يتكالب على السياسة، ولا أجد أبرع من كلمة تكالب ومعناها المكنون في جذرها اللغوي لوصف الحال، أفراد ليست لديهم مهارات نظرية في الغالب ثم انضم إليهم في “عهد الإنقاذ” جيش من المتبطلين الحاصلين على تعليم جامعي محدود وشهادات منعتهم من العمل الشريف في وظائف يظنونها أقل من الوضع الاجتماعي الذي تؤهلهم إليها شهاداتهم!
وبما أن هناك انسداد كبير في سوق العمل وميل سوداني (حقيقي وليس دعاية خليجية مداعبة) لعدم العمل والخمول في مناسبات كثيرة، فإن السياسة هي أحد أسهل وسائل كسب العيش بدون مجهود كبير.
هذا قد يفتح باباً للتأملات النظرية بما لا يسمح به مقالنا هذا، ولكن النقطة التي نرمي إلى التأكيد عليها هي أن الطبقة السياسية السودانية في تشكلاتها المختلفة منذ ما قبل الإستقلال من بيوتات طائفية ورجال قبائل وإدارة أهلية ثم قادة إتحادات طلابية جامعية وجنرالات وصولاً إلى العهد الحالي الذي صار فيه العاطل عن العمل سياسياً حتى يحصل على وظيفة جيدة (راجع قصة معتمد ولاية الجزيرة الذي غادر زعامته السياسية المحدودة، والأمين العام لمجلس الصحافة والمطبوعات وهو بدرجة وزير دولة، وآخرين ركلوا العناوين الكبيرة وذهبوا للإغتراب في السعودية حتى قصة الوزيرة المكلفة بوزارة الصحة الإتحادية التي ذهبت لحضور معاينة وظيفية للعمل في بلد خليجي بصفتها الرسمية)، جميع هؤلاء متفقون على معاداة المعرفة النظرية وأداء وظائفهم دون تفكير ودون معرفة مسبقة (جربندية) ويا لها من مفردة سودانية معبرة.
الآن هناك حديث كثير في أوساط الطبقة السياسية وأتباعها من الغاوين الكثر عن التخطيط لإنقلاب عسكري يقوده الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة. هذا الحديث سياسي بطبيعة الحال وهرج مقصود من أجل الابتزاز وتسول التعاطف الغربي المستبعد.
يمسك الجنرال البرهان فعلاً بالسلطة، ويوفر لها السند والحماية، وكل شيء، نعم كل شيء من مخالفاتها يتم بمشاركته وحمايته وموافقته. كل ما في الأمر أنه يريد الآن استخدام سلطته هذه في تعديل المشهد السياسي والحصول على تحالفات جديدة من مجموعات وأفراد يرى أنهم أصلح لمساندته وتعميده حاكماً أوحداً، وأنهم أكثر كفاءة، وأكبر تجربة، وأوفر احتراماً في الشارع، وأقل ميلاً للتهريج.
***
يشبه الوضع الحالي في السودان المناخ الذي كان سائداً في بيرو في التسعينيات الماضية مع فوارق طفيفة من بينها أن البرهان في السودان لا يحتاج إلى مساندة الجيش أو الأمن وإنما هو يسيطر فعلياً على هذه المؤسسات، وأن الاقتصاد في أسوأ حالاته والأوضاع المعيشية للمواطنين أقرب إلى الجوع
الثقافة الغربية أكثر توفراً على الأدبيات اللازمة لتوصيف واقع الحال، فالخطوة التي ينوي الجنرال البرهان الاقدام عليها وهو يُقدّم رجلاً ويُؤخر رجلاً لا تسمى انقلاباً (Coup) في الأدب السياسي الغربي وإنما هي خطوة مختلفة متعارف عليها في اختطاف الأنظمة السياسية لأهداف مختلفة والكلمة الرائجة لتوصيفها هي المفردة الإسبانية (Autogolpe) التي تنطق أوتوغولبي والتي عبرت إلى سائر اللغات الأوروبية خصوصاً بعد الإجراءات التي اتخذها رئيس بيرو الشهير البيرتو فوخيموري، وهي المفردة القابلة للترجمة إلى العربية بـ”الإنقلاب الذاتي”.
كانت إجراءات فوخيموري نموذجية بالمعنى العملياتي (Operational) ووضعت اسمه في مكان راسخ في أدبيات الانتقال السياسي وتحولات السلطة في دول العالم الثالث وأمريكا اللاتينية.
في العام ١٩٩٠م، فاز فوخيموري ذو الأصول اليابانية فوزاً مفاجئاً على منافسه الروائي الشهير الفائز بنوبل والمدعوم أمريكياً في تلك الانتخابات ماريو بارغاس يوسا. ورث فوخيموري في البيرو نظاماً سياسياً فاسداً، واقتصاداً منهاراً، وطبقة سياسية هشة، ومؤسسة قضائية مخترقة ولم يكن أمامه سوى الاستعانة بالجيش فعطل العمل بالدستور، وحل البرلمان، واتخذ إجراءات مشددة حققت له شعبية واسعة وهو الذي لم يكن المراقبون يتوقعون له الحصول على أكثر من ٣٪ من الأصوات الانتخابية في بداية ترشحه.
أدار فوخيموري ـ الذي كان زعيماً ميّالاً للمواجهات ـ اللعبة برؤية واسعة ونظرية صلبة، فقد أجرى فور اتخاذه الإجراءات الاستثنائية استفتاءً شعبياً سانده فيه الشعب بأغلبية كاسحة ثم كافأه بالفوز في انتخابات جديدة تم تنظيمها وفق دستور جديد ومناخ مختلف، وطبّق إجراءات اقتصادية وتنموية رفعت من شأن بلاده قبل أن يتورط هو ونظامه لاحقاً في الفساد ويفر إلى اليابان موطن أجداده.
***
يشبه الوضع الحالي في السودان المناخ الذي كان سائداً في بيرو في التسعينيات الماضية مع فوارق طفيفة من بينها أن البرهان في السودان لا يحتاج إلى مساندة الجيش أو الأمن وإنما هو يسيطر فعلياً على هذه المؤسسات، وأن الاقتصاد في أسوأ حالاته والأوضاع المعيشية للمواطنين أقرب إلى الجوع، والحكومة التي تمثل النخب المدينية الشابة والعاطلة عن العمل والفقيرة والمعزولة والطامحة في الثراء (أتفادى بصعوبة كبيرة مصطلح البرجوازية الصغيرة) عاجزة تماماً عن أداء مهامها، والاختراق الأجنبي والعمالة له قد بلغت مبلغاً جريئاً غير مسبوق في السودان.
صار الولاء للأجنبي علنياً ولم يعد مصدراً للخزي فقط وإنما صار مصدراً للفخر والتباهي، واخترق التمويل الأجنبي الإعلام فأسّس متبطلون لم يعملوا يوماً واحداً لإعالة أنفسهم وكسب عيشهم منذ عقود مؤسسات إعلامية، وأجروا على عامليها مرتبات ليس لها نظير، واستقطبوا لها رموزاً اجتماعية وفكرية لكنها – وكما ينبغي للبضاعة الفاسدة – كسدت في الأسواق وليس ثمة من يشتريها او يشتري أكاذيبها وهراءها.
انعدم الأمن وضاقت الأقاليم بالسلطة، واكتفت الحكومة المركزية بالبقاء في العاصمة الخرطوم أو التحرك للخارج وكانت تجارب زيارة الكثير من قادتها للأقاليم قاسية (حمدوك في كسلا وسنار، ياسر العطا في عطبرة، حميدتي في سنكات) وغير ذلك حيث واجهتهم الجماهير مواجهات جعلتهم لا يسعون للحديث إليها والقاء الأكاذيب والوعود على أسماعها.
يتأسس النظام السياسي الذي يسعى البرهان والعسكريون إلى تحجيمه وإعادة صياغته على كتل هشة من الأكاذيب فقد تم منح ما يسمى بـ”قوى الحرية والتغيير”، وهي قوى هشة وضعيفة الحضور في الشارع، وهزيلة القيادات من حيث الكفاءة والتجربة، الحق الحصري في تعيين العناصر المدنية في مجلس السيادة وتشكيل السلطة التنفيذية، مقابل الصمت عن جريمة فض الاعتصام والتي راح ضحيتها نفر كبير وغير موثق العدد حتى الآن بشكل نهائي.
نجحت الحيلة وتصرف نشطاء “قوى الحرية والتغيير” وكأنهم يمتلكون تفويضاً بالحديث نيابة عن الشهداء والضحايا وأسرهم، وقرروا (بيع القضية) فوراً، وتجاوزوا – بسرعة – الخلاف مع القوى العسكرية التي نجحت في وضع جزرة السلطة في أفواههم دون أن تمكنهم في واقع الأمر من السلطة الحقيقية (الشوكة) لكنها أغرقتهم بإمتيازاتها.
كما هو متوقع أتت “قوى الحرية” بأقل العناصر كفاءة واستقامة وخبرة وأكثرها حاجة للوظيفة العامة، إذ جاء أغلب من تم الزج بهم في دهاليز السلطة من فترات عطالة ممتدة، أو من وظائف محدودة الأجر للغاية بحيث تمثل لهم المشاركة في السلطة مهما غلا الثمن الأخلاقي، الفرصة التاريخية للإفلات من الأوضاع الشخصية المتردية والمصائر القاسية التي كانوا يساقون إليها. هذا يقدم التفسير الأكثر صدقاً للتحول الكبير في مواقف الكثير من المتطرفين الذين كانوا ينادون علناً بإعدام ذات الجنرالات الذين يلعقون أحذيتهم اليوم. (راجع مقالنا بعنوان “الإصلاح مستحيل“، صحيفة “الصيحة” ١٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٠م).
إذا أراد البرهان قيادة الأوتوغولبي الجديد في السودان فإن الواجب عليه ان يتقدم لجماهير الشعب بمشروع سياسي متماسك وخطاب مقنع وإن عليه المواجهة لا التواري واتخاذ القرار لا التردد فتاريخ هذه التغييرات الداخلية القادمة من دهاليز الحكم تحتاج إلى قيادة جريئة
في غضون ذلك، تدرك النخب العارفة في السودان أن “من الصعب استبعاد الجيش من السلطة فهو ذراعها الرئيسي وناخبها الأعلى صوتاً ومعاونها الأكثر انضباطاً” وتعلم “أن الحديث عن حكومة مدنية مطلقة في السودان أو في أي مكان في العالم، هو من قبيل السذاجة والبلاهة السياسية والتغني بشعارات من نوع (مدنياااو) بما يعني استبعاد العسكرتاريا من السلطة هو محض حلم لم يتحقق في بريطانيا وأمريكا ومحيطنا العربي والأفريقي، فبأي مشروعية وعلى أساس يتحقق عندنا”؟. (من مقال “التصحيح واجب وطني”، صحيفة “الصيحة” ١٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٠م).
***
من الواضح أن الفريق البرهان وطاقمه العسكري وغرفة عملياته المحدودة قد حددوا هدفهم بأن المطلوب هو تعديل المشهد السياسي كله بحيث يضمن لهم الغلبة لكن هذا الهدف حتى الآن ينقصه تنظير مصاحب ومقنع للجماهير، غير أن البرهان وفريقه يُهدرون تأييداً شعبياً كبيراً لمشروع بناء سياسي جديد كان ينبغي ان يحمل خطة عامة محددة الأهداف والمواقيت والوسائل يعقبها استفتاء شعبي عاجل يوفر لها سنداً شعبياً ومشروعية تتجاوز بها بكل سهولة ويسر عقبة ما يسمى بـ(الوثيقة الدستورية) وهي ورقة هشة وضعيفة تحكم الآن المشهد السوداني دون ان تحظى بأدنى احترام من منفذيها أنفسهم.
إذا أراد البرهان قيادة الأوتوغولبي الجديد في السودان فإن الواجب عليه ان يتقدم لجماهير الشعب بمشروع سياسي متماسك وخطاب مقنع وإن عليه المواجهة لا التواري واتخاذ القرار لا التردد فتاريخ هذه التغييرات الداخلية القادمة من دهاليز الحكم تحتاج إلى قيادة جريئة.
على البرهان ان يدرك أن الغضب الشعبي الذي وفر المناخ لإسقاط البشير والذي يوفر الآن المساندة لإسقاط هياكل الحكومة الإنتقالية الحالية هو نفس الغضب الذي سيسقط ترتيباته هذه لاحقاً وإن الذين هتفوا ضد البشير ويهتفون الآن ضد حمدوك هم أنفسهم من سيهتفون ضده حين يزف موعده إلا إذا حمل مشروعه للتغيير أفكاراً حقيقية ورؤية صلبة وليس رغبة فقط في البقاء في السلطة وتدوير الكراسي حوله.