“قبل 4 أعوام، وفي ليلة 2-3 كانون الثاني/يناير 2020، اغتالت مسيّرة أميركية أهم شخصية عسكرية في إيران، قاسم سليماني. ووفقاً لرئيس الاستخبارات العسكرية السابق تامير هايمن، فإن إسرائيل لم تشارك في العملية. قبل يوم من الاغتيال، وكجزء من مساعي سليماني لتعزيز التحالف بين أعضاء “محور المقاومة”، زار حسن نصرالله في بيروت. والذي اغتاله في اليوم التالي في بغداد، كان يمكنه فعل ذلك بسهولة كبيرة في بيروت، أو في دمشق، لكنه لم يفعل، خوفاً من وجود عناصر من حزب الله بالقرب منه، ومن أن يؤدي مقتلهم إلى جرّ الحزب إلى سلسلة ردود، وربما إلى حرب شاملة ضد إسرائيل، إذا فكّر نصرالله في أن إسرائيل هي وراء الاغتيال.
الجنرال إسماعيل قآآني، الذي حلّ محل قاسم سليماني، لمّح إلى أين سيتوجه الانتقام الإيراني. وبعد تشييع سليماني، التقى كبار مسؤولي “حماس”، وبينهم صالح العاروري، وتعهد أمامهم زيادة التعاون، بما في ذلك إرسال سلاح متطور إلى غزة، فضلاً عن وسائل اتصالات مشفرة وعتاد استخباراتي. وعلى ما يبدو، وفى قآآني بوعوده، والنتيجة دفعت ثمنها إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر. للعاروري دور كبير في الربط بين “حماس” وحزب الله، وفي التنسيق مع إيران والحصول على مساعدتها، وفي جزء كبير من الأسس والدعامات التي حولت “حماس” إلى تنظيم نجح في تكبيد إسرائيل خسائر أكثر من أي تنظيم “إرهابي” آخر، وكذلك في تأجيج “الإرهاب” في الضفة الغربية.
لقد شغل العاروري منصب نائب إسماعيل هنية، لكن مهمته الأساسية كانت القائد العسكري لـ”حماس” في الضفة الغربية. وبسبب الخطر الكبير الذي يمثله، في رأي الاستخبارات الإسرائيلية، طُبعت في الأوراق التي وُزعت على عناصر الاستخبارات بشأن المطلوبين من “حماس”، صورة العاروري على ورقة الجوكر، هو ومحمد الضيف.
بتقدير أغلبية المصادر في إسرائيل والولايات المتحدة أن نصرالله لن يكون مستعداً لجرّ لبنان كله إلى الخراب، تعبيراً عن تعاطفه، أو دفاعاً عن “حماس” التي شنّت هجوماً على إسرائيل من دون أن تُعلمه مسبقاً
من غير المؤكد أنهم في “حماس” رأوا هذه الأوراق، لكن من المؤكد أن الاغتيال فاجأهم. قبل اغتيال سليماني وبعده، انتهجت إسرائيل سياسة ضبط النفس فيما يتعلق بعملياتها في لبنان، وفي الشرق الأوسط كله، وبذلت جهوداً كبيرة في الامتناع من المسّ بعناصر حزب الله. الهجوم الذي قالت مصادر أميركية إن إسرائيل أخبرتهم بأنها هي التي نفّذته، وفقاً لـ”النيويورك تايمز”، يثبت أن الحرب التي بدأتها “حماس” تدور على عدة جبهات، في آن معاً، وبفضل التنسيق الذي أقامه سليماني، ومن بعده قآآني، لا يمكن القيام بعملية ضد “حماس” من دون نشوء خطر اندلاع حرب شاملة ضد حزب الله.
إذا صحّت التقارير التي تحمّل إسرائيل مسؤولية الاغتيال، فإن الهجوم يُظهر مبادرة واستعداداً لتحمُّل المخاطرة والرغبة في إعادة تولّي قيادة الحرب. ويؤكد أيضاً ما سبق أن كتبناه عدة مرات، أن لدى إسرائيل معلومات جيدة جداً عمّا يجري في طهران وبيروت، أكثر من معلوماتها عمّا يجري في غزة.
إسرائيل لم تؤكد تورُّطها، ولم تكذّبه (باستثناء تكذيب مارك ريغيف، الناطق بلسان رئيس الحكومة، في وسائل الإعلام الأجنبية، رداً على سؤال عمّا إذا كان الهجوم بالمسيّرات الذي اغتال العاروري هجوماً إسرائيلياً). في جميع الأحوال، من الواضح أن “حماس” وسائر أعضاء “محور المقاومة” متأكدون من أن إسرائيل هي المسؤولة، ويجب الانتقام منها. ويمكن أن يؤدي الاغتيال إلى ردّ يجر وراءه رداً إسرائيلياً عليه، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تصعيد كبير وفتح جبهة أُخرى. لكنه أيضاً يمكن أن يُستخدم كتحذير وردع لأعضاء المحور من مغبة فتح مثل هذه الجبهة.
منذ اغتيال سليماني، كرر نصرالله وشدد على أنه يعتبر أي اغتيال في داخل بيروت تخطياً للخطوط الحمراء. وعندما هدد نتنياهو العاروري، كرر نصرالله أن حدوث ذلك هو تجاوُز خطِر للحدود. الحذر الشديد الذي أبدته إسرائيل حيال عملياتها في بيروت، وحيال اغتيال عناصر من حزب الله عموماً، خلق انطباعاً لدى كثيرين في الحزب، ولدى ضيوف الحزب من “حماس” والجهاد الإسلامي الذين نقلوا قيادتهم من دمشق إلى مكان، هم متأكدون من أنهم في أمان فيه، كما خلق شعوراً بأنهم محصّنون.
زعماء “حماس” الموجودون في أماكن أُخرى في العالم، مثل الدوحة أو إستانبول، يتصرفون حتى يوم أمس، على الأقل، كما لو أنهم لا يتعرضون للتهديد، ويتحركون من دون حراس، أو مع حراسة قليلة. ويبدو أنهم في “حماس” يظنون أنه ما دامت المفاوضات بشأن استعادة المخطوفين مستمرة، وما دامت قطر محوراً مركزياً فيها، فإن إسرائيل لن تجرؤ على قتلهم.
حتى الآن، لم تؤدّ المساعي التي بذلها الوسيط الأميركي هوكشتاين إلى حدوث انعطافة، لكن اليوم، بعد رؤية ألسنة النيران المندلعة في قلب بيروت، يمكن للجميع التأكد من أن إسرائيل ستفعل في لبنان ما فعلته في غزة، إذا اندلعت الحرب
لقد قُتل مع العاروري اثنان من القادة، هما سمير فندي، رئيس الوحدة التكنولوجية لـ”حماس” في لبنان، والمسؤول عن إطلاق كثير من الصواريخ على إسرائيل من لبنان. وعزام الأقرع، وهو ناشط كبير، ووفقاً للاستخبارات الإسرائيلية، هو مسؤول عن عدد كبير من الهجمات في داخل إسرائيل. ومَن خطط للعملية، أراد التأكيد أن الاغتيال هو مسألة بين “حماس” وإسرائيل، والآن، على نصرالله أن يقرر ما إذا كان سيحافظ على الخطوط الحمراء التي وضعها علناً، أم سيُبقي الاغتيال ضمن نطاق علاقات لا دخل له فيها. هو اليوم أمام مفترق طرق: هل يردّ بعنف، ويخاطر بردّ إسرائيلي؟ أم يردّ من خلال المحافظة على السقف الذي حاول الالتزام به منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
بتقدير أغلبية المصادر في إسرائيل والولايات المتحدة أن نصرالله لن يكون مستعداً لجرّ لبنان كله إلى الخراب، تعبيراً عن تعاطفه، أو دفاعاً عن “حماس” التي شنّت هجوماً على إسرائيل من دون أن تُعلمه مسبقاً. وهناك مَن يعتقد أن العملية في بيروت قد تكون مفيدة، لأنها ستزيد في الدوافع لدى دول، مثل الولايات المتحدة أو فرنسا، وحتى من جانب الحكومة اللبنانية، من أجل بذل كل شيء للتوصل إلى حل سياسي بين إسرائيل وحزب الله، يؤدي إلى انسحاب الحزب من السياج الحدودي، ويسمح بعودة سكان المستوطنات في الشمال. حتى الآن، لم تؤدّ المساعي التي بذلها الوسيط الأميركي هوكشتاين إلى حدوث انعطافة، لكن اليوم، بعد رؤية ألسنة النيران المندلعة في قلب بيروت، يمكن للجميع التأكد من أن إسرائيل ستفعل في لبنان ما فعلته في غزة، إذا اندلعت الحرب.
من الممكن أن نتجادل فيما إذا كان إعلان المسؤولية عن مثل هذه العملية هو مصلحة إسرائيلية، أم لا؟ في رأيي، بالتأكيد، يمكن الاعتقاد أنه إذا كنا نريد إطلاق النار، من الصحيح أن نفعل ذلك، لكن أحياناً، يمكننا أن نطلق النار، وأن نتحدث من أجل تعزيز التأثير”. (المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية).