لبنان الحرّيّات والعصابات.. والفئران البيضاء!

لا يستطيع أحدٌ في لبنان أن يتولّى أيّ منصبٍ في الإدارة العامّة، ما لم ينجح في اختبارٍ خاصّ. فهو مُلزَم بأن يحوز "شهادة حسن سلوك" من ركنٍ فاعل في السلطة السياسيّة والطائفيّة. شهادة، تقتصر على نيل رضى "هذا الركن" واطمئنانه إلى أنّ الطامح للمنصب، لن ينتهج سياساتٍ أو يتّخذ قراراتٍ يُمكن أن تُهدّد، يوماً، مصالح الركن المذكور.

بات هذا النهج ككتابٍ مقدّس يُجبِر “القادرون في بلدنا” كلّ الساعين إلى تبوّؤ المناصب أن يُقسِموا، وبالله العظيم، عليه. ويتمدّد هذا النهج ليطال، أحياناً، المناصب التي تأخذ شرعيّة وجودها من الناس والناخبين. إذْ تتمّ “هندسة الجماهير” (التعبير المستخدَم لتأثير وسائل الإعلام) وبناء اتجاهاتها، لتزوير هذه الشرعيّة للطبقة الحاكمة برمّتها. لكن، عندما يصل “سيف السلطنة الطويل” إلى عنق الحركة النقابيّة، فمعنى ذلك أنّ مصيبتنا مهولة.

نحن لا نتحدّث هنا، بالطبع، عن النقابات العمّاليّة التي قضت السلطة اللبنانيّة عليها بالكامل منذ بداية تسعينيّات القرن الماضي. أي، عندما كانت تلك النقابات، ذات الموقع الاجتماعي الاقتصادي الواضح، في مقدّمة القوى القادرة على صنع التغيير والتأثير في تشكيل السلطات. إنّما المقصود بالكلام اليوم، هي نقابات المهن الحرّة. تلك التي تضمّ جميع الشرائح الاجتماعيّة، على عكس النقابات العمّاليّة التي تضمّ أُجراءً وعمّالاً.

وهذا التنوّع في نقابات المهن الحرّة هو الذي يحدّ، في الحقيقة، من “قابليّتها” للعب دورٍ مؤثّر في عمليّة التغيير وإعادة توزيع السلطة. فالنزعة التغييريّة غير متجذِّرة فيها. هذا ما برهنته التجربة، عقب انتفاضة 17 تشرين. بدليل فوز أحزاب السلطة في انتخابات نقابة المهندسين قبل أيّام قليلة. ونقابة الأطبّاء في أيّار/مايو 2022. وقبلها في انتخابات نقابة المحامين في بيروت في تشرين الثاني/نوفمبر 2021. فما أن يقع إشكالٌ سياسي معيّن، سرعان ما تنقسم هذه النقابات في ما بينها (على عكس ما يحصل في الغرب حيث يكون تركيزها على المهنة وليس على السياسات الاقتصاديّة الاجتماعيّة).

أَوَلمْ ينقسم المحامون عموديّاً قبل أسابيع بشأن قرار مجلس نقابتهم تعديل النظام الداخلي للنقابة، ومنع المحامين من إبداء أيّ رأي في الإعلام، قبل الحصول على إذنٍ من النقيب؟ بلى. فانقسامهم، لا يمكن النظر إليه إلاّ من زاوية محاولة السلطة السياسيّة استغلاله والاستثمار فيه. أمّا التعديلات المطروحة، فبدت وكأنّها فُصِّلت على مقاسٍ محدَّد. ووُضِعت لقمع فئةٍ معيّنة من المحامين الساعين إلى تحويل القانون إلى سلاحٍ ضدّ السلطة. صاغ مجلس النقابة تعديلاتٍ، اعتقد أنّه، من خلالها، يستطيع تقييد حرّيّة المحامين. ومنعهم من التداول بالقضايا القضائيّة والحقوقية، التي تواجه طغيان السياسة والأمن، وإعلانها للناس.

تختزل قضيّة هؤلاء المحامين، حاليّاً، كلّ ما يستوجب مناهضته والوقوف في وجهه في لبنان. فقضيّتهم ليست مسألة عقابيّة لمجموعة معارضين تجاوزوا، برأي مجلس نقابتهم، ضوابط المهنة وأخلاقيّاتها. بل إنّه استخدامٌ فاضح لمجلس نقابةٍ حقوقيّة، ترفع لواء العدالة والحرّيّات، كمطيّة وأداةٍ لتصفية حسابات السلطة مع مجموعةٍ من الأحرار

فبعدما فشل نظامنا السياسي في استخدام “أسلوبه المعياري” في التوجيه المتسلّط لمعظم أعضاء النقابة، لجأ إلى التهديد والوعيد. واعتقد المهدِّدون أنّ تهديداتهم القسريّة لبعض المحامين، ستوفّر لهم دافعاً داعماً لتثبيت شرعيّتهم. فلا تنسوا أنّ الوظيفة الرئيسيّة للشرعيّة هي، على وجه التحديد، تبرير القوّة القسريّة والدفاع عن التفسير القائم على الإكراه، كما يقول الفيلسوف البريطاني Leslie Green.

فقرارات مجلس نقابة المحامين الأخيرة، ولا سيّما قضيّة استدعاء المدير التنفيذي لـ”المفكّرة القانونيّة” المحامي نزار صاغيّة، لا يُمكن فصلها عن التحوّلات السياسيّة التي شهدتها مرحلة ما بعد 17 تشرين. فمذّاك، والسلطة اللبنانيّة تجهد لطيّ صفحة تلك “المرحلة المشؤومة”. طيّها بالمطلق. ومن أجل ذلك، تطمح، وبشقّ النفس، لفرض سطوتها على المحامين. والعودة بهم إلى زمن الوصاية السوريّة حيث كانت تُفرَض عليهم الشروط والقيود “الملائمة”. تأمل السلطة باستعادة ذاك الزمن، بشدّة. لكن، من المستحيل تحقيق هذه المهمّة، من دون “إعادة تنظيم” المؤسّسات القادرة على التأثير في الرأي العامّ. مؤسّسات محسوبة، تقليديّاً وتاريخيّاً، على الدولة في لبنان. ونقابة المحامين تُعتبَر من أهمّ هذه المؤسّسات. وبعد؟

تقود السلطة السياسيّة اللبنانيّة بكلّ أدواتها، وأكثر من أيّ وقتٍ مضى، حملة ممنهجة للقضاء على الأصوات التي تفضح قضايا فسادها أمام الرأي العامّ وتجعلها عُرضةً للمساءلة. والمحامون والحقوقيّون والصحافيّون، من أمثال نزار صاغيّة، يشكّلون عيّنة من هذه الأصوات. فهُم يمتلكون ما يكفي من التأثير القانوني وتفنيد الملفّات والنفوذ لتجييش الرأي العامّ. وإحباط الصفقات المشبوهة. وافتضاح الممارسات داخل النظام ومنظوماته. وتهشيم صورة الفاعلين في السلطة. وإعادة تشكيل ملامحهم خارج هالتهم كحُماة للبلاد وضمانة للسلم الأهلي. لديهم ما يكفي، لعرقلة نهج السلطة الجهنّمي. ذاك النهج الذي نكتشف، يوماً بعد يوم بل في كلّ لحظة، كم أنّه لعين. وكم أنّه قادر على تحصين نفسه ضدّ العدالة!

تختزل قضيّة هؤلاء المحامين، حاليّاً، كلّ ما يستوجب مناهضته والوقوف في وجهه في لبنان. فقضيّتهم ليست مسألة عقابيّة لمجموعة معارضين تجاوزوا، برأي مجلس نقابتهم، ضوابط المهنة وأخلاقيّاتها. بل إنّه استخدامٌ فاضح لمجلس نقابةٍ حقوقيّة، ترفع لواء العدالة والحرّيّات، كمطيّة وأداةٍ لتصفية حسابات السلطة مع مجموعةٍ من الأحرار. ممّن لا يزالون يعترضون بشجاعة لمواجهة القمع وإعلاء الدور الريادي للنقابات الحقّة. هؤلاء المناضلون مصيرهم بخطر. تُصوّب عليهم السلطة لإلغائهم. ولجعلهم عبرة لغيرهم. ثمّة ما يُنذِر بذلك. فعدوّنا في هذه المعركة، هو الذي يُقدّم الدلائل على ما ينوي القيام به. خطاباتٌ وتصريحاتٌ وتغريداتٌ ومقارباتٌ، لا تحتاج إلى الشرح الكثير. ولا إلى التفسير الوفير.

إقرأ على موقع 180  ترامب يُحاكَم أم يُرشّح للرئاسة؟

السلطة السياسيّة تقوم بتضييقٍ ممنهج على أهل الرأي في لبنان. وعلى كلّ مَن تسوّل له نفسه أن يتكلّم للاعتراض. فسلطة الكلام لها، وبشكلٍ حصري. أو بالأحرى، السيطرة على الكلام هدفها الثمين (هذا ما يعنيه منع الكلام إلاّ بإذنٍ مسبق من النقيب). من هنا، يتوجّب علينا أن ندرك أنّنا كلّنا مستهدفون اليوم. نحن المتمسّكين بوطن العدالة الاجتماعيّة والمساواة. وببلدٍ لاطائفي. وبدولة القانون والمؤسّسات. ليست معركة الدفاع عن الحرّيّات تفصيلاً أو حِكراً على مجموعةٍ معيّنة أو نقابةٍ محدَّدة. لكنّ انهيار نقابة المحامين، إذا حصل، لن يكون كانهيار أيّ نقابةٍ أخرى. إذْ عندما تكبو هذه النقابة، فسيهوي معها القضاء والمواطنون والنقابات كافّة.

كلمة أخيرة. ترتعب السلطة الحاكمة في لبنان من كلّ ما له علاقة بالحرّيّة والتحرّر. إنّها تخاف، بشكلٍ خاصّ، من الضوء. فذاك الخوف يأسرها. يؤرقها. يقضّ مضاجعها. لذا تسعى، وبكلّ قواها، لإبقاء اللبنانيّين في الظلام. وعليه، حوّلت لبناننا إلى أقبية. لا شموساً تخرقها ولا أقماراً، أيضاً. حوّلت بلاد الأرز إلى حقل تجارب حشرتنا فيه كالفئران البيضاء. وهي تحاول (وستظلّ تحاول) تحديد العلاقة بين الترتيب المكاني (لهذا الحقل) وطبيعة العلاقات التي تنشأ عنه (بين الفئران). أحياناً تنجح في إنهاك الفئران وتدجينها، فتموت هذه الأخيرة سريريّاً. وأحياناً أخرى، تصبح هذه الفئران أشرس وأكثر عدوانيّة وعنفاً. فالسلطة اللبنانيّة الحاكمة تستسقي العنف، يا أصدقاء. بل الأصحّ أنّها تستسقي الدمّ. لكن فلتعلَمْ، أنّنا في مواجهةٍ لن تنتهي معها. صراعنا معها هو صراعٌ مصيري. وجودي. ولن يأفل إلاّ بأفول أحدنا: إمّا هي وإمّا نحن. فلا مكان لنا سويّةً في هذه الحياة. ولا في أيّ حياةٍ أخرى. إقتضى التأكيد.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180   شباب عربي ثائر.. لأي مشروع؟