4 آب/أغسطس، إختصر أزمنة حياتنا المنكوبة. بعث لنا نكبةً إلتهمت كلّ نكباتنا. وضع رزمة خرائط إنهياراتنا ومآسينا وأزماتنا وخراباتنا وعذاباتنا و.. طيَّ أطنان النيترات في العنبر 12 في مرفأ بيروت. فجّر، خلال ثوانٍ معدودات، مستوعبات ثلاثة عقود من السياسات والتسويات والاتفاقيّات والتفاهمات والمهاترات والصفقات والتواطؤات والمؤامرات والعنتريّات والاعتداءات والاغتصابات والاحتلالات.. التي انتهجتها سلطات تصريف الأعمال في لبنان.
لماذا اعتبرنا كلّ يومٍ في حياتنا 4 آب؟
أوّلاً، لأنّ لجميع اللبنانيّين أحبّاءً قضوا في الانفجار. فكلّنا بتنا من أهالي الضحايا. لبنان كلّه تحوّل إلى مجتمع ضحايا. يحضر هذا التاريخ اليوم، ليجعل من لحظة التفجير تاريخاً ماضياً مجبولاً بالأسى والحزن والخوف والكراهية، في آن. فإحساسنا بوجع “ضحايا المرفأ”، صار يرسم لدينا سيكولوجيا الشعور. فمنذ ذاك اليوم المشؤوم، لم يعد هناك سوى الريح وحبّات من الثلج على القلب. وحزن مثل شوارع بيروت. “فهناك شيءٌ أقوى من الموت. إنّه حضور الموتى في ذاكرة الأحياء”، على حدِّ تعبير الفيلسوف الفرنسي جان دورميسون.
ثانياً، لأنّ ما جرى يومها كان أمراً غير مسبوق. هو أكّد، بالشواهد الحسّيّة، أنّ شعباً في المعمورة لم يُترَك لمصيره، كما تُرِك شعب لبنان. فمعاناته فاقت معاناة كلّ الموجوعين في الدنيا. يحاول أن يصمد، بما تبقّى لديه من طاقة. أن يطوي أيّاماً لا تنطوي. يحاول أن يفهم (ولم يفهم بعد) سبب هذا السوء الذي يتلقّاه في حياته. لم يعد سوءًا يهطل عليه من مصدرٍ واحد. فلقد تناسلت الجهات المُرسِلة لهذا السوء إليه.
4 آب شكّل اعترافاً (فضحاً؟)، بأنّ العنف إرثٌ لا ينتهي في بلادنا. بأنّ الأمن والأمان والسلام، هي مفاهيم وهميّة. وكأنّ الاختلافات، في ما بيننا، هي مدخل دائم للقتل والحروب. خطورة 4 آب، أنّنا لمحنا السلطة يومذاك، وهي تصارع لتتبوّأ لائحة القَتَلة والمجرمين المتسلسلين
ثالثاً، لأنّ اللبنانيّين أدركوا لحظة الانفجار، أنّهم تجاوزوا عتبة الانهيار. أيقنوا أنّهم يسقطون السقوط الشامل. أنّهم باتوا قاب قوسيْن أو أدنى من الارتطام الكبير. وأخطر ما في هذا الارتطام، أنّه يُنهي لبنان الذي نعرف. يُشظّي الدولة والمجتمع، وحتّى جغرافيا البلاد ولن يستثني أحداً، حتّى المطمئنّين إلى بحبوحتهم في كنف بعض أحزاب السلطة.
رابعاً، لأنّه أرسى ديموقراطيّة الخوف في لبنان. فـ 4 آب شكّل اعترافاً (فضحاً؟)، بأنّ العنف إرثٌ لا ينتهي في بلادنا. بأنّ الأمن والأمان والسلام، هي مفاهيم وهميّة. وكأنّ الاختلافات، في ما بيننا، هي مدخل دائم للقتل والحروب. خطورة 4 آب، أنّنا لمحنا السلطة يومذاك، وهي تصارع لتتبوّأ لائحة القَتَلة والمجرمين المتسلسلين. أولئك الذين ارتكبوا بالأمس جريمة المرفأ، ويجهدون اليوم لاغتيال التحقيق في تلك الجريمة. راقبوا أبواقهم تعرفون مقاصدهم.
خامساً، لأنّ 4 آب أثبت أنّ معركتنا، نحن اللبنانيّين، ليست فقط مع النظام السياسي الطائفي الذي تتحكّم به الأوليغارشيّة (التعبير الذي أنزله الصحافي محمد زبيب من برجه العاجي). إنّما هي مع المافيات، حاكمنا الفعلي، والتي تختلف وتأتلف وفق مصالحها المرتبطة بنهب الدولة. إذاً، جوهر نظامنا له إسم واحد: المافيا. وهو يتقن أساليب المافيا. الابتزاز والسرقة والتشبيح والتهريب والاتّجار بالممنوعات وبالرقيق الأبيض..إلخ. وما معركة تثبيت الحصانات، على أكثر من جبهة، إلاّ لجزعهم من انكشاف حلقات الوصل بين عناصر المافيا، صعوداً ونزولاً، يساراً ويميناً. نزْع حصانة أحدهم، هو بمثابة “النكزة” الصغيرة التي ستخرُّ معها قصورهم الورقيّة.
سادساً، لأنّ جريمة المرفأ جاءت لتؤكّد، لعامّة اللبنانيّين والخارج أيضاً، أنّ مبدأ الإفلات من العقاب هو من المقدَّسات. مُقوْنَن. كرّسته عصابات السلطة وأتباعها وبلطجيّتها حقّاً دستوريّاً. يمنع عن مجرميهم العواقب. يجعل جرائمهم تمرّ من دون عقاب. لديهم سلاحٌ نادر. الحصانات المتنوِّعة. يخوّفون ويهدّدون ويعتدون ويقتلون بها. يُرسون معادلة خطيرة تقول: عندما نقمع الآخرين فهُم ليسوا ضحايا. أمّا إذا تصدّى لنا هؤلاء الضحايا فهُم مرتكبون وزعران! تذكِّرني هذه المعادلة بجملةٍ وردت في سيناريو فيلم “ريّا وسكينة” (للكاتب مصطفى محرّم)، وفيه تشكو ريّا من تصرّف ضحيّتها أثناء محاولتها خنقها: “تقولشي قد ايه بتكرهني.. عضّتني وانا باخنقها!”.
سابعاً، لأنّه تظهّر للعيان يومذاك، أنّ السلطة فخّخت كلّ شيء لينفجر باللبنانيّين. بمَن تسوّل له نفسه الاقتراب من المفخَّخات! في بعبدا أو عين التينة أو السراي الكبير. في أيّ وزارة من الوزارات. في المصارف وكلّ المؤسّسات والدوائر. أينما كان. كلّها مفخّخة بقوى الأمن والأزلام وقالعي العيون. فخّخوا المرفأ. فجّروه. أرادوه عبرة لمَن اعتبر. لتذكير مَن تخونه الذاكرة، أنّ الاقتراب من المحرّمات ممنوع. التجرّؤ على أصحاب الحصانات ممنوع. الاحتجاج ممنوع. الثورة، طبعاً، ممنوعة. في جمهوريّة الخوف والممنوعات، كلّ شيء ممنوع.
تنبّهنا في 4 آب إلى أنّنا، نحن الذين نمنا في تلك الليلة لأوّل مرّة من دون عاصمتنا، قد قُتِلنا جميعاً في التفجير. لكنّنا لم نَمُتْ. اكتشفنا هشاشة الأرض التي نقف عليها. شاهدنا يداً سوداء هائلة تنقضّ علينا. وحشاً غامضاً يبتلع الشارد والمارد
ثامناً، لأنّه فعّل ثقافةً قمعيّة عظيمة كانت قد أدرجتها سلطتنا في قاموس الثقافات. “ثقافة السحسوح”، وقوامها ضرب كفّ اليد على قفا رقبة إنسانٍ ما. ومن ثمّ إجبار المضروب على الاعتذار عن سلوكٍ صدر عنه، وأزعج زعيم المُسحْسِحين. و”السحسوح”، الذي يُعتبَر أمّ الإهانات عند المصريّين، يُعتبَر عندنا في لبنان أبرز الإنجازات الأخلاقيّة والسياسيّة والأمنيّة التي كرّسها حُكّامنا (ولا سيّما منهم أحزاب وقوى ما يُعرَف بـ”الممانعة”). “ثقافة السحسوح”، للتذكير، هي ذروة الثقافة الميليشياويّة في ممارسة العنف المضبوط. في فرض الانتظام العامّ للسياسة اللبنانيّة.
تاسعاً، لأنّ 4 آب أقحم لاحقة “جي” على بعض تعابيرنا. وهذه اللاحقة، التي تُستخدَم في اللغة التركيّة للإشارة إلى اسم الفاعل أو مبالغته، تمنح دوماً معنى سلبيّاً للكلمة. على غرار بلْطَجي، أي مَن يعتدي على الآخرين من دون وجه حقّ ويرتكب الأفعال المخالفة للقانون. وثوْرَجي، للإشارة إلى المتسلّق والمنتفع من الثورة. وقوْمَجي، للدلالة على زيف الانتماء القومي لأحدهم و”براعته” في تزييف التاريخ…إلخ. بعد الانفجار، جميع أدوار اللاعبين أُدخِلت إليها لاحقة “جي”. الوَطَنْجي. المُثقّفْجي. المصْرَفْجي (أو البنكرجي). الأمْنَجي.. وهكذا. وكلّنا تابع على الشاشات، كيف قمع الأمْنَجيّون أهالي ضحايا المرفأ عندما ذهبوا إلى منزل الأمْنَجي الأكبر وزير داخليّتنا (الملقَّب بقاتل القتيليْن).
عاشراً، لأنّنا تنبّهنا في 4 آب إلى أنّنا، نحن الذين نمنا في تلك الليلة لأوّل مرّة من دون عاصمتنا، قد قُتِلنا جميعاً في التفجير. لكنّنا لم نَمُتْ. اكتشفنا هشاشة الأرض التي نقف عليها. شاهدنا يداً سوداء هائلة تنقضّ علينا. وحشاً غامضاً يبتلع الشارد والمارد. وحش يشبه كثيراً وحش فرانكنشتاين. صحيحٌ، أنّ أبصارنا قد أعمتها حُمّى الأحداث. بانقضاضها الهستيري على تفاصيل حياتنا. لكنّنا قرّرنا، أن نُبقي عيوننا على النور. كي نتمكّن من عبور كلّ هذا الظلام، كما يقول الشاعر والعالِم المتصوّف جلال الدين الرومي. فعهداً علينا، أنّ تكون الأيّام الآتية الشاهِد على تنفيذ الحُكم بعصابات الحُكم. الأيّام ستؤدّي دوراً مناقضاً للترميم!
كلمة أخيرة. في 25 تموز/يوليو 1995 فجّرت “الجماعة الإسلاميّة المسلّحة” في باريس، إسطوانة غاز داخل محطّة “سان ميشال” على الخطّ B من خطوط شبكة القطارات الإقليميّة (RER). أسفر الانفجار عن مقتل ثمانية فرنسيّين وجرْح ثمانين آخرين. يومها، كدتُ أن أكون مع شقيقتي الصغرى في عداد الضحايا. الحظّ جعلنا، وقبل ساعة واحدة فقط، نستقلّ القطار في المحطّة المستهدَفة. ساعات، والتلفزة الفرنسيّة مستنفَرة لتغطية الحدث الجلل (بالنسبة إليهم). تقارير مفجوعة تتحدّث عن الضحايا والأضرار. عن استقدام المعالجين النفسيّين، من كلّ حدبٍ وصوب، لدعم المصابين والاستماع إلى رعبهم. لم أفرح لنجاتي وأختي، من موتٍ محتَّم. بل في تلك اللحظات، إجتاحتني المرارة. شعرتُ بأنّني مجروحة بكرامتي. صرتُ أقارن بيننا، نحن اللبنانيّين، وبين أهل فرنسا. عندما تحلّ بنا مصيبة. فانفجارٌ واحد لا غير، هزّ كيانهم. زلزل الجمهوريّة، عن بكرة أبيها، لتهرع وتقف على خاطر الضحايا. أمّا نحن، يا وَحْدَنا. إغتبط بعض حُكّامنا بـ 4 آب. أعطاهم التفجير المروِّع بارقة أمل، بعودة علاقات السلطة المقطوعة مع الخارج. كيف يمكن أن نُبرِّئ “أصحاب الأمل” من دماء ورماد ضحايانا؟ إقتضى التنكيل بحُكّامنا، بشتّى الوسائل المشروعة وغير المشروعة. إقتضى.