يأتي المؤتمر الصحافي السنوي للرئيس الروسي في لحظة توتر بين روسيا والغرب لا مثيل لها منذ إنهيار الإتحاد السوفياتي قبل عقدين من الزمن. عنوان التوتر هو الملف الأوكراني. “جوهر الأزمة”، كما قال بوتين، هو عدم إلتزام الغرب بإتفاقيات سابقة، وبينها تعهدات جاءت على لسان وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر إلى نظيره السوفياتي إدوارد شيفارنادزه ومن ثم إلى آخر رئيس للإتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، وأيضا من المستشار الألماني الأسبق هلموت كول والأمين العام السابق لحلف “الناتو” مانفريد وورنر في العامين 1990 و1991 بأن حلف شمال الأطلسي “لن يتوسع شرقاً”.
قال بوتين إن الغرب قام بالتوسع تدريجياً. خطوات أطلسية متصاعدة في الحديقة الخلفية لروسيا تم بموجبها ضم دول (في أوروبا الشرقية) كانت عضوة سابقاً في حلف وارسو إلى حلف الناتو. الآن، يحاولون المس بالأمن القومي الروسي. قال إنهم يقتربون من “عتبة بيتنا”، أي من حدود روسيا وليست الأخيرة من تقطع آلاف الكيلومترات لتهديد الأمن القومي الأميركي. كان كلام بوتين واضحاً. المطلوب الحصول على ضمانات سريعة وفورية من الأميركيين وليس العكس. من عرقل تنفيذ إتفاق مينسك هو الرئيس الأوكراني الحالي فولوديمير زيلينسكي.
لكن ما هي قصة إتفاق مينسك؟
خلال هجومها العسكري في 2014-2015، حقّقت روسيا نصراً في أوكرانيا. فرضت اتفاقية لوقف إطلاق النار سُميت ”بروتوكول مينسك” نسبة إلى المدينة التي تم فيها التفاوض. عملياً كان الإتفاق لمصلحة روسيا. الآن، يريد زيلينسكي الإنقلاب عليه. كان بوتين واضحاً في تحذيراته: هناك إنطباع بأن التحضيرات جارية لعملية عسكرية أوكرانية جديدة في دونباس، الإقليم الذي يمكن أن تكون مآلاته شبيهة بشبه جزيرة القرم، عندما أجري إستفتاء شعبي، كانت الدبابات الروسية أسرع نتيجة منه، ما أدى إلى عودة هذه المنطقة إلى الحضن الروسي.
في مؤتمره الصحافي، ألمح بوتين إلى رد الأميركيين بشكل إيجابي على المبادرة الروسية بالعودة إلى الإتفاقيات السابقة، أي الإلتزام بعدم التوسع شرقاً سواء بنشر الصواريخ أو بضم دول جديدة مثل أوكرانيا إلى الناتو، وهذا الأمر سيختبره المفاوضون الروس الذين سيخوضون أولى جولات التفاوض مع نظرائهم الأميركيين مطلع السنة الجديدة في جنيف، وسيكون الملف الأوكراني في صلب جدول الأعمال بوصفه نقطة التماس والتوتر الأبرز في العلاقات الروسية الأميركية حالياً، وهذه المسألة يقاربها الأميركيون بشكل معقد، ربطاً بأولوياتهم الإستراتيجية الدولية، ولا سيما التفرغ لـ”الملف الصيني”، مع ما يقتضيه ذلك من تحييد لموسكو، يبدو أنه سيكون هو الآخر، صعب التحقق، بسبب تبدل المعطيات التي تحكم النظام الدولي حالياً.
الحرب وسيلة وليست غاية بذاتها. إذا تمكن بوتين من تحقيق أهدافها بشكل سلمي فإنه لن يكون مضطراً لتبديد رصاصة واحدة. أمن روسيا القومي هو الأساس. ليس مسموحا أن يكون ظهر روسيا في أوكرانيا مكشوفاً أمام اي تهديد من أي نوع كان. يعتقد الرئيس الروسي أن اللحظة الدولية، ولا سيما في ضوء قرار الإنسحاب الأميركي من أفغانستان هي لحظة مؤاتية
ما هي المخارج؟
يجيب عن هذا السؤال كل من أندرو روث وديفيد بلود ونيلز دي هوج في مقالة مشتركة نشرتها صحيفة “الغارديان” بقولهم “الأرجح أن تسعى روسيا للحصول على تنازلات من الغرب في المفاوضات مع الحفاظ على قواتها على طول الحدود من أجل تهديد حقيقي بالتصعيد”.
ما هو دور “نورد ستريم 2” في الإشتباك الروسي ـ الأوكراني؟
استكمال خط أنابيب الغاز Nord Stream 2 من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق يمنح روسيا سلاحاً اقتصادياً. سيسمح خط الأنابيب لها بإرسال الغاز إلى أوروبا دون المرور عبر أوكرانيا، ما يعني أن موسكو يمكن أن تضغط على كييف دون المخاطرة بقطع كييف طريق إمداد الغاز رداً على ذلك. بالمقابل، ضغطت أوكرانيا بشدة ضد المشروع، قائلة إنه يقوّض أمنها القومي. ومع ذلك ، فإن خط الأنابيب، الذي أصبح مشروعاً صغيراً لبوتين، لم يتم تشغيله بعد، وقد أشارت حكومات غربية عديدة إلى أنه في حالة الغزو الروسي لأوكرانيا، “قد لا يحدث ذلك أبداً”، كما تقول “الغارديان”.
هل تنجح المفاوضات أم أن الحرب حتمية؟
الحرب وسيلة وليست غاية بذاتها. إذا تمكن بوتين من تحقيق أهدافها بشكل سلمي فإنه لن يكون مضطراً لتبديد رصاصة واحدة. أمن روسيا القومي هو الأساس. ليس مسموحا أن يكون ظهر روسيا في أوكرانيا مكشوفاً أمام اي تهديد من أي نوع كان. يعتقد الرئيس الروسي أن اللحظة الدولية، ولا سيما في ضوء قرار الإنسحاب الأميركي من أفغانستان هي لحظة مؤاتية. ضعف أوكرانيا هو من ضعف الناتو والولايات المتحدة.. والعكس صحيح، ولكن الزمن الحالي ليس زمن قوة أميركا لا في داخلها المفتوح على تناقضات شتى ولا في العالم الذي ودّع زمن الأحادية القطبية. بالمقابل، تبدو أوضاع بوتين الداخلية أفضل مما كانت عليه قبل سنة. النظام آمن والمعارضة شبه غائبة. مناعة المجتمع الروسي في مواجهة كورونا ترتفع (حوالي 60%). روسيا “ستصل إلى المناعة الجماعية (قرابة 80%) ضد كورونا في 2022”. الحرب ضد كورونا “مستمرة ونعرف خطورة متحور “أوميكرون”، لكن روسيا لن تلاحق أحداً بسبب رفضه التطعيم ضد كورونا. غير أن التحدي الأكبر هو النمو الديموغرافي. قال بوتين، إن الـ 146 مليون نسمة، عدد سكان روسيا حالياً، هو عدد قليل لبلد بحجم روسيا (أكثر من 17.1 مليون كلم 2). وأشار إلى أن عدد السكان القادرين على العمل هو 80 مليون شخص، موضحا أن ذلك يعد قليلاً، خاصة لتطوير البينة التحتية في بلد بحجم روسيا، يشكو من نقص في اليد العاملة.