ليست مجرد باخرة

أياً كانت المواقف والملاحظات التي قد يسجلها البعض على سياسات حزب الله، فإنه ومن باب توصيف المشهد، لا يمكن القول إلاّ أنّ خطوة استجلاب البواخر الإيرانية أدّت وظيفتها السياسية بامتياز، عدا عن وظيفتها الخدماتية.

ليست مجرد باخرة، بل “باصرة” بلغة ورق اللعب (الشدة). الكباش بين أميركا (أميركا هذه المرة بالاسم، لا اسرائيل) و”حزب الله”، خُتم في جولته الحالية لمصلحة الأخير. الأمر يتخطى مسألة استجلاب المازوت اليوم أو البنزين غداً إلى ما هو أكبر وأبعد.

الارتياح الذي عبّر عنه السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير، بصوته وملامحه، كان لافتاً لإنتباه جمهوره والجمهور الآخر. ارتياحُ منتصرٍ بعد رحلة انهاك. العبارة التي ختم بها خطابه المبوّب بأنّ دم الشهداء لن يضيع سدى لأنه في يد الله، كانت بمثابة خلاصة للخطاب لا مجرّد خاتمة وحسب، كأنه يراد من خلالها الرد على المقولة التي يوجهها الخصوم بل وحتى بعض أصدقاء الحزب بأن ما يبذله حزب الله ويكسبه في العسكر يخسره في السياسة. جاءت البواخر هذه المرّة لتثبيت استثمار سياسي يُكمل المسار العسكري..

بوصول الباخرة الإيرانية الأولى إلى لبنان سالمة غانمة، يعيد حزب الله ذاته إلى موضعه ومكانته التي يريد. إلى ساحته الواسعة كما إلى حجمه وتأثيره وفاعليته في الاقليم ككل، وإن كانت بطاقة العبور حاجة داخلية. اللعبة التي غرق فيها حزب الله داخلياً ثم حوصر عملياً وأحرج من خلالها فكرياً، خرج منها فائزاً بأدوات أو وسائل خارجية. لم يكسب صورة المنقذ داخليا كما جاء في “نيويورك تايمز”، بل ينسحب الأمر ليصبح فوزاً في جولة اقليمية من جهة، وفكرية من جهة أخرى. وتلك الأخيرة غاية في الأهمية بالنسبة لحزب الله، كونه يبني خطابه على أساسه.

يظهر حزب الله نفسه اليوم منتصراً بالفعل لا لسياساته فحسب، بل لمنظومته بالكامل. صورة المنقذ الداخلي تنعكس في أدبياته كصورة للشيعية السياسية المُنقذة.. وهذه لحظة مفارقة تهمه ايما اهتمام.

سياسياً، يحيلنا هذا الكسب السياسي لحزب الله لما صرح به الديبلوماسي الأميركي جيفري فيلتمان في أوائل عام 2021، عندما نعى سياسة الضغوط والعقوبات الأميركية ضد سوريا وإعتبرها “سياسة فاشلة”.. لم “تؤدِّ إلى تغيير سلوك الحزب تكتيكياً واستراتيجياً”. شكّك فيلتمان وقتذاك بقدرة إيران على مساعدة حلفائها اقتصادياً كما ساعدتهم عسكرياً.

خطوة البواخر ليس هي الحل بطبيعة الحال. لا تعدو ان تكون إنعاشاً خفيفاً، وهذا ما يردده حزب الله نفسه. في المقابل، لم يقدم أي حزب سياسي لبناني آخر أي خطة ولم يبادر إلى خطوة لبلسمة جروح اللبنانيين. المؤسف أكثر أن بعض أحزاب لبنان، ومنها القريب والصديق لحزب الله نفسه، شريكة في مافيا الدواء والمحروقات

لم يكن شكه في محله. ما بيّنته خطوة البواخر أبعد من عجز أميركا على تغيير سلوك من تفرض عليهم عقوبات وتحاصرهم. أظهرت البواخر أن الأمر ارتدّ على الأميركيين، وأدى إلى تغيير سلوكهم هم، لا العكس. لكن هل تعتبر العقوبات السبب المباشر في تلك الردة؟

بالتأكيد لا. ثمة لحظة سياسية مغايرة، ينكفئ فيها الأميركيون عن المنطقة وعن مناطق أخرى بهدف التحشيد ضد الصين. خطوة البواخر الايرانية ليست سوى جزئية مكملة لتركيبة البازل. المشهد الذي بدأ من افغانستان إلى العراق، ولم ينته في لبنان، يخفي إعادة تشكيل للتركيبة السياسية ككل بلحاظ الاهتمام الاميركي المتزايد بالشرق الأقصى على حساب الشرق الأوسط. ثمة حديثٌ يدور عن تفاهمات تحت الطاولة ستؤدي إلى تعزيز الدور الروسي على حساب الدور الإيراني في سوريا كضمانة لحفظ أمن إسرائيل وتقديم تنازلات معينة وإن غير ظاهرة، في مقابل تقوية دور حزب الله في لبنان وإعادة إعطاء عناصر قوة لسوريا في الداخل اللبناني، بالشكل الذي لا يشبه نظام الوصاية سابقاً. وسيكون لذلك بصمته على العلاقات العربية ـ العربية ككل.

خطوة البواخر ليس هي الحل بطبيعة الحال. لا تعدو ان تكون إنعاشاً خفيفاً، وهذا ما يردده حزب الله نفسه. في المقابل، لم يقدم أي حزب سياسي لبناني آخر أي خطة ولم يبادر إلى خطوة لبلسمة جروح اللبنانيين. المؤسف أكثر أن بعض أحزاب لبنان، ومنها القريب والصديق لحزب الله نفسه، شريكة في مافيا الدواء والمحروقات. سنتان من عمر الأزمة إشترت خلالهما السلطة الوقت على حساب الناس، وستأتي في نهاية المطاف أنصاف حلول عن طريق بيع املاك الدولة واللجوء إلى صندوق النقد الدولي، وما يعني ذلك من تبعية لأدوات أميركا نفسها.

يبدو أن مرحلة جديدة بدأت في المنطقة، سيكون انعكاسها لمصلحة حزب الله في الداخل اللبناني، وبالتالي سيدخل حزب الله الانتخابات البرلمانية المقبلة مرتاحاً أكثر من ذي قبل. حزب الله الذي استثمر في التركيبة اللبنانية وقدم انجازات في صراعه مع اسرائيل في إطار هذه التركيبة، يستعد لأن يصبح أكثر استفادة وقوة. ماذا بعد؟

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  نصرالله وديفيد هيل: الإستقرار، الحريري، الستاتيكو!
ملاك عبدالله

صحافية لبنانية

Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  رؤية إسرائيلية للعراق: أولوية تصعيب مهام الإيرانيين!