“الجماعة” أطلقت النار على المنصة.. لكنها مسؤولية السادات!

كان اغتيال الرئيس «أنور السادات» في حادث المنصة الدموى قبل أربعين سنة بالضبط حدثا جوهريا في التاريخ المصري الحديث ألقى بظلاله على ما بعده.

في (6) أكتوبر/تشرين الأول (1981) سجلت الكاميرات وقائع الاغتيال أثناء عرض احتفالي عسكري بانتصار أكتوبر.
كانت تلك مفارقة أولى.
بأي حساب سياسي أو أمني لم يكن مستبعدا احتمال الوصول للرئيس، لكن لم يتوافر الحد الأدنى من الإجراءات الكفيلة بمنع ذلك الاحتمال.
وكانت تلك مفارقة اخرى.
قبل شهر واحد من حادث المنصة، جرت أخطر وأوسع حملة اعتقالات في التاريخ المصري الحديث، شملت قيادات فكرية وسياسية وصحفية من أجيال وتيارات مختلفة ورجال دين كبار مسلمين ومسحيين دون مسوغ مقنع باسم وأد الفتنة أطلق عليها في الإعلام “ثورة (5) سبتمبر/أيلول”.
أفلتت الحوادث عن كل قيد والتفاعلات عن أي احتمال.
بدا كل شيء من تصرفات وأعمال محتملا في ظل أجواء عصيبة سادت البلد.
لم يكن أحد يعرف ما قد يحدث غدا، أو إلى أين تندفع الحوادث اللاهثة.
غلبت على «السادات» عصبية مفرطة في اللفظ والفعل إلى حدود يصعب أن يحتملها أي نظام دون اهتزازات عميقة تفضي إلى تقويضه.
باليقين فهو يتحمل المسئولية الأولى عن تسميم المجال العام وإشاعة الفتن في جنباته.
كانت مقاليد السلطة استتبت له عندما داهمت نيران الفتنة الطائفية مصر يوم (٦) نوفمبر/تشرين الثاني (١٩٧٢) في مركز «الخانكة».
لماذا هبت الفتنة في ذلك الوقت بعد عقود طويلة خمدت فيها نيرانها؟
ينسب لتجربة «جمال عبدالناصر» أنها ضربت الأساس الاجتماعي للنخبة القبطية وجردتها من أراض وممتلكات ومصانع بالقوانين الاشتراكية.
هذا اتهام شائع وله صدى، رغم أن القوانين نفسها طبقت بلا تمييز واستفادت من ثمارها الطبقة الوسطى والفئات المحرومة بغض النظر عن الانتماء الديني.
بقدر عمق التحولات وما انطوت عليه من فلسفة اجتماعية تعمل بقدر ما تستطيع على إشاعة العدالة والمساواة وإعلاء قيمة المواطنة تأكد التماسك الوطني وخفتت النزعات الطائفية إلى حدود كبيرة.
ما الذى استدعى الفتنة من مكامنها، ولم يكن النظام الجديد قد كشف عن توجهاته فى النظر إلى حقوق المواطنة والبلد يتأهب لخوض حرب تقرر مصيره؟
تبدى احتمال أن يكون هناك من طلب إرباك الوضع الداخلي، أو تفجيره بالفتن، قبل أية مواجهات عسكرية منتظرة، لكنه لم يثبت ولا قام عليه دليل.
أرجح الاحتمالات هو الجو العام نفسه.
لم يكن الرئيس الجديد مقنعًا لقطاعات كبيرة من المواطنين بقدرته على ملء فراغ سلفه الراحل، وريح المعارضة تهب عليه من داخل نظامه وخارجه على السواء.
بدأ التفكير مبكرًا، وهذا ثابت ومؤكد بشهادات واعترافات، في استخدام الورقة الدينية لضرب التيارين الناصري والماركسي.
جرت اتصالات لعودة أقطاب جماعة «الإخوان المسلمين» من الخارج والتصالح معها.
برز فى الحلقة المقربة «محمد عثمان اسماعيل» محافظ أسيوط الأسبق صاحب العبارة الشهيرة: «أعداء النظام ثلاثة، الشيوعيون والناصريون والأقباط».
وكان قد شرع في تأسيس «الجماعة الإسلامية» بالجامعات المصرية لمواجهة الطلاب اليساريين الذين يعارضون «السادات».


كانت اللعبة في بدايتها ولم تأخذ بعد كامل أبعادها مثل إعلان «السادات» أنه «رئيس مسلم لدولة مسلمة»، لكنها وفّرت بيئة سلبية احتضنت الفتنة وزكت نيرانها، التي داهمت المصريين على غير توقع أو انتظار.
شكلت لجنة برلمانية لتقصي الحقائق ترأسها الفقيه القانوني الدكتور «جمال العطيفي»، انتهت بعد عشرين يومًا إلى استخلاصات وتوصيات لاقت قبولًا عامًا، لكنها أودعت الأدراج إلى الأبد!
بمضي الوقت استقرت حقائق المشروع المضاد لثورة (23) يوليو.
تفكيك الاقتصاد الوطني أسس لطبقة جديدة وظيفتها مساندة نوع معين من السلام.
وتفكيك نظرية الأمن القومي أسس لتراجع المكانة المصرية في محيطها وقارتها وعالمها الثالث.
كان ذلك تكريسا للمناخ العام المسمم، الذي أفضت تداعياته إلى حادث المنصة.
«ـ هل ينفعنا قتل مليون؟».
«ـ قد ينفعنا قتل واحد فقط».
كان ذلك حوارا تخيليا فى رواية «نجيب محفوظ» «ليلة مقتل الزعيم» بين بطلي الرواية بداعي اليأس من إتمام مشروع زواجهما في زمن الانفتاح بعدما خطبا فى زمن الناصرية.
فى ذلك النص الروائي جرت إدانة عملية اغتيال «السادات» على لسان الخطيبة «راندة سليمان مبارك»: «يا للفظاعة! ألا توجد وسيلة إلا القتل».


بتعبير وزير داخليته «النبوى اسماعيل» (٢٠٠٣): «الجماعات الأصولية عفريت أخرجه السادات من القمقم ولم يعرف كيف يصرفه».
بعد حادث المنصة دخلت مصر في موجات متلاحقة من العنف والإرهاب أمكن السيطرة عليها بتكاليف باهظة، لكنها لم تستوعب ضرورات الانتقال إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
هاجس التيارات الإسلامية لم يصنع وحده مشهد الأعصاب المنفلتة.
بدت المعارضة المدنية المتزايدة هاجسا آخر دعا «السادات» إلى الزج برموزها في السجون.
في التوقيت نفسه، ضغطت على أعصابه شكوك عميقة أن هناك من يحرض على التخلص منه داخل دائرة الحلفاء المفترضين.
مطلع يناير/كانون الثاني (1981) نشرت صحيفة «الجيروزاليم بوست» الإسرائيلية أن مسئولا مصريا بارزا فى ذلك الوقت نصح الرئيس «السادات» بـ«ضرورة تنظيف المنزل»، فـ«البلد لا يحتمل صراعًا سياسيًا ولا صراعًا على السلطة»، وأنه حذر الرئيس من أن السفارة الأمريكية بالقاهرة تبدي اهتمامًا كبيرًا بصراعات السلطة، وأن هناك تقريرًا جديدًا للاستخبارات الأمريكية يتوقع أن يغادر «السادات» السلطة بعد عشر سنوات من توليها، أي فى أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وهو ما حدث بالفعل.
بغض النظر عن أي أسرار وخفايا في قصة اغتيال «السادات» فإنه كان هناك فعلا من يرى أن التخلص منه يفضي للوصول إلى نقطة استقرار مستدامة دون أي اضطرابات تتسبب فيها طبيعة شخصيته.
الجماعات الإسلامية تولت إطلاق النار، هذا ثابت ومؤكد، لكن «السادات» يتحمل المسئولية الرئيسية عن الدفع بالحوادث إلى المنصة الدامية.

إقرأ على موقع 180  واشنطن – الرياض.. "المصالح" تتقدم على "الصداقة"!

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
عبدالله السناوي

كاتب عربي من مصر

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  المُقامِر أو المُغامر!