

لقد أظهرت التحركات “الإسرائيلية” الميدانية الأخيرة توجهًا استراتيجيًّا جديدًا يقوم على “السيطرة على الأرض” وتقليص المساحة الجغرافية للقطاع، وهذا التوجه يُشكّل ركيزة أساسية في خطة هجومية تهدف إلى ممارسة ضغط تدريجي على المقاومة الفلسطينية، بما يدفعها – وفق تقديرات قادة الاحتلال – إلى تقديم تنازلات جوهرية تؤدي إلى صفقة تبادل أسرى، وفق الشروط “الإسرائيلية”، دون أي التزام بوقف الحرب أو الانسحاب من غزة.
في المقابل، لم تَعتمد المقاومةُ على الأنماط الدفاعية ذاتها التي استخدمتها في خلال المرحلة الأولى من الغزو البري، بل تبنَّت تكتيكًا عملياتيًّا جديدًا يراعي مبدأ الجدوى الاستراتيجية وتقييم الموارد، ويستهدف إحباطَ الأهداف المركزية للعدو، بدلًا من الاقتصار على الدفاع الموضعي القائم على الاستنزاف.
الأرض أداة عقاب وسيطرة
تعود فكرة “السيطرة على الأرض” إلى مبدأ تبنَّاه قادة اليمين الصهيوني، ويقوم على أن خسارة الأرض تمثِّل الهزيمةَ الأشدَّ وقعًا على الفلسطينيين. هذا التصور عبَّرت عنه بوضوح وزيرة المساواة الاجتماعية في حكومة نتنياهو، ماي غولان، حين قالت في مؤتمر استيطاني: “أكثر ما يؤلِم الفلسطينيين انتزاع الأراضي منهم”.
ترتكز هذه الفلسفة على اقتناع بأن فرض السيطرة الميدانية على الأرض الفلسطينية لا يُحقِّق فقط أهدافًا أمنية عبر “تطهيرها” من البنية التحتية للمقاومة، بل يُوجِّه أيضًا ضربة نفسية ومعنوية للفلسطينيين، بوصف الأرض محورًا هوياتيًّا وثقافيًّا أساسيًّا في وعيهم الوطني.
وفي أحد المؤتمرات الاستيطانية، عبَّر الناشط في حزب “الليكود”، عوفيد حوغي، عن هذا التصور بوضوح بقوله: “على العرب أن يخسروا أراضيهم في الحرب، كي يتذكروا أنهم خسروا. مقابل مثل هذا الفعل (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023) يجب أن ينالوا عقاب فقدان الأراضي”.
استراتيجية الاحتلال لا تقوم فقط على تحقيق مكاسب عسكرية، بل توظِّف الأرضَ أداةَ ردع وعقاب، في محاولة لتكريس واقع ميداني جديد، وتحويل الحرب إلى فرصة لتوسيع المشروع الاستيطاني، تمامًا مثلما تفكر القوى اليمينية المتطرفة في حكومة الاحتلال
سردية الهزيمة والانتصار
تتبنَّى قوى “الصهيونية الدينية” هذا التوجه بقوة، وترى في العمليات البرية المتواصلة على غزة فرصةً استراتيجيةً للتسلل مجددًا إلى أراضي القطاع، عبر إنشاء بؤر استيطانية عشوائية تحت غطاء عسكري، يمكن تحويلها لاحقًا إلى مستوطنات قائمة ومُشرعَنة.
حاييم فالتسر، أحد المستوطنين الذين أُجلوا من “غوش قطيف” في العام 2005، قال بوضوح: “الاستيلاء على غزة هو الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يسود بها الهدوء في تل أبيب. الأرض ما يهمهم. انتزاعها والاستيطان فيها ما سيجعلهم يشعرون بأننا انتصرنا وأنهم هُزِموا”.
لم تولَد هذه الطموحات الاستيطانية مع الحرب الأخيرة، بل سبقتها دعوات صريحة من قادة صهاينة مثل بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية وعضو مجلس الحرب، الذي قال في مايو/أيار 2023: “أعتقد أنه سيأتي الوقت الذي لن يكون فيه خيار سوى إعادة احتلال غزة”، عادًّا ذلك “الحل الوحيد” لمشكلة الاشتباكات المتكررة مع المقاومة في القطاع.
ومع استئناف العمليات البرية، أعلن وزير الحرب يسرائيل كاتس أوامر بالسيطرة على مزيد من الأراضي داخل القطاع وإخلائها من سكانها، بزعم توسيع “مناطق الحماية” حول المستوطنات القريبة من غزة. وقال: “كلما واصلت “حماس” رفضها إطلاق سراح المختطفين، ستخسر المزيد من الأراضي”.
ثمة تحول في الاستراتيجية الأمنية لا ينفصل عن أجندة الاستيطان، بل يُستخدَم جسرًا لتكريس واقع ميداني يَسمح بعودة المشروع الاستعماري إلى غزة تحت مسمى “الأمن”، في وقت يستمر فيه الاحتلال في تفكيك مقومات الحياة في القطاع، وفرض خرائط ميدانية تَخدِم الرؤيةَ اليمينيةَ لمستقبل الصراع
بدوره، قال رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، في الكنيست إن “استمرار رفض “حماس” إطلاق سراح رهائننا سيقابله المزيد من الضغط، بما يشمل السيطرة على أراضٍ جديدة”. وكرّر الطرح ذاته في إعلان السيطرة على محور “موراج” بين خان يونس ورفح: “في غزة غيَّرنا قواعد اللعبة: الجيش يسيطر على الأرض، يَضرِب ويُدمِّر البنية التحتية”.
يكشف هذا النهج أن استراتيجية الاحتلال لا تقوم فقط على تحقيق مكاسب عسكرية، بل توظِّف الأرضَ أداةَ ردع وعقاب، في محاولة لتكريس واقع ميداني جديد، وتحويل الحرب إلى فرصة لتوسيع المشروع الاستيطاني، تمامًا مثلما تفكر القوى اليمينية المتطرفة في حكومة الاحتلال.
الأمن ذريعة لتوسيع السيطرة
منذ إطلاق حملة “العزة والسيف” التي رافقت استئناف العدوان على قطاع غزة بعد انهيار اتفاق التهدئة في مارس/آذار الماضي، عنون جيش الاحتلال عملياته العسكرية بعبارات تحمِل دلالاتٍ واضحة، مثل: “تعميق السيطرة” و”توسيع المناطق العازلة”.
ينسجم هذا التوجه مع الاستراتيجية الأمنية الجديدة للاحتلال، القائمة على مبدأ “الحدود متعددة الطبقات”، والتي تعني عمليًّا بسط نفوذ عسكري مباشر داخل أراضي العدو، وتحويلها إلى خطوط إنذار مبكر ومرتكزات دائمة للتصدي لأي تهديد محتمل.
وعلى الرغم من أن جيش الاحتلال لا يُظهر حماسة لفكرة إعادة الاستيطان في قطاع غزة أو فرض حكم عسكري مباشر، يخدم هذا التدحرج الميداني -عمليًّا- أجندات اليمين الصهيوني، وتحديدًا التيارات الدينية المتطرفة، التي ترى في التواجد “الإسرائيلي” داخل غزة ضمانة أمنية لا بديل عنها.
يُروِّج قادة اليمين لفكرة أن المستوطنات لا توفر فحسب مأوى لليهود، بل تُشكِّل جدارًا أمنيًّا حيًّا يجبِر الجيشَ على فرض وقائع عسكرية صلبة حولها، تمنع تكرار عمليات كبيرة مثل تلك التي وقعت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
وفي هذا السياق، صرَّح الوزير الليكودي ميكي زوهار في خلال مؤتمر استيطاني في كانون الثاني/يناير الماضي قائلًا: “الاستيطان وحده ما يجلب الأمن. هذا هو الدرس الواضح بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول. علينا تصحيح حماقة اقتلاع المستوطنات من غوش قطيف وشمالي الضفة”.
أما وزير “الأمن القومي” المتطرف إيتمار بن غفير، فذهب أبعد من ذلك في خلال مؤتمر بعنوان “الاستيطان يحقَّق الأمن والنصر”، عُقد في القدس في 28 يناير/كانون الثاني الماضي، إذ قال: “حان وقت العودة إلى غوش قطيف، وتشجيع الهجرة الطوعية. الانسحاب يجلب الحرب. وإذا أردنا منع تكرار ما حدث في السابع من أكتوبر/ِتشرين الأول، فعلينا أن نعود إلى ديارنا، ونسيطر على الأرض في غزة، ونجد طريقة قانونية لضمان الهجرة الطوعية، وسن قانون لإعدام الإرهابيين”.
تؤشر هذه التصريحات إلى أن التحول في الاستراتيجية الأمنية لا ينفصل عن أجندة الاستيطان، بل يُستخدَم جسرًا لتكريس واقع ميداني يَسمح بعودة المشروع الاستعماري إلى غزة تحت مسمى “الأمن”، في وقت يستمر فيه الاحتلال في تفكيك مقومات الحياة في القطاع، وفرض خرائط ميدانية تَخدِم الرؤيةَ اليمينيةَ لمستقبل الصراع.
المقاومة واستراتيجية الدفاع المرِن
في المقابل، ومنذ اللحظة الأولى للغزو البري “الإسرائيلي” ضمن حرب الإبادة على قطاع غزة، اعتمدت المقاومة الفلسطينية استراتيجية دفاعية مرنة، مستنِدة إلى مبادئ قتال المدن وحرب العصابات، إذ لم تلجأ إلى تشكيل خطوط دفاعية ثابتة أمام القوة العسكرية الهائلة لجيش الاحتلال، تفاديًا لتحوُّل انهيار هذه الخطوط إلى انتصارات ميدانية دعائية للعدو، بل ركزت على تكتيكات تهدف إلى إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف الاحتلال، بأقل تكلفة بشرية وميدانية.
استثمرت المقاومة سنوات طويلة في تطوير قدراتها الاستخباراتية، التي تُعنَى برصد سلوك العدو سياسيًّا وميدانيًّا، وتحليل قراراته الحكومية وربطها بالوقائع على الأرض، ما أتاح لها استشراف أنماط التوغل العسكري وتصميم استجابات تكتيكية مرنة على هذا الأساس.
وفقًا لذلك، اختلفت تكتيكات المقاومة باختلاف ذُرى الهجوم “الإسرائيلي”، بناءً على تشخيص أهداف كل عملية، وتقييم جدوى المواجهة المباشرة. ففي الاجتياح البري لشمالي القطاع بين أكتوبر/تشرين الأول وديسمبر/كانون الأول للعام 2023 كان الأداء الميداني أكثر كثافة وتنوعًا، مقارنةً بتكتيكات المقاومة لاحقًا في خلال الهجمات المركَّزة على مناطق بعينها. الأمر ذاته تكرَّر في التعامل مع اجتياح خان يونس في ديسمبر/كانون الأول 2023.
إلا أن المقاومة سرعان ما أخذت في الحسبان فيما بعد تغيُّرَ الظروف الإقليمية وتراجعَ فرص التصعيد الإقليمي الواسع لمصلحة تهدئات فرضها الضغط الأميركي، ما استدعى إعادة تصميم استراتيجية المواجهة بما يراعي استنزاف الموارد ويحقِّق أكبر ضرر ممكن في صفوف جيش الاحتلال.
تجلَّى هذا التحول التكتيكي بوضوح في المعركة التي خاضتها المقاومة ضد ما عرف بـ”خطة الجنرالات” في شمالي قطاع غزة، والتي كانت تهدف إلى فرض واقع جديد يُمكِّن الاحتلالَ من تحويل الشمال إلى منطقة عازلة، وربما بؤرة تمهيدية لإعادة الاستيطان.
لكن المقاومة أفشلت هذه الخطة عبر استنزاف القوات المهاجمة، وإطلاق موجة من الكمائن والمشاغَلات المكثفة، على الرغم من شدة الحصار والقصف العنيف. وقد أفضى ذلك إلى مقتل أكثر من 30 جنديًّا إسرائيليًّا في خلال أقل من شهرين، بمعدل يقارب مقتل جندي كل يومين، في بيئة دُمِّرت تدميرًا شبه كلي.
انعكست تداعيات هذا الإخفاق في اعترافات قادة الاحتلال، فقد وصف الوزير المستقيل من مجلس الحرب ورئيس الأركان السابق، غادي أيزنكوت، العملياتِ العسكريةَ، بعد مرور عام وأربعة أشهر، بأنها “إخفاق”، بينما أشار المراسل العسكري يوسي يهوشع إلى أن “الأمور لا تسير على ما يرام في غزة”، لافتًا الإنتباه إلى شهادات صعبة للغاية من الجنود المشاركين في القتال في شمالي القطاع.
بهذا الأداء، أثبتت المقاومة أنها تملك قدرة عالية على التكيُّف الميداني، ومهارة في إدارة معركة استنزاف طويلة النفس، تُعيد توجيهَ كلفة المعركة نحو الاحتلال، وتُبطل مفعولَ نظرياتِه في الحسم العسكري.
تُدرك المقاومة أن الاحتلال قد ينجح في السيطرة على الأرض، لكن الأساس ألا ينجح في تثبيت وجوده فيها، فما دام الجندي “الإسرائيلي” على أرض غزة، فإن النزيف لن يتوقف، والهجمات المباغِتة ستستمر، حتى تنفك هذه التمركزات، وينسحب الاحتلال من جديد تحت وطأة الضغط والاستنزاف الميداني
تحويل المناطق العازلة إلى مصائد قتال
في السياق نفسه، تعاملت المقاومة الفلسطينية مع استئناف العمليات العسكرية “الإسرائيلية” انطلاقًا من قراءة جديدة لطبيعة المرحلة، فقد رصدت المقاومة تحوُّلًا في أهداف الاحتلال: من محاولة تفكيك البنية التنظيمية لفصائلها –عبر استهداف “الألوية” و”الكتائب” في نطاقات جغرافية محددة– إلى نمط عملياتي يَستهدف البقاءَ على الأرض والتمركز فيها.
أدركت المقاومة أن جيش الاحتلال، بقيادة رئيس الأركان الجديد إيال زامير، بات يوقن أن الاستراتيجية السابقة في “تفكيك الألوية” لم تُحقِّق أهدافها، وبخاصةً في ظل غياب أية سلطة محلية متعاونة يمكنها منع عودة الفصائل المسلحة بعد انسحاب الجيش من المناطق التي يُسيطر عليها.
في ضوء ذلك، قرأت المقاومةُ التحركاتِ الجديدةَ بوصفها خطوةً لبناء مرتكزات احتلالية طويلة الأمد، وبخاصةً في المناطق التي يعُدُّها الاحتلال “محروقةً أمنيًّا”، أي مناطق دُمِّرت بالكامل، ويُفترَض أن تُشكِّل تواجدًا “منخفض الكلفة” من حيث التهديدات، وأكثر استنزافًا للمقاومة بسبب صعوبة المواجهة فيها.
لكن المقاومة لم تنجرَّ إلى مواجهات مباشرة في هذه المناطق المكشوفة، على الرغم من امتلاكها الأدوات، بل فضَّلت التمهل، انطلاقًا من قاعدة جوهرية حكمت استراتيجيتها منذ بدء حرب الإبادة: “لا فعل دون تقدير موقف دقيق”، واستشراف شامل يُمكِّنها من اختيار التوقيت والتكتيك الأنسب لإفشال أهداف العدو.
بعد أيام من الصمت، أطلقت المقاومة سلسلة كمائن مركَّبة، دمجت بين العمل الهندسي (تفخيخ وعبوات ناسفة) والاشتباك المباشر عبر وحدات فدائية، مستهدِفةً قواتِ الاحتلال داخل المناطق التي صُنِّفَت “مناطق عازلة”، والتي لم تتوقف فيها الاعتداءات “الإسرائيلية” منذ بداية الحرب، حتى في فترات التهدئة.
كان أبرز هذه العمليات كمين “كسر السيف” الذي نفّذته “كتائب القسام” في شمالي شرقي بيت حانون، وهي المنطقة التي أعلن الاحتلال أكثر من مرة “تفكيك” كتيبتها والسيطرة الكاملة عليها منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وشن عليها تسع حملات عسكرية مُركَّزة ومكثَّفة، فضلاً عن سلسلة عمليات مركبة أبرزها في رفح وخان يونس وحي الشجاعية شرقي مدينة غزة.
كذلك، نفَّذت المقاومة عمليات مشابهة في رفح، لعل أبرزها كمين حي تل السلطان، وآخر في حي الجنينة، داخل مناطق تعرَّضت لدمار شامل على مدار عام، أعلن في خلالها الاحتلال تكرارًا تفكيك بنية المقاومة في لواء رفح.
وكشفت التوثيقات المصورة ونتائج العمليات عن محورين حاسمين في استراتيجية المقاومة الجديدة:
أولًا؛ تقليص استنزاف الموارد إلى الحد الأدنى، في ظل الحصار الشامل الذي يمنع أي خطوط إمداد.
ثانيًا؛ رفع كلفة الوجود “الإسرائيلي” عبر استهداف الجنود في مناطق التمركز، وتحقيق أقصى مقدار من الخسائر البشرية، بما يعيد إلى طاولة القيادة “الإسرائيلية” السؤال الأكثر إلحاحًا: هل يستحق هذا التمركز الثمن البشري والاقتصادي؟
وبهذه الطريقة، تتجنب المقاومة المواجهة القائمة على كثافة النيران، وتتبنَّى نمطًا محسوبًا من الاستثمار الدقيق في كل طلقة وعبوة، في معركة طويلة النفس، تدفع الاحتلال إلى إعادة التفكير في جدوى البقاء داخل غزة.
في المحصلة، تُدرك المقاومة أن الاحتلال قد ينجح في السيطرة على الأرض، لكن الأساس ألا ينجح في تثبيت وجوده فيها، فما دام الجندي “الإسرائيلي” على أرض غزة، فإن النزيف لن يتوقف، والهجمات المباغِتة ستستمر، حتى تنفك هذه التمركزات، وينسحب الاحتلال من جديد تحت وطأة الضغط والاستنزاف الميداني.