كتاب بيرغمان: “إنقلاب الشين بيت”.. وتحطيم جماجم الفدائيين (50)

يروي الكاتب "الإسرائيلي" رونين بيرغمان في هذا الفصل من كتابه "انهض واقتل أولاً، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الاسرائيلية" قصة مرعبة عن ممارسات جهاز الامن الداخلي "الإسرائيلي" (الشين بيت) بحق أسيرين فلسطينيين تقارب في فظاعتها ما تعرضه افلام الرعب الهوليوودية.

تحت عنوان “انقلاب الشين بيت” يصف رونين بيرغمان، مرحلة ما بعد غزو لبنان عام 1982 بالاوقات الصعبة جداً على دولة “اسرائيل” التي كانت “ما تزال تلعق جروحها من جراء حربها على لبنان ولا تزال تحتل جزءاً منه، فقد كان يزداد بشكل مضطرد عدد الجنود العائدين بالاكياس السوداء (قتلى) جراء قتالهم مع الميليشيات التي تحاربهم في لبنان”. يتابع: “كان العنف يسود داخل “اسرائيل” ايضا، ففي الثاني من نيسان/ابريل 1984 تمكن ثلاثة من اعضاء الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين من دخول البلاد بصورة سياح وفتحوا نيران رشاشاتهم الاوتوماتيكية ورموا قنابلهم على المستوطنين في شارع مزدحم في وسط القدس، ما ادى الى جرح اربعين شخصا توفي احدهم في وقت لاحق متأثراً بجراحه، ولكن تمكن المستوطنون المسلحون من ايقاف المهاجمين حينذاك، كما كان ارهابيون يهود يشنون هجمات ضد العرب في البلاد، وكان متطرفون يمينيون يهود يهاجمون رؤساء البلديات الفلسطينيين ويحرقون منازلهم وقد تمكن جهاز “الشين بيت” من القاء القبض على مجموعة منهم فيما كانت تخطط لتفجير خمس حافلات مزدحمة بالركاب الفلسطينيين”.

يضيف بيرغمان، “في ظل هذه الاجواء وفي 12 ابريل/نيسان عام 1984، عند الساعة 6:20 مساء انطلقت حافلة من المحطة الوسطى في تل ابيب متوجهة الى عسقلان وعلى متنها 44 راكباً بينهم اربعة فلسطينيين يجلسون متباعدين ويتظاهرون بانهم لا يعرفون بعضهم البعض وكانوا يحاولون اخفاء توترهم لانهم كانوا في طور الإستعداد لخطف الحافلة الى غزة وأخذ ركابها رهائن. كان الشبان الاربعة من مدينة خان يونس في قطاع غزة وكانوا مأخوذين بعاصفة العنف التي تضرب البلاد، كان قائدهم جمال محمود قبلان في العشرين من العمر، وهو الابن الاكبر لعائلة من 16 شخصاً تولى بالرغم من صغر سنه تحمل اعباء رعاية افراد العائلة لان والده توفي باكراً وقد امضى سنة في السجن لادانته بعمل ارهابي ثانوي، اما رفاقه الثلاثة، محمد بركة وابنا العم مجدي وصبحي ابو جمعة فكانوا تلامذة في المرحلة الثانوية واعمارهم دون الثمانية عشر عاماً، وقد اقنعهم قبلان بالانضمام اليه في عملية الخطف هذه التي كان يأمل ان تحدث ضجة عالمية كبيرة. وباستثناء قناعاتهم الوطنية لم يكن لدى اي منهم انتماءات حزبية، كما لم يمتلكوا اسلحة نارية سوى قنبلة يدوية ولكنهم كانوا يحملون السكاكين وزجاجة مملوءة بسائل اصفر بدا وكأنه مادة اسيد او اية مادة سريعة الاشتعال وحقيبة تظهر منها بعض الاسلاك وهي لم تكن سوى حقيبة مع اسلاك ولا مواد متفجرة فيها على الرغم من زعمهم للرهائن لاحقاً بانها تحوي قنبلة موصولة الى صاروخي “آر بي جي”.

شالوم أومأ إلى قائد الوحدة ايهود ياتوم ان يتحدث معه على إنفراد، وقال له بهدوء “اقتلوهم”. بدا واضحاً أن شالوم لا يريد لـ”الارهابيين” ان يصلا الى المحكمة وان يحصلا هناك على محاكمة مناسبة لهما. كان يعتقد ان من شأن ذلك ان يشجع على المزيد من اعمال الارهاب

بعد اربعين دقيقة من مغادرة تل ابيب وعندما وصلت الحافلة الى تقاطع طرق اشدود، رأى احد الركاب سكيناً مع احد هؤلاء الشبان فطلب من السائق ان يتوقف متظاهراً انه يعاني من دوخة ويريد ان يتقيأ، وما ان نزل من الحافلة حتى صرخ بأعلى صوته “ارهابيون”.. وفر بعيداً فعرف الشبان الاربعة انهم انكشفوا فركض قبلان نحو السائق ووضع السكين على نحره وامره باللغة العبرية ان يواصل سيره بسرعة، لكن الراكب الذي هرب سرعان ما ابلغ الشرطة التي نشرت الحواجز والعوائق على طول الطريق التي تسلكها الحافلة، لكن الحافلة لم تتوقف عند اي منها الى ان وصلت الى بقعة قريبة من دير البلح وسط قطاع غزة حيث تمكن رجال الشرطة عند احد الحواجز من اصابة عجلات الحافلة بالرصاص واجبروها على التوقف قرب حائط اسمنتي وقد اصيب عدد من الركاب برصاص الشرطة ايضاً فاختلط صراخ هؤلاء بصراخ الرهائن والخاطفين في آن معاً، وفي ظل حالة الارباك هذه تمكن السائق من القفز من الحافلة وصرخ على الركاب ان يفعلوا مثله لكن قبلان سبقهم واقفل الابواب وعلق معظم الركاب داخل الحافلة مع الخاطفين. وبسرعة، حاصر جنود وقوات خاصة الحافلة وحضر الى المكان ضباط من الجيش و”الشين بيت”، فيما عجّ المكان بالصحافيين والناس الفضوليين، فصرخ قبلان من داخل الحافلة انه لن يطلق سراح الرهائن ما لم تطلق “اسرائيل” سراح 500 اسير فلسطيني من سجونها.

تولى كبير خبراء “الشين بيت” في الشؤون العربية ناهمان تال قيادة المفاوضات مع الخاطفين. يقول تال في شهادته “على الفور عرفت انهم ليسوا جديين وانهم لا يشكلون اي خطر”. اما ايهود باراك الذي كان حينها رئيسا للاستخبارات العسكرية، فقد خرج بانطباع انه اذا ماطل “الشين بيت” في المفاوضات لبضع ساعات “فان الخاطفين سيوافقون على اطلاق سراح الرهائن مقابل بعض السندويشات”. وعلى كل حال فان الجانب “الاسرائيلي” راى انه بالامكان اطلاق سراح كل الرهائن على الفور باستخدام القوة ولا داعي للتفاوض.

وعند الساعة 4:43، أصدر رئيس الاركان الجنرال موشيه ليفي الذي حضر الى المكان اوامره إلى قوة من “سريات ميتكال” بإقتحام الحافلة. وعلى الفور، تمكن احد القناصة من قتل قبلان الذي كان يقف في مقدمة الحافلة مكان السائق وتمكن جنود اخرون من قتل محمد بركة كما قتلوا راكبة مدنية فيما اختبأ ابناء العم ابو جمعة بين الركاب. في البداية، امر الضابط في وحدة “سريات ميتكال” شاي افيتال بقتل الفلسطينيين ولكنه عندما رأى انهما لا يشكلان خطراً الغى امره على الفور، فانزل الاثنين من الحافلة وبعد تحقيق سريع اجراه معهما الجنرال في القوات المظلية والمجوقلة اسحاق موردخاي للتأكد من انهما لا يحملان اي مواد متفجرة او قنابل وليس لديهم اي رفاق اخرين في الحافلة، جرى تسليمهما إلى جهاز “الشين بيت” الذي تجمع رجاله في حقل قمح مجاور.

إقرأ على موقع 180  كتاب إيلي فرزلي: غرام ثم إنتقام مع لحود والسيد وكنعان!

يتابع بيرغمان، وهكذا اخذ رجال “الشين بيت” الاسيرين ابو جمعة وبدأ احد كبار المحققين في الجهاز، ميشا كوبي، استجوابهما في حقل قمح قريب من الحافلة الى ان ظهر ابراهام شالوم رئيس “الشين بيت” منذ اربع سنوات، وكان شالوم ابن عائلة يهودية قدمت من النمسا الى فلسطين هرباً من النازيين في الحرب العالمية الثانية وقد انضم وهو في سن 18 من العمر الى منظمة “بالماغ” الصهيونية السرية، وعند تأسيس دولة “اسرائيل” انضم الى وحدة العمليات في جهاز “الشين بيت”، وفي اوائل الستينيات تعاون مع رئيس “الموساد” حينها اسحاق شامير في وحدة القتل المتعمد (وحدة استخبارية مهمتها تنفيذ عمليات اغتيال غير مصرح بها) لوقف البرنامج الصاروخي المصري الذي كان ينفذه علماء ألمان، وقد اصبح الرجلان حينها اصدقاء، وعندما استقال مناحيم بيغن من رئاسة الحكومة وخلفه اسحاق شامير في العام 1983 “اصبح شالوم اهم شخصية في المؤسسة الاستخبارية ـ الامنية” بحسب كارمي جيلون رئيس “الشين بيت” في التسعينيات، ويضيف “اعتقد ان هذا ما جعله يشعر ان بامكانه ان يفعل ما يشاء”. وقد ادار شالوم الجهاز بلا كوابح إلى درجة ان العديد من مرؤوسيه كانوا يعتبرونه ديكتاتورا عديم الرحمة، وينقل بيرغمان عن احد عملاء الجهاز يوفال ديسكين الذي عمل تحت امرة شالوم واصبح بعد عشرين عاما رئيسا للجهاز قوله “لقد كان مرعباً، كنا نخاف منه، كان رجلاً قوياً ومتوحشاً وذكياً وعنيداً ولا يساوم ولا يتوانى عن طرد من لا يعجبه”. ويعود بيرغمان هنا إلى حادثة الحافلة للقول انه ما ان اعلم شالوم بحصول الحادثة حتى انضم الى رجاله في حقل القمح بعد التشاور مع رئيس الاركان ليفي.

عندما انزل الأخوان أبو جمعة من الآلية واجبرا على الاستلقاء ارضاً، قام ياتوم بالشرح لثلاثة جنود ما ينبغي فعله، فبادر إلى اخذ حجر كبير ضرب به رأس مجدي ابو جمعة بقوة لينضم الجنود اليه بضرب الاسيرين بالحجارة وقضبان الحديد بطريقة وحشية مخطط لها بحيث يبدو أن الشابين قد قتلا على ايدي متمردين غاضبين

ينقل بيرغمان عن المحقق كوبي قوله “كان شالوم يحمل مسدساً بيده وجلس بمؤخرته على رأس احد الاسيرين وضغط بكل قوته لدرجة اني رأيت مؤخرته تخترق جمجمة الفتى”، فيما ينقل عن عميل اخر كان هناك قوله ان شالوم كان “في نوبة عصبية بادية”. هذا المشهد جعل المحقق كوبي يُقرّر انه لا يستطيع مواصلة عمله في ظل ذلك الوضع وامر بنقل الاسيرين الى احد مراكز التحقيق التابعة لـ”الشين بيت” في غزة. فقام عناصر من وحدة العمليات المسماة “العصافير” المكلفين بحراسة الاسيرين بنقلهم، لكن شالوم أومأ إلى قائد الوحدة ايهود ياتوم ان يتحدث معه على إنفراد، وقال له بهدوء “اقتلوهم”. بدا واضحاً أن شالوم لا يريد لـ”الارهابيين” ان يصلا الى المحكمة وان يحصلا هناك على محاكمة مناسبة لهما. كان يعتقد ان من شأن ذلك ان يشجع على المزيد من اعمال الارهاب، على حد تعبير بيرغمان.

بطبيعة الحال لم يكن بالامكان اعدام الاسيرين على طريق عام يعج بالجنود والصحافيين والمدنيين الفضوليين، لذلك، قام ياتوم وفريقه بنقل الاسيرين الى حقل معزول يبعد بضعة اميال عن حقل القمح، وكان الشابان صبحي ومجدي في حال من الإعياء الشديد، عندما انزلا من الالية واجبرا على الاستلقاء ارضاً فيما قام ياتوم بالشرح لثلاثة جنود ما ينبغي فعله، فبادر إلى اخذ حجر كبير ضرب به رأس مجدي ابو جمعة بقوة لينضم الجنود اليه بضرب الاسيرين بالحجارة وقضبان الحديد بطريقة وحشية مخطط لها بحيث يبدو أن الشابين قد قتلا على ايدي متمردين غاضبين (ليس بالامكان تحديدهم) من جنود ومدنيين، مباشرة بعد اقتحام الحافلة. في تلك الاثناء، كان كوبي ينتظر في مركز التحقيق في غزة عندما ابلغ ان الاسيرين توفيا وهما في طريقهما الى المركز نتيجة الضرب الذي تعرضا له من المدنيين والجنود، وهنا ينقل بيرغمان عن كوبي قوله “لقد عرفت بالتحديد ما حصل. كان شالوم يعتبر ان اي شخص يقوم بعمل ارهابي يجب ان لا يبقى على قيد الحياة، لذلك لم أُفاجأ عندما تبلغت ان الاسيرين لن يصلا الى مركز التحقيق.. فذهبت الى بيتي وآويت الى فراشي لاني اعتبرت ان الامر برمته قد انتهى”.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  يافا والجواهري.. قصائد عشق وحكايات