ولد لبات خبير دولي مختص بقضايا الوساطة وحلّ النزاعات في مناطق الحروب الأهلية والعدالة الانتقالية، وعمل في العديد من الدول الأفريقية مكتسباً خبرة واسعة وتجربة غنية، ولا سيّما من خلال تولّيه عدّة مناصب منها: وزيراً للخارجية وسفيراً ورئيساً لجامعة نواكشوط، وفوق كل ذلك فإنه يمتلك لغة عربية صافية، إضافة إلى إتقانه اللغتين الفرنسية والإنكليزية ومعرفته بلغات محلية عديدة، ناهيك عن كونه قانوني ضليع وفقيه دستوري ذو أفق فسيح مثل صحراء موريتانيا بلاده الفسيحة.
لقد وظّف الكاتب كل مؤهلاته تلك من أجل التوصل إلى مصالحة بين الفرقاء السودانيين، مدنيين وعسكريين، وحاول أن يعكس تجربته الباذخة تلك في كتاب مهم بعنوان “السودان – على طريق المصالحة” (*)، والكتاب سردية جميلة أقرب إلى رواية بحبكة درامية طعّمه بحكايات وقصص ومقابلات وحوادث وأسرار وتاريخ وخفايا وخبايا، دلّت على معرفة عميقة بالأوضاع السودانية دون أن يبتعد عن المعايير الأكاديمية والبحثية.
وكان قد كُلّف من جانب الإتحاد الإفريقي وبدعم من إثيوبيا، إثر اندلاع أزمة سياسية عميقة في السودان حول المستقبل بين القيادات المدنية التي فجّرت الشرارة الأولى للثورة والقيادات العسكرية التي ساهمت في حسم مسألة التغيير، وكادت الأزمة أن تؤدي إلى الصدام بين المجموعتين، حيث تشبّث العسكريون بمواقعهم في النظام الجديد، في حين أراد المدنيون عملية التغيير شعبية بامتياز لإنجاز التحوّل الديموقراطي.
كتاب “السودان – على طريق المصالحة” يصلح أن يدرّس في الجامعات العربية وفي جامعات البلدان النامية عموماً، خصوصاً تلك التي عانت من أزمات وحروب أهلية، بهدف تهيئة مستلزمات التحوّل الديموقراطي
لم تكن عملية التغيير يسيرة أو حتى مضمونة النتائج، خصوصاً وقد عاش المجتمع السوداني فترات طويلة في ظل أنظمة استبداد وحكم عسكري، حيث حكم محمد جعفر النميري من العام 1969 حتى أطيح به في حركة شعبية العام 1985 وهي امتداد لثورة أكتوبر الشعبية التي أطاحت بحكم الجنرال عبود العام 1964، لكن انقلاباً عسكرياً جديداً استلم مقاليد الحكم في العام 1989 وتعتّق فيه، وخلال العقود الثلاثة من حكم الرئيس عمر حسن البشير الذي حكم السودان 30 عاماً (1989-2019)، وشهدت البلاد خلالها حركات تمرّد وأعمال عنف، ناهيك عن انشطارها وانفصال جنوب السودان العام 2011 باستفتاء شعبي بعد حروب دامت من العام 1956 دفعت البلاد أثمانها الباهظة بشرياً ومادياً ومعنوياً، كما تعرّض فيها الشعب السوداني لأعمال قمع شملت قطاعات واسعة من النساء والمثقفين والفنانين والمجموعات الثقافية “الأقليات” والشرائح الاجتماعية المهمّشة فضلاً عن محاولات “تديين” المجتمع ومصادرة الحريات وتقليص الحواشي الديمقراطية وهجرة أصحاب الكفاءات والأدمغة.
يطلعنا الكاتب بأسلوب شائق وشفيف ولغة متوهجة بالشعرعلى فكرة الوساطة وسياقاتها وإنضاج ظروفها ومساراتها وتحدّيات المرحلة الانتقالية ويتناول بعض التساؤلات حول المستقبل، وهذه المفردات مثلّث العناوين الأساسية للكتاب، ومن خلاله نتعرّف على الدور الذي قام به في الوصول إلى النتائج المرجوة دون ادعاء أو غرور، بل بالوقائع والأسماء والمحصّلات، بما فيها من توترات ومحاولات عرقلة أو وضع عقبات من شأنها الحيلولة في منع التوصل إلى توافق يؤدي إلى المصالحة عبر الوساطة.
والوساطة تعني حل الخلافات بطريقة سلمية وعبر أشخاص أو جهات تقوم بهذه المهمة يثق بهم المتصارعون، وهي فرع جديد يدرّس في الجامعات والمعاهد العليا، وقد اعتمدناه في جامعة اللاّعنف (بيروت) وهو يجمع بين القانون والسياسة والإدارة والثقافة والاجتماع والدبلوماسية وفن التفاوض، وذلك في إطار توفيقي وجامع بحثاً عن المشتركات، بحيث يصل الجميع إلى الاعتقاد أن الكل رابح، ومثل هذا الاختصاص يستخدم في حل الأزمات الدولية الكبرى مثلما يمكن تطبيقه على الأزمات والنزاعات الأهلية الداخلية، بما فيها بين جماعات وأشخاص أحياناً.
ومن النتائج المهمة في التجربة السودانية هو أن إفريقيا هي التي تولّت هذه المسؤولية وتمكنّت من النجاح فيها بالتعاون مع شركاء دوليين، ويعود ذلك لأسباب منها أنها تعرف مشاكل الإقليم وهي منحازة لمصلحته وتشعر بمسؤولية إزاه على خلاف بعض الوساطات البعيدة فكرياً واجتماعياً ونفسياً عن أجواء الصراع ومشاكل المجتمعات التي تريد التوفيق بين فرقائها المتصارعين، ناهيك عن أغراضها السياسية أحياناً.
وبتقديري أن كتاب “السودان – على طريق المصالحة” يصلح أن يدرّس في الجامعات العربية وفي جامعات البلدان النامية عموماً، خصوصاً تلك التي عانت من أزمات وحروب أهلية، بهدف تهيئة مستلزمات التحوّل الديموقراطي، وبالطبع ليس لاستنساخ التجربة أو اقتباسها، وإنما الإفادة منها كقواعد عامة ودروس بليغة، مع الأخذ بالاعتبار ظروف كل مجتمع وشعب، وفي كل الأحوال وحسب معرفتي المتواضعة، يبقى الكتاب مرجعاً نظرياً وعملياً مهماً، علماً بأن المراجع الأكاديمية والعلمية قليلة على هذا الصعيد، لا سيّما تلك التي تضمّنت تجارب عملية ميدانية قريبة من واقع مجتمعاتنا. ولعلّ تقويم رئيس جمهورية مالي الأسبق البروفسور عمر كوناري رئيس مفوضية الإتحاد الإفريقي الأسبق يعطي القارئ فكرة موضوعية عن مثل هذا الدور الوسيط الذي صاغه مؤلف الكتاب والمفاهيم التي قدّمها وتمكّن من خلالها إضافة إلى براعته الوصول إلى حلول جنّبت السودان الانزلاق إلى نزاع أهلي، لا سيّما بعد قناعة الفرقاء جميعهم.
على الوسيط أن يصغي إلى جميع الفرقاء وأن يستمع إلى الكثير من الشهادات الشفوية والمكتوبة ويقرأ العديد من الوثائق ويطّلع على المعطيات من مصادرها الأصلية وهو ما فعله المؤلف حين حاور المجلس العسكري الانتقالي وكذلك إعلان قوى الحرية والتغيير، إضافة إلى تجمع المهنيين ومنظمات سياسية ومهنية واجتماعية عديدة، غطّت الطيف السوداني الاجتماعي والسياسي والثقافي وهو ما وفرّ له زاداً سميناً حاول أن يقسّمه على أطباق متساوية وبتكافؤ بعد أن طبخه على نار هادئة دون استعجال أو تسرّع، وحسبما يقول: على الوسيط أن ينثني دون أن ينكسر، مثلما عليه التحلّي بالتواضع والصبر.
لو قدّر لي أن أرشح كتاباً للقراءة قبل كل حركة تغيير أو احتجاج شعبي يستهدف التحوّل الديموقراطي، لرشّحت كتاب “السودان – الطريق إلى الوساطة” الذي هو بمثابة دليل عمل ومرشد بما قدّمه من إطارات لحلول بعضها كان مستعصياً أو أن التوصل إليها كان صعباً ومعقداً ولم يمرُّ بسلاسةٍ، بل هو أقرب إلى الإستحالةِ كما تصوّره البعض
لقد تعلّم ولد لبات كما يقول من نيلسون مانديلا الذي عمل معه ومع العديد من قادة إفريقيا، فضائل التعالي على الضعف البشري المتمثّل بالأنانية والعجز عن التسامح وروح الانتقام وجدارة المصالحة خدمة للأمة، وحاول أن يوظفها من خلال وساطته السودانية، مبتعداً عن كل ما له علاقة بالغطرسة أو التكبّر أو ادعاء المعرفة أو الانحياز أو الانجرار إلى المغريات أو فقدان الثقة بالأطراف المتصارعة، أو التسّرع للوصول إلى النتائج، فالجهل صنو للغرور، أما المعرفة قرينة التواضع وذلك يعني الاقتراب من الموضوعية والإبتعاد عن الذاتية والأحكام المسبقة.
أدركُ أن الوساطة عملية شاقة ومعقدة وتحتاج إلى باع طويل لتحديد معالمها ومراحلها وإجراءاتها وصولاً إلى إعلان نتائجها بقناعة من جميع الفرقاء، كما تستوجب التعرّف العميق على الأطراف واحترامها وكسب ثقتها ، مثلما تقتضي “التحكم باللسان وفي الجَنان” أي الحركات والإشارات، أما المصالحة فهي ضرورة اقتناع الجميع بأنه لا أحد يستطيع بناء البلد لوحده، الأمر الذي يقتضي قبول الآخر واحترامه وضرورة وجوده، فضلاً عن التسامح والاعتراف بالخطأ وهو ما اعتمده ولد لبات بمهارةٍ وحكمةٍ وبعد نظر، وبقدر ما يتم اعتماد قواعد علمية وأكاديمية ووسائل إقناعية، فإنه يحتاج إلى فهم اجتماعي وثقافي وديني لطبيعة المجتمع وتراكيبه المختلفة بطبقاته وفئاته الاجتماعية وأديانه وقومياته ولغاته وتاريخه بما فيه نقاط قوته وضعفه في الآن، أي وضع خريطة مشاكله على بساط البحث القديمة منها والراهنة، إضافة إلى تصور بعض تضاريسها المستقبلية، وهو ما فعله الكاتب بجدارة في وساطته السودانية الملقّحة بتجارب كونية.
المصالحة هو ما نحتاجه في عالمنا العربي وهي تبدأ من رياضة روحية مع النفس لتنتقل إلى الآخر، جوهرها التسامح وقبول الآخر وحلّ الخلافات باللاّعنف، ولو قدّر لي أن أرشح كتاباً للقراءة قبل كل حركة تغيير أو احتجاج شعبي يستهدف التحوّل الديموقراطي، لرشّحت كتاب “السودان – الطريق إلى الوساطة” الذي هو بمثابة دليل عمل ومرشد بما قدّمه من إطارات لحلول بعضها كان مستعصياً أو أن التوصل إليها كان صعباً ومعقداً ولم يمرُّ بسلاسةٍ، بل هو أقرب إلى الإستحالةِ كما تصوّره البعض، وإذا به من خلال التفاهمات والتوافقات والثقة يصبح ممكناً، بل واقعاً.
(*)”السودان ـ الطريق إلى الوساطة” كتاب جديد للبروفيسور محمد الحسن ولد لبات، من إصدار المركز الثقافي في بيروت (2020). تُنشر مراجعة الدكتور عبد الحسين شعبان في موقع 180 بوست بالتزامن مع مجلة “المستقبل العربي”، عدد آب/ أغسطس 2021.