حتى لا تكون نهاية ثورة

المسألة ليست عابرة إنما بنيوية، وترتبط وثيقاً بالاجتماع اللبناني، بالمدرسة، بالتربية، بالمنزل، بالام المربية، بالكاهن والشيخ، بالمؤمن والملحد؛ المسألة ليست عابرة بالتأكيد، انما بنيوية في العمق.

ترددتُ كثيراً قبل أن أكتب. هل تكال الإتهامات لي بالردة أنا التي نزلت إلى الثورة منذ ساعاتها الأولى. قررت أن أكتب وأن أعبر. الثورة هي حرية وتحرر للذات قبل أن نحرر الآخرين. هذه الثورة ذات منطلقات كبتية آتية من وحي الجوع والفقر والعوز والفشل والفساد والفرص والأحلام الضائعة. نعم، هي ذاتها الثورة التي ضمت في صفوفها كباراً وصغاراً يتعطشون لوطن لا يجبرهم على حجز تذاكر سفر وشراء جنسيات. ثورة ضمت جمهورا من الأبرياء والسذج والطامحين والحالمين، لكنها ضمت أيضاً المستغلّ والمصلحجي والوصولي وصاحب المال والاقطاعي المقنع، والفتى/الفتاة المثقف/ة المسطح/ة الباحث/ة بل اللاهث/ة الى دور قيادي، وبأي ثمن.

قلنا “كلن يعني كلن”. رفضية شرسة لانتروبولوجيا اجتماعية. رفضية تدين الجميع حتى الآباء والأمهات ممن علمونا دائماً أن الثورة في لبنان مستحيلة وعلينا أن نتعايش مع نظام أبوي طائفي سياسي متجذر. قبل الثورة، كنا أسرى وأسيرات شاشات عقيمة تفلح رؤوسنا بالاوهام وتكدس واقعنا باحلام ما تلبث ان تتحول الى كوابيس لما فيها من اللاواقع. بعد الثورة، صرنا أسرى أوهام من نوع آخر. فتاة ترغب في ان تكون وزيرة، لانها جميلة وتحسن رمي بضعة كلمات منمقات والباقي.. لا شيء. فتىً يريد ان يترشح الى النيابة لانه يملك المال واشترى بعض الاغراض والخيم للثوار في زمن الثورة، واصبح لديه عدد وافر من المتابعين الافتراضيين، فصار يدعو بنفسه ومن تلقاء ذاته الى تجمعات ثورية ويقف أمام المرآة، قائداً خارجاً من الكتب القديمة، مع ما تيسر من صور الـselfie  والجماهير وراءه ولو هتفت.. لأمرٍ آخر أو موال مختلف.

انه زمن عشوائية الأدرينالين، الذي يرتفع في الدم ولكن لا نعرف الى اين يوجهنا وكيف. انه زمن الرفض العبثي لكل ما هو قديم ومنظم ولو كان في السياق البنّاء، فليُهدم.

ارضاء الشارع وترضيته، ينتهي عادةً بتحويل القادة السياسيين غير الناضجين فكراً وخبرة الى مقودين، وبتحويل الجماهير الى ما يشبه فتيان أو فتيات هوى، يأخذهم قادة رأي استحالوا “قوادين” الى حيث لا يريدون وحيث حتماً… يندمون

تدريجياً، بدأت أشعر أننا ننزلق إلى فوضى وغير بنّاءة، تحت عناوين وشعارات فضفاضة. تماماً كما اتانا سابقاً، عنوان مكافحة الارهاب لكي يمسي كل خصم ارهابي، ويصبح اليوم كل خصمٍ فاسد ولا قضاء ولا عدالة ولا من يعدلون، بل هي محاكم الجماهير الافتراضية والتي تحسن الغُرف الخلفية لبعض استراتيجيات القرار (كما زمن البدايات الاولى للدعاية الصهيونية) تحسن هذه الغرف استخدامها، وتتقن توظيف هذا الكم من الخفة حتى لا نقول “الهبل” لصناعة شيء آخر ولو على حساب الاشياء كلها وفيها من دون ادنى شك، كل الحسابات الا حساباتنا نحن الطيبون الحالمون والباحثون… عن وطن.

يوم 6/6 نحن كنا لنشتهيه شيئاً بينما أراده سارقوه شيئاً مختلفاً. وحاولوا جاهدين عبر المال والدعاية ان يخلقوا له المناخ المناسب، إلى أن جاء برياحاتٍ مختلفات، لان ارضاء الشارع وترضيته، ينتهي عادةً بتحويل القادة السياسيين غير الناضجين فكراً وخبرة الى مقودين، وبتحويل الجماهير الى ما يشبه فتيان أو فتيات هوى، يأخذهم قادة رأي استحالوا “قوادين” الى حيث لا يريدون وحيث حتماً… يندمون.

احزاب عريقة سقطت في التجربة فزادت على تراجعها تقهقراً، تماماً كحزب الكتائب الذي يحاول ان ينقي ماضيه وينتقي منه ما يناسب القيادة الحالية في لعبة هزيلة تقول للشارع وقواديه نحن منكم ونحن لكم، فما كان من 6/6 الا ان دمرت الصورة وهشّمت الحضور على هشاشته. ام احزاب مستحدثة لا تعرف ماذا تريد وليس لها عقيدة او هوية كحزب سبعة (7) لكن لديها المال وتعرف ما لا تريد ولا تريده الجماهير، وكان يوم 6/6 يوم نهايتها. او زد حزب الكتلة الوطنية بطبعته الجديدة، والباحث عن مكان اوسع من بيت الكتلة المباع من عميد لا يعتمد عليه في الجميزة، وله الشعار الفارغ والتجييش المضطرب، والناس في وادٍ آخر. او قل عن العميد المتقاعد والنائب الكسرواني شامل روكز الذي يحفر خطوة ويتراجع خطوات ويخطو كما الموظف الطائش الذي يحتسي ما لذّ من القهوة المرة، بانتظار جرس الدوام. او قل جماعات الثوار الراسماليين من “كلنا ارادة” الى “خط احمر” وما بينهما من ثأريين واصحاب ثروات تنقصهم سلطة يبحثون عنها على ظهر ثورتنا… وللقناصل إن تكلموا، أن يكشفوا لنا أولئك المتطوعين المتبرعين على عتبات السفارات، يشحذون تمويلاً بإسم الثورة والثوار.

انها انتروبولوجيا الاجتماع اللبناني الذي يريد ان يحصد من دون ان يزرع، ويريد ان يصل من دون ان يسير، او ان يقاتل بسواعد سواه “ويسقي ارزه” بدماء المساكين.

إقرأ على موقع 180  نظامُنا نهايتنا.. وحُكّامنا جهنّمنا الحمراء

كان والدي يردد قولاً مأثوراً لا أدري من هو صاحبه، لكن خلاصته أن الثورات ينظر لها الفلاسفة وينفذها المجانين ويقطف ثمارها الإنتهازيون.

قد يراق حبرٌ كثير على زمن الوهم النسائي أو الذكوري الذي تلفح رياحه هذا البلد المسكين، حين يسيطر الاغنى باسم الثورة على الاكفأ، وتتبختر الاجمل باسم الثورة على الاشرف، وترقص صاحبة الارقام الاعلى في حساباتها الافتراضية طرباً لذكائها المتقد (غير الموجود أصلاً) على حساب الفتاة الأعرف والأشطر والأرصن.

الثورة لن تنتهي، لكن لا بد من الغربال، مهما طال السفر.

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  السياسة الخارجية اللبنانية.. ولّى الزمن الذهبي