ليندا مطر.. أناقة التجربة

بالأمس، رحلت ليندا مطر . سيدة لبنانية عريقة شاركت في حياكة حروف حقبة نضالية، فكانت ريادية في رفع راية حركة حقوق المرأة اللبنانية والعربية منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي حتى يوم رحيلها.

عرفتُ ليندا مطر وناقشتُها في أمور كثيرة. إختلفنا وإتفقنا. صلابة قناعاتها لا تجعلها متصلبة بل منفتحة في النقاش بلا ادعاء، لعلها تتوصل إلى قواسم مشتركة مع الآخر. سيدة صلبة تعرف الطريق الذي تريد أن تسلكه. هادئة وصادقة وهي تمرر قناعات مجبولة بالتجارب النضالية. صاحبة العينيين الصغيرتين المتقدتين دائماً. طبيعية في مظهرها الخارجي وأنيقة في روحها وحضورها ومفرداتها. بعيدة عن الثرثرات والترهات والاستعراضات النسائية برغم كاريزميتها وحتى نجوميتها.

نجحت ليندا مطر (98 عاماً) في تكريس صورة مختلفة عن المرأة اللبنانية. عصامية ومتواضعة وناضجة في تعاملها مع أمور الحياة والنضال. حملت هموم الوطن والنساء، ولم تضع الرجال والنساء في مواجهة، فهي لم تحارب الرجل بل دعته الى الحوار والعقلانية، كما دعت المرأة الى النشاط الفاعل في الحياة العامة.

لم تكن ليندا مطر “نسوية” في يوم من الأيام، برغم انها رمز من رموز النضال من أجل حقوق المرأة اللبنانية، فالنسوية ترف فكري وصناعة نخب ثقافية في عالم الرأسمالية، بينما هي عاملة نسيج خرجت من رحم النضال المطلبي لتحصيل حقوق العمال والعاملات. تردد دائماً بأنه لا يمكن للنساء أن يتحررن ويحصّلن حقوقهن خارج الثورة والنضال من أجل تغيير النظام.. إذذاك، تحصل المرأة أوتوماتيكياً على حقوقها. إرتباطاً بمنطقها هذا، لا يمكن ان يكون للمرأة دور اذا لم تحترف العمل السياسي وصولاً إلى إنتصار القضايا التي تناضل لأجلها وأولها التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية.

توضح ليندا مطر المؤمنة بالحوار مع الرجل خلفيات موقفها في أحد لقاءاتها الصحفية:”حركتنا النسائية تدافع عن حقوق المرأة، وأحياناً نعارض الرجال لأنهم يمسكون بجميع المفاتيح في أيديهم. لكننا لا نريد أن نأخذ مكانهم، نريد أن نساعد بعضنا البعض”.

***

ترأست ليند مطر لجنة حقوق المرأة في لبنان منذ العام 1978 الى ان استقالت من منصبها في العام 1996، بعد سنوات من النضال والتدرج في المسؤوليات، حققت خلالها إنجازات عدة أبرزها حق الانتخاب والسفر دون اذن الزوج، وحق ضمان المرأة العاملة لأطفالها، وتعديل القوانين المتعلقة بجرائم الشرف وتوقيع اتفاقية الغاء التمييز ضد المرأة، على سبيل المثال لا الحصر، برغم ان نشاط اللجنة شمل أيضاً سبل تمكين المرأة (دورات محو الأمية والطباعة (زمن الدكتيلو) وتعليم اللغات الأجنبية والخياطة إلخ..)، واعتنت بدور الحضانة التي شكّلت أحد مصادر الدخل المالي الداعم لنشاط اللجنة. لكن تلك المنظمة النسائية أصابها ما أصاب منظومة فكرية ـ سياسية تنتمي إليها. من إنهيار المنظومة الاشتراكية إثر سقوط الإتحاد السوفياتي في العام 1991 إلى إنقسامات الحزب الشيوعي اللبناني منذ ثلاثة عقود من الزمن حتى يومنا هذا. برغم ذلك، ظلت اللجنة جزءاً لا يتجزأ من منظومة الحزب الشيوعي، في حين سعت نساء شيوعيات اخريات الى “التجديد” على طريقتهن، فعمدن الى تأسيس جمعيات تحت شعارات اخذت في الاعتبار اجندة الأمم المتحدة، كالدعوة الى المشاركة في السلطة، وتحقيق المساواة، والرصد الجندري، ومكافحة العنف، وإقرار الكوتا، وحق الجنسية.. الخ. وراحت لاحقاً تتلقى مساعدات من منظمات دولية تعنى بما يسمى “المجتمع المدني”، وهو ما رفضته ليندا مطر، من موقع الحرص على الاستقلالية وبالتالي رفض التمويل الأجنبي الذي يخفي أجندات سياسية.

عاشت ليندا مطر في كنف عائلة بسيطة، واضطرت لترك مقاعد الدراسة من أجل مساعدة الأهل. أول فرصة عمل لها كانت في مصنع لصناعة الكلسات والحرير مقابل أجر زهيد. تجربة جعلتها توّاقة إلى الحرية التي لا يمكن الوصول إليها إلا عبر التثقيف الذاتي، فعملت نهاراً ودرست ليلاً حتى نالت الشهادة الثانوية

قضت ليندا مطر عشرين سنة من عمرها في الحزب الشيوعي اللبناني، واستقالت منه لتبقى على مسافة من العمل الحزبي المباشر ولكي تعطي قضية المرأة الحيز الأكبر من وقتها وجهدها، وإستمرت متمسكة بقضايا فلسطين والمقاومة ضد إسرائيل، وهي التي كانت شاهدة على انطلاقة جبهتها في العام 1982، من قلب العاصمة بيروت، مثلما حملت هذه الهموم الوطنية في كل خطاباتها ومشاركاتها في المؤتمرات النسائية الدولية والعربية خارج لبنان.

***

ولدت ليندا مطر في 25 كانون الأول/ديسمبر العام 1925 في منطقة خندق الغميق، (سبعة وتسعون عاماً) من أم خمسينية، ما أثار دهشة أهالي الحي من هذه “المعجزة الإلهية”. جرى تعميدها في دير الناصرة (الأشرفية). تزوجت فتاة في السابعة عشر من عمرها. “كان زوجي رجلاً يمتلك تفكيراً مختلفاً، هو الأرمني بيزانت بانجاريان، يعرف قيمة الحياة أكثر منّي” كما تقول مطر. لديهما ثلاثة أولاد (أرمين ولوسين ورافي)، وثمانية أحفاد وثمانية من أبناء الأحفاد. بانجاريان لم يكن يتقن العربية لكنه كان مقرباً من الشيوعيين الأرمن، وكانت ليندا تقرأ له صحيفة الحزب الشيوعي “صوت الشعب” الصادرة بالعربية.

كانت أولى سفراتها عام 1950 الى ألمانيا لحضور مهرجان الشباب العالمي بدعوة من إتحاد الشباب الديموقراطي العالمي. وعندما عادت سجنت لمدة ثلاثة أيام إثر تنظيمها ندوة في الحي الذي كانت تقيم فيه (عين الرمانة) للحديث عن أهمية هذا المهرجان الأممي.

عاشت ليندا مطر في كنف عائلة بسيطة، واضطرت لترك مقاعد الدراسة من أجل مساعدة الأهل. أول فرصة عمل لها كانت في مصنع لصناعة الكلسات والحرير مقابل أجر زهيد، لكنها كانت تتصرف بنضوج اكتسبته من تجربة الحياة العملية التي جعلت منها ثائرة على الواقع ومثابرة لتحقيق الهدف المنشود. تجربة جعلتها توّاقة إلى الحرية التي لا يمكن الوصول إليها إلا عبر التثقيف الذاتي، فعملت نهاراً ودرست ليلاً حتى نالت الشهادة الثانوية.

إقرأ على موقع 180  روبرت فورد: الإستراتيجية الأميركية في سوريا فشلت.. وهذا بديلها

في الثامنة والعشرين من عمرها، قررت أخذ قضية حقوق المرأة على عاتقها، وكان همها تعديل القوانين التي تميز ضد المرأة، وقد كانت حادثة عام 1952 الشرارة، تروي ليندا: “كان يوم الانتخابات (النيابية) وكنت أراقب الرجال وهم يتدفقون نحو مركز اقتراع قريب. توقفت سيارة كبيرة. كان هناك من يساعد شاباً هو ابن جارتي الذي يعاني من إعاقة عقلية وجسدية للنزول، قُدّمتْ إليه ورقة لإسقاطها في صندوق الاقتراع. إنه نوع من التلاعب بالأصوات. غضبتُ، أنا لم أستطع التصويت لأنني إمرأة، في حين أن الرجل ولو كان من ذوي الحاجات الخاصة ينتخب”!

إثر ذلك، انضمت ليندا مطر إلى صفوف لجنة حقوق المرأة اللبنانية وعملت على تنظيم تحركات من أجل إعطاء المرأة اللبنانية حق التصويت والترشح للمناصب العامة. وبكل ثقة وبعيداً عن الحسابات الحزبية والعائلية، ترشحت هذه المناضلة لخوض المعركة الانتخابية النيابية في العام 1996. كانت وقتذاك تشغل منصب رئيسة المجلس النسائي اللبناني الذي كان وما يزال أسير توزيع التركيبة الطائفية، وحصلت على 8000 صوت في العاصمة. الا ان دعم النساء لها لم يكن بالمستوى الذي تأملته على الاطلاق. من هنا، كان لا بد من رفع شعار “الكوتا” النسائية التي كانت ليندا مطر من أبرز العاملات لإدراجها في قوانين الانتخاب، كما ترشحت في العام 2000 ولكنها انسحبت قبل يوم واحد من الانتخابات، وسط احتدام الصراع الانتخابي الذي كان يشير الى ان اللوائح المقفلة محور الإستقطاب ولن يكون بمقدور المستقلين احداث أي خرق، فكيف اذا كانت إمرأة لا تملك سلطة المال، ومن خارج البيوتات السياسية التقليدية؟

***

تُعرّف ليندا مطر عن نفسها في كتابها بالقول: “أنا مواطنة لبنانية أتيح لي خلال سنوات عمري أن أحصد رصيداً ثميناً لا يباع ولا يشترى. إكتسبته بفضل مدارس تلقنت منها احترام الإنسان والدفاع عن حقوقه ومحاربة أسباب جهله وفقره ومرضه وتشرده، وصولاً إلى الإسهام الفاعل في مواجهة التحديات على مختلف الصعد”

من يدير محركات البحث (غوغل مثلاً)، يجد أن عشرات لا بل مئات الهيئات والجمعيات المدنية اللبنانية كّرمت هذه السيدة التي حملت هم تحصيل حقوق المرأة وناضلت من اجل تحقيق مساواتها مع الرجل، من اقصى الجنوب الى أقصى الشمال مروراً بكل مناطق لبنان، وبالتالي شكّلت نقطة إلتقاء بين اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم، وبرغم انقساماتهم، كما نالت وسام الأرز الوطني من رتبة فارس عام 1998 ووسام الأرز الوطني اللبناني أيضاً عام 2010  وغيرهما من الأوسمة، ولقبت برائدة العمل النسائي عام 2002.

وكانت مجلة “ماري كلير” الفرنسية قد اختارتها في العام 1995 من بين 100 إمرأة يؤثرن في العالم، كذلك كانت عضوة في قيادة الاتحاد النسائي العالمي، وعند تأسيس المجلس الاقتصادي ــ الاجتماعي في لبنان، فوجئ المجتمع الأهلي بضمها اليه اذ شكّل ذلك مؤشراً على عدم قدرة السلطة على إقصاء النساء عن المواقع القيادية. كما ساهمت في تأسيس الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضد المرأة، ولجنة الأمهات في لبنان.

***

تملك ليندا مطر الكثير من الأسرار التي لم تفصح عنها في الكتاب الذي كتبته عن سيرتها الذاتية، وذهبت فيه الى الماضي البعيد وليس فقط إلى السنوات الثلاثين الأخيرة. لم تتحدث عن الحرب الاهلية أو عن “بوسطة عين الرمانة” والدماء التي سالت أمام منزلها ووأمام عينيها.

وعلى طريقتها الخاصة، وبرغم انهيار النموذج السوفياتي، ظلت ليندا مطر مؤمنة بمبادىء “الاشتراكية التي تساوي بين الناس”، وبالعمل من اجل تطور”المجتمع والإنسان والوطن ومن ضمنه المرأة». ولطالما اعتبرت ان عدم تقدم النساء “هو نتيجة النظام الذكوري المؤطر بقوانين تمنح الرجل سلطة السيطرة وقمع المرأة، بحجة العادات والتقاليد”.

وضعت مطلب اقرار قانون مدني للأحوال الشخصية على رأس الأولويات، “كونه يُحرّر المواطن من الطوائف ويُكرّس حق المرأة اللبنانية بمنح جنسيتها لأولادها وعائلتها”.

***

تُعرّف مطر عن نفسها في كتابها بالقول: “أنا مواطنة لبنانية أتيح لي خلال سنوات عمري أن أحصد رصيداً ثميناً لا يباع ولا يشترى. إكتسبته بفضل مدارس تلقنت منها احترام الإنسان والدفاع عن حقوقه ومحاربة أسباب جهله وفقره ومرضه وتشرده، وصولاً إلى الإسهام الفاعل في مواجهة التحديات على مختلف الصعد”.

كان حلم ليندا مطر أن ترى المرأة اللبنانية تتمتع بجميع حقوقها السياسية والوطنية والإنسانية. إنه الحلم الكبير الذي عملت من أجله وما تزال نساء كثيرات من الجيل الشاب وهن يسعين اليه ثائرات كلما سنحت لهن الفرصة لذلك. (الصورة الرئيسية للزميل علي علوش).

Print Friendly, PDF & Email
فاطمة حوحو

صحافية لبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  عربدة نقدية ومالية لبنانية لا مثيل لها دولياً