تركيا عن التاريخ والحاضر.. والمستقبل (1)

منذ أكثر من مائة عام ومنطقتنا تعيش تداعيات انهيار السلطنة العثمانية ونهايتها وما أفضى إليه من تحول جيوستراتيجي كبير نتج عنه تشرذم وتفتيت المنطقة العربية أوّلًا، ثم تقسيمها إلى مناطق نفوذ للدول الغربية الكبرى الوريثة ثانيًا، زرع الكيان الإسرائيلي الذي أشعل حروبًا مدمّرة وشروخًا وجروحًا لا تندمل ثالثًا.

في الواقع، إنّ أيّ عمليّة نهوض للمنطقة العربية واستعادة حضورها وحريّتها ومكانتها، لا يمكن أن يقوم به إلّا طرفٌ تحرّر من ذهنية قراءة التاريخ على أساس تخيّلات مذهبية وعرقية تُقيّد فهم التاريخ بعُقدِ القهر والظّلم. فالموروث لا يُمثّل أمرًا قد حدث وانقضى، بل هو أمرٌ دائم التجدّد، ويخضع لتجارب عديدة، بحسب الباحث الأميركي ريتشارد بالمر، لأنّ الفهم أمرٌ تاريخيٌ ناظرٌ إلى الأزمان الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، وعليه، يضيف بالمر، “الموروث هو من الماضي، لكن له في الحاضر أهميّته الخاصّة أيضًا، وهو كذلك منفتح على المستقبل وممرٌ له”.

وكلّ دولةٍ تكتب التّاريخ لتدرّسه، وهذا تحديدًا ما ينطبق عليه مصطلح “التاريخ الغائيّ” (Teleology)، فهو يُكتب من أجل هدف معيّن، غالبًا ما يكون سياسيّا، في عمليّة مركبّة لبناء وعيٍ جماعي لشعبٍ بأكمله. وكلامنا هنا ليس في محلّ تلميع صورة العثمانيين، أو تثبيت ما أُلصق بهم من تهمٍ ومثالب، بل هو محاولة لقراءة أشمل، تأسيسًا لفهم واضحٍ للحاضر، مع دولة نتشارك معها الجغرافيا والتاريخ، والتأثيرَ المتبادل على المستقبل.

غزاة أم فاتحون؟

من هذه النقطة، ينطلق المؤرّخ التركي إيلبير أورتايلي في كتابه “العثمانيون في ثلاث قارّات”. يرى أورتايلي أنّ هناك مشكلة كبيرة تُعاني منها المنطقة التي نعيش فيها، وهي عدمُ قُدرتها على إيصال المعلومات والتّاريخ كعلمٍ إلى الجماهير. وممّا لا شكّ فيه، يتابع أورتايلي، أنّ القوميّات التي عملت للتخلّص من الهيمنة العُثمانيّة، قد سعت إلى إعادة تشكيل الماضي وفقًا لرغباتها، ولم تعمد إلى تقديم أيّ تنازلات في سبيل الوصول إلى الهدف المتمثّل بإحلال جوّ من الصداقة، من خلال كتب التّاريخ المدرسيّة لها. وعليه، يدعو الكاتب، إلى إعادة النظر بالإدّعاءات التي لا سند لها، أو الّتي يُدّعى وجود سندٍ لها لم يتم تقصّي صحّته.

كان النّبلاء في تلك المناطق يُشرفون على أراضيهم، فيضغطون بقسوة على المزارعين والفلاحين لبذل جهد أكبر، لأنّ اعتماد حياتهم واستمرار وجاهتهم وقيادتهم، كان قائمًا على ما يجنونه من عائدات تلك الأرض، عدا عن كونها تُورّث لأبنائهم، ما يعني إغلاق دائرة الغنى والفقر هناك

هذا التّاريخ، تُهيمن عليه في يومنا هذا، روحيّةُ أوروبا الغربيّة التي هَزمت السلطنة العثمانية، وقد تسلّل إلينا بفعل الإستعمار الغربي من جهة، وكتأكيد على “التحرّر” و”الإستقلال الوطني” من جهة أخرى. وقد لاحظ العديد من الكتاب الغربيين الحاجة إلى إعادة قراءة وكتابة هذا التاريخ، بعيدًا عن العقليّة التحريضيّة التي حكمت الصّراع العثماني الإسلامي مع الأوروبي المسيحي.. وبول كولز واحد من هؤلاء الكتاب.

في كتابه “العثمانيون في أوروبا”، يرى كولز أنّ المَناظر التي تدعو للأسى، والّتي ما زالت كامنةً في الخيال الشّعبي لشعوب البلقان المسيحيّة، تلك التي تُصوّر العثمانيين غزاةً سفّاحين متعطشين للدماء، ما هي إلّا نتيجةً للدعايةِ الّتي سادت يوم كانت الرّوح الصّليبيّة هي الغالبة، وكان الهابسبورج (إحدى أهم العائلات الألمانيّة التي حكمت في أوروبا) وباباوات روما هم عصب هذه الدعاية. ويضيف كولز، بأنّ بعض المؤرّخين الحديثين، الذين يبحثون عن حكمٍ أكثر توازنًا، ربّما سمحوا لأنفسهم بالتأثّر بصورةٍ مفرطة بالأدلّة الّتي تُشير إلى أنّ العثمانيّين كانوا يُستقبلون كمحرّرين، أكثر من كونهم غزاةً غاضبين.

المقارنة الموضوعيّة

حين تقرأ الأحداث التاريخية، عليك أن تُقاربها بواقع ذلك الزمان، لا بعين زمانٍ مختلف، كذلك حين تعقد المقارنة بين دولةٍ وأخرى، أو نظامٍ وآخر، من البديهيّ أن تكون المقارنة خاضعة لنفس المجال الزماني الواحد، وعليه، تُصبح الخلاصات والنتائج أكثر موضوعيّة وواقعية. لنأخذ ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ قضيّة الإقطاع في فترة اشتداد الصراع العثماني الأوروبي، أي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ميلادي.

يعرض بول كولز مقارنة بين أداء الإقطاع الأوروبي والإقطاع العثماني في تلك الفترة، فيُقدّم سياقًا قد يبدو مفاجئًا للبعض، خاصة غير المتخصّصين، في العلاقة بين الغزاة العثمانيين وشعوب بعض الدول التي احتلوها وسيطروا عليها، إذ يُشير إلى وجود أدلّة كثيرة، خلال هذين القرنين، تُظهر ترحيب السّكان المزارعين في البلقان وأواسط المجر بالعثمانيين، بل هم ذهبوا أبعد من ذلك، كما يشرح الكاتب، من خلال تقديم المساعدة لهم، والسبب في ذلك، أن وسائل الأشراف والنبلاء في تلك المنطقة، كانت تتسم بقدر كبير من القسوة والوحشية، فاق ما اتسم به نظراؤهم في أوروبا الوسطى والغربية، في حين كان الإقطاع العثماني ـ على سبيل المقارنة ـ يقوم على النظام الإجتماعي المعروف بالتيمار، وهو نظام لا يُورّث، وإنّما يتقلّده السباهيّ (وهو فارسٌ محارب) مقابل خدماته الحربيّة.

كان النّبلاء في تلك المناطق يُشرفون على أراضيهم، فيضغطون بقسوة على المزارعين والفلاحين لبذل جهد أكبر، لأنّ اعتماد حياتهم واستمرار وجاهتهم وقيادتهم، كان قائمًا على ما يجنونه من عائدات تلك الأرض، عدا عن كونها تُورّث لأبنائهم، ما يعني إغلاق دائرة الغنى والفقر هناك. في حين كان الإقطاعيُّ العثمانيّ السِباهيّ، غائبًا في المعارك طوال فترة الصّيف، مُنكبًّا على جمع الغنائم والأسلاب، على اعتبارها مصدر ديمومة وجاهته ورزقه، وأكثر فائدةً من القسوة على “رقيق الأرض” التابعين له. إضافةً إلى أنّ “رقيق الأرض”، كانوا يُؤدون خدماتهم إلى أسيادهم في شكل أعمالٍ غالبًا، أكثر ممّا يؤدّونه في شكل أموال وبضائع، كما كان يفعل أقرانهم في الإقطاعات الأوروبيّة.

التسامح الدّيني والتساهل الذي حكم السّلطنة العثمانية، لم يُجبر أهالي الأقاليم والمقاطعات الأوروبية التي سيطروا عليها من التحوّل من المسيحيّة إلى الإسلام، وهذا كان واحدًا من الأسباب الحاسمة التي قوّضت السلطنة في ما بعد، وأعادت انكماشها إلى منطقة الأناضول

القراءة من زاوية مختلفة

إقرأ على موقع 180  هل قررت تركيا أن تخسر واشنطن؟

ما يفعله أندرو كروفت في كتابه “العثمانيون ـ تفكيك الصّور”، أنّه يقدّم الرّواية ومقابلها في فهم العثمانيّة والعثمانيين. ففي حين ينقل وجهة نظر جون لِيلي في كتابه “يوفيوس ـ تشريح العقل” (1578م)، وفيه يصف الأتراك بأنّهم “كريهون ومتوحشون”، ويُبرز صورة نمطية سادت في تلك القرون عن التركي “الفظيع” و”المتخلّف الذي يأكل الأطفال وهم أحياء” (تُفيد الأمهات في معرض تخويف الأولاد الأشقياء)، فإنه ينتقل إلى وصف جياكومو دي لانغشوني الشّاب القادم من البندقيّة، والذي التقى محمّد الفاتح بعد أيام من فتح القسطنطينيّة، فيستخدم عبارات لو أنّها استخدمت في وصف ملك غربي، لكانت لأحد الفرسان: “نبيلٌ يمتشق السلاح، ذو مظهر يبعث على الخوف بدلًا من الهيبة، قليل الضّحك، يسعى وراء المعرفة، يتحدّث بثلاث لغات هي التركية والإغريقية والسلافية. وكان يسعى وراء المعلومات بجدً ومثابرة..”.

يرى ويتكروفت أنّ العثمانيين كانوا أكثر عقلانيّة في التعامل مع رعيّتهم من معاصريهم الأوروبيّين. فمن لم يتمتعوا بعضويّة الطبقة الحاكمة كانوا يُسمّون “رعايا”. ويُضيف، بأنّ النهج العثمانيّ كان براغماتيًا، إذ كان يسمح لليهود والمسيحيّين داخل الإمبراطوريّة بحريّة ممارسة دينهم، ولكنّهم كانوا مطالبين بدفع ضريبة خاصة مقابل هذه الميزة. وهذا ما يؤكد عليه كولز في كتابه السابق، إذ يرى أنّه نادرًا ما تدخّل العثمانيّون في حياة رعايا السّلطان من غير المسلمين، فالأديرة الأرثوذكسيّة الكبرى في اليونان ومقدونيا، على سبيل المثال، كان كثير منها يحكم مقاطعات واسعة، وكان الديريون يحتفظون بحقوقهم كاملة في إدارة أمور الفلاحين في هذه المقاطعات، كما كانت هناك قرى حرّة تعيش آمنة لم يُزعجها أحد، ويحكمها كبار السنّ من أهلها، في مقابل دفع الضّرائب أو تقديمهم جنودًا مجهزين للبحريّة العثمانية. ويضيف كولز، أنه كانت هناك اختصاصات تشريعيّة بعينها في البلقان، تُحال بأكملها إلى الإكليروس، حيث يقضون فيها تحت إشراف بطريرك المنطقة، بينما كان الهوس الديني والتعصّب المذهبي في تلك الفترة المعاصرة يُسيطر على عموم أوروبا، كحروب الكاثوليك والبروتستانت، أو عمليّات التطهير الديني لغرناطة والأندلس وتوابعها، ضدّ المسلمين واليهود في نهاية القرن الخامس عشر.

هذا التسامح الدّيني والتساهل الذي حكم السّلطنة العثمانية، لم يُجبر أهالي الأقاليم والمقاطعات الأوروبية التي سيطروا عليها من التحوّل من المسيحيّة إلى الإسلام، وهذا كان واحدًا من الأسباب الحاسمة التي قوّضت السلطنة في ما بعد، وأعادت انكماشها إلى منطقة الأناضول، وفي المقابل، بدأت أوروبا تستعيد زمام المبادرة، وتتقدّم بخطواتٍ وخطوات علميًا واقتصاديا وعسكريًا على السلطنة العثمانيّة.

(*) في الجزء الثاني والأخير يوم الإثنين المقبل: أردوغان يدرك التاريخ والجغرافيا

 

 

 

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  "الكومنولث" إرث إليزابيث.. عالم ما بعد الإمبراطورية!