600 أم 2750 طنًا من نيترات الأمونيوم في المرفأ؟

لم يعتقد أحد للحظة أنه بعد مرور سّنة على انفجار مرفأ بيروت، سيكون النقاش عالقاً في مربع كميّة مادة نيترات الأمونيوم التي انفجرت وهل حقًا لم تنفجر كلّ الكميّة التي أنزلت في المرفأ؟ وإن لم تنفجر.. أين هي، وهل كانت موجودة أصلًا؟.

حتى لحظة كتابة هذه السّطور، لم تُنشر التقارير التقنية التي تتكلّم عمّا حدث يوم الرابع من آب/أغسطس 2020 وتحديدًا من السّاعة 02:15 بعد الظهر (انتهاء عمليات التلحيم) وحتى السّاعة 06:08 (الانفجار)، ولكن لا تعنينا شخصيًا الخلفيات السّياسية لعدم نشر هذه النصوص الأساسية والجوهرية في إظهار حقيقة ما جرى، وعليه للأمانة العلمية سنحاول الإجابة على ما سبق من أسئلة.

أين ذهبت باقي كمية النيترات؟

عند التفكير بالأمر في اللحظات الأولى يمكن التساؤل لماذا لم تنفجر كلّ الكميّة، فالمقدّر بحسب التقرير العسكري اللبناني أنّ ما انفجر هو حوالي الـ 600 طن من نيترات الأمونيوم من أصل 2750 طنًا، أين الكميّة الباقية إذًا؟ من هنا سندخل في فرضيات البحث:

  1. ما كان موجودًا في العنبر رقم 12 هو 600 طن فقط.
  2. الكمية الموجودة هي أكثر بكثير من 600 طن ولكنها لم تنفجر كلّها.

للأسف لا يمكننا إثبات أو نفي الفرضية الأولى، فهي بحاجة إلى تحليل جنائي تتولاه الأجهزة الأمنية المعنية بأمن المرفأ ومحتوياته، ولكن هذا لا يعني أبدًا استحالة البحث بالفرضية الثانية.

ما جرى في العنبر رقم 12 طوال سبع سنوات هو تحول كيميائي حيث تم خزن النيترات مع كلّ المواد المصادرة الأخرى القابلة للاشتعال والتي تتبخر بطبيعة الحال، وعليه وخلال هذه المدّة الزمنية كانت القنبلة تتحضر بانتظار الظرف الملائم

أما بالنسبة للفرضية الثانية:

المواد في العنبر رقم 12 موجودة منذ حوالي سبع سنوات قبل الانفجار وهذا أدى بطبيعة الحال إلى تلف جزء كبير منها وتحلّله. يُعزّز ذلك ما ورد من شهادات في الإعلام تكلّمت عن رائحة غريبة (رائحة النشادر أو ما يعرف بالأمونيا وهي رائحة مشابهة لرائحة صبغات الشعر) تفوح من المكان، ما يعني بالتالي أنّ المادة كانت تتحلّل قبل مدّة طويلة من تاريخ الرابع من آب/أغسطس، فمادة نيترات الأمونيوم لا تعتبر مادة مستقرة مع مرور الزمن. ستصبح غير قابلة للاستعمال خلال 6 أشهر من تاريخ تصنيعها فأي خبير كيميائي (أو حتى طالب في السنة الثالثة من الاختصاص) يدرك أنّ هذه المادة بالتحديد ستمتص كلّ ما يحيط بها من أبخرة وتتحول من حالة لأخرى ما يدفعها أكثر وأكثر نحو عدم الاستقرار.

إذًا ما جرى في العنبر رقم 12 طوال سبع سنوات هو تحول كيميائي حيث تم خزن النيترات مع كلّ المواد المصادرة الأخرى القابلة للاشتعال والتي تتبخر بطبيعة الحال، وعليه وخلال هذه المدّة الزمنية كانت القنبلة تتحضر بانتظار الظرف الملائم إذ يمكن القول هنا أنّ توضيب المواد في العنبر رقم 12 دائمًا بحسب التقارير الإعلاميّة لا دخل له أبدًا بالمواصفات الحاكمة بالتعامل مع المواد الكيميائية.

أمّا بعد اشتعال النيران، فلا يمكن الجزم أبداً بأنها طالت كل أجزاء العنبر (دائماً بحسب المشاهد الواردة من التسجيلات قبل الانفجار) كي نصل لانفجار يطال كل المواد الموجودة بالداخل، بل يمكن التحليل أن هناك كمية ليست بقليلة دخلت بسبب النيران والامتزاج مع الأبخرة بالحالة الحرجة التي ستؤدي الى التفكك السريع وتاليًا الانفجار.

وعليه، فماذا جرى إذًا بالكمية المتبقية من النيترات بعيدًا عن جناية سرقة المواد؟

لحظة الانفجار لم تصل كل كميات نيترات الأمونيوم للحالة الحرجة للتفكك السريع. انفجار حوالي 600 طن سبّب تناثر الكمية المتبقية مع عصف الانفجار الضخم وتحولت إلى غبار قد يكون وصل إلى كل زاوية ضربها العصف الانفجاري، وهذا ما كان يمكن التحقق منه في السّاعات الأولى بعد الكارثة من خلال مسح ميداني للتأكد من وجود هذه المواد، وهو أمر يسير كيميائيًا ومتاح في لبنان لناحية المختبرات والخبراء.

بين انفجار بيروت وتاريخ انفجارات نيترات الأمونيوم عالميًا

أمّا إذا قررنا السّير بمنهج المقارنة، فانفجار مرفأ بيروت لم يكن أولها بل جرت أمور مشابهة أدت لانفجارات أشد كما حصل في ميناء تكساس الأميركي عام 1947 أو مصنع AZF في تولوز بفرنسا عام 2001 وغيرهما كما يظهر في الرسم البياني أدناه حول كميات نيترات الأمونيوم (بالأطنان) المشتبه في انفجارها في عدد من المدن العالمية:

لماذا تكساس وتولوز؟

في انفجار السّفينة الفرنسية غراند كامب في مرفأ مدينة تكساس حصلت يومها الكارثة الصناعية الأكبر في التاريخ الأميركي، بسبب انفجار كمية نيترات الأمونيوم كلّها الموجودة على السفينة وذلك لسبب أساسي ألا وهو قيام القبطان بإغلاق عنابر السّفينة وضغطها ببخار الماء في محاولة منه لإطفاء النيران ولكن هذا الأمر أدى لرفع الضغط والحرارة ما دفع بكميّة النيترات الى التفاعل بأكملها والانفجار متسببة يومها بسلسلة انفجارات في المرفأ وفي المدينة أدّت إلى مقتل أكثر من 500 شخص.

الطريقة المعتمدة اليوم في توجيه السؤال أين بقية النيترات مع إهمال فرضية التلف والتناثر لم تعد تخدم شفافية التحقيق بل تصبح موجهة في اتجاه واحد سيّما لبنانيًا دون الغوص أكثر في تفاصيل سياسية بعيدة عن كيمياء الانفجار

أمّا في تولوز الفرنسية، فبعد أن كان الاتهام سياسيًا لمواطن من أصول عربية كون التفجير حصل بعد أيام قليلة من هجمات 11 أيلول/سبتمبر، استبعد المحققون في ما بعد هذه الفرضيّة نهائيًا بعد اكتشاف توصيلات كهربائية تالفة بسبب المواد الكيميائية الموجودة في المستودع ما أدى لاشتعال النيران وزاد الطين بلة وجود مواد ملتهبة مجاورة للنيترات، ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ التحقيق الفرنسي لم يتوصل إلى رواية دقيقة لما جرى يومها بعد تحقيق كلّف ملايين الدولارات واستمر زهاء ثماني سنوات.

إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": حرب غزة تُغيّر الشرق الأوسط.. وتُشعل شرارة التطرف

في الخلاصة:

  1. العنبر رقم 12 لم يكن بيئة مغلقة قد يؤدي تعاظم الضغط فيها إلى انفجار كامل حمولة نيترات الأمونيوم فيها.
  2. وجود فتحات التهوئة (شبابيك) على كامل جدران أدى إلى تخفيف الضغط بشكل كبير، وربما يمكن القول هنا دون الجزم أنّ ما فعله الشهداء من فوج إطفاء بيروت قد ساهم في تخفيف الضغط أيضًا بعد فتح كوة في باب العنبر.
  3. بحسب الصور التي ظهرت على الإعلام بعد الانفجار يبدو واضحًا وجود تمديدات كهربائية في العنبر، وحتى الآن لا نعرف إن ساهمت في إشعال النيران الأولى.

أخيرًا، الطريقة المعتمدة اليوم في توجيه السؤال أين بقية النيترات مع إهمال فرضية التلف والتناثر لم تعد تخدم شفافية التحقيق بل تصبح موجهة في اتجاه واحد سيّما لبنانيًا دون الغوص أكثر في تفاصيل سياسية بعيدة عن كيمياء الانفجار وهذا النص ليست وظيفته أن ينفي إحتمال حصول عمليات سرقة ولكن بنفس الوقت وبالظروف  الموجودة في المرفأ (لحسن الحظ)، لا يمكن أن تنفجر كامل الكميّة للأسباب المذكورة أعلاه.

والفكرة الأساسية من كلّ ما ورد سابقًا هي محاولة للدفاع عن علميّة التحقيق وإبعاده عن الزواريب السّياسية فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون الرواية التقنية سياسيّة، وما زلنا حتى اللحظة نبحث عنها، كما نبحث عن تقرير رسمي يُحدد عدد القتلى والجرحى والمفقودين وحجم الوحدات السكنية والتجارية المتضررة!

Print Friendly, PDF & Email
فؤاد إبراهيم بزي

كاتب متخصص في المواضيع العلمية

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  سعد الحريري.. هل يعود مُستقبلاً بغطاء إماراتي؟