريخ تشتهون، لا بد من المرور من شارع الحمراء وكل محلة رأس بيروت.
يا أهل بيروت اتكلوا على حجارتكم. ابنوا مدينتكم كما فعل أجدادكم. لا تسمعوا لكل مغرض ينثر الدنانير المذهبة ولا إلى كل همزة لمزة يحسب أن ماله خلّده.
في الذكرى الأولى لتفجير بيروت وتفقيرها أرفض إلا أن أكون إيجابياً.
بالرغم من كل شيء ثقتي بك يا بيروت كبيرة.
ثقتي أن بيروت تمرض ولا تموت.
إحذروا يا عرب، إذا ماتت بيروت مات التاريخ. مات المستقبل. تبدّد الجمال. من يريد أن يُدفَن معنى أنطاكيا وسائر المشرق؟