يعود ذلك الى سببين. الأول؛ ان المعركة ليست وجودية بالنسبة الى الولايات المتحدة، وهي ـ في هذه المرحلة وحتى اشعار آخر ـ تخوضها بجزء من قوتها وليس بكاملها، وتواجه، في حالة حزب الله، خصماً منظماً. أما المنظومة الاوليغارشية فهي تحارب للبقاء، وليس في وجهها خصم منظم.
أمل الكثيرون في ان يصبح حراك 17 تشرين/أكتوبر خصماً منظماً متراصاً للاوليغارشية، قادراً على التأثير في المشهد. السؤال عن أسباب فشله في ذلك يشغل بعض النخب التي شاركت في الحراك او تعاطفت معه، لكن يبدو ان كثرا بينهم يعانون من نفس نقاط العمى (blindspots) التي عانى منها الحراك في ذروته، وبالتالي لذلك اثره الفاعل في تحليل هؤلاء للمشهد.
هذا يعيدنا الى دراسة بريطانية[i]، تحدّد شريحة جاهزة للاستهداف باستراتيجية إعلامية، تحديداً بسبب رؤيتها (او عدم رؤيتها) للخارج، ونظرتها الى فاعليتها.
ما حجم التقاطع بين نخبة الحراك والجمهور الذي حدّدته الدراسة للاستهداف باستراتيجية اعلامية (potential target audience)؟
الفاعل والمفعول به
هناك بعد انساني كوني عابر للأزمنة والسياقات السياسية والاجتماعية في ميلنا كبشر للاعتقاد بفاعليتنا. البعض يرى فيه حالة بيولوجية – بمعنى ان شعورنا بالسيطرة على افكارنا وافعالنا وبامتلاكنا لها هو رواية يقدمها لنا دماغنا لتفسير أصل هذه الأفكار والافعال، وذلك في غياب القدرة العقلية على تصور الأسباب الحقيقية التي هي عبارة عن تفاعلات كيميائية كهربائية في دماغنا.
لكن بعيدا عن النواحي العصبية والفلسفية والدينية لهذا النقاش الابدي حول الحرية والقدر، ما يعنينا هنا هو هذا التحيز حين يصبح سمة من سمات مجموعة معينة من الناس، سياسية كانت ام مهنية.
الدراسة البريطانية استنتجت ان معظم اللبنانيين يرون ان إمكانية التغيير السياسي في لبنان تبقى أسيرة السياسة الإقليمية، ولحظت اتفاقا عاما بين الناس على أن شؤون لبنان تقررها، الى حد بعيد، قوى خارجية، لكنها اقتطعت شريحة مختلفة تخرج عن هذا الاجماع.
وفقا للدراسة، فان الشريحة هذه تضم حوالي ١٢ في المئة من السكان البالغين، وفقا لعدة تقسيمات من بينها معتقداتهم حول الجهات الخارجية ونفوذها ووقعها. وما يميّز افراد هذه الشريحة عن الآخرين كونهم يرون إمكانية أكبر للإصلاح والتغيير الإجتماعي الإيجابي من خلال افعالهم هم.
الدراسة رأت أن هذه الشريحة اذا استهدفتها حملة اعلامية استراتيجية فعالة (effective strategic communications)، يمكن التأثير فيها اما لممارسة سلوكيات سياسية معينة تؤدي الى تغيير اجتماعي “إيجابي” او للامتناع عن ممارسة سلوكيات تحد من إمكانية حصول هذا التغيير.
قد يصح ان هناك بعض الحقيقة في أن لنظرتك الى فاعليتك تأثيرا في هذه الفاعلية. اذا كنت تعتقد ان سلوكك يمكنه ان يؤثر، ستكون اكثر ميلا لان تفعل، وبالتالي لان تؤثر. اما اذا كنت تعتقد ان لا شيء يمكن ان تفعله سيؤثر، فقد تصبح اقل ميلا لأن تفعل شيئا. هناك شيء من النبوءة التي تحقق ذاتها في الحالتين (self-fulfilling prophecy).
لكن هناك أيضا قطبة مخفية. المغزى هنا ليس فقط في ميل افراد هذه الشريحة الى الايمان بفاعليتهم، وانما في نظرتهم الى اثر القوى الخارجية، بما فيها القوة الخارجية التي تقوم بدراستهم – تفصيليا – بهدف التأثير فيهم وعبرهم.
يعني في هذه الحال يكون شعورك بالفاعلية نقطة استغلال من فاعل اخر يريد ان يؤثر في سلوكك، وتاليا ان يحدث تغييرا سياسيا او اجتماعيا (يراه إيجابيا وفقا لمعاييره وأولوياته) من خلالك.
فخ التأثيرات
لنعتبر ان المشروع قد نجح، من يكون الفاعل الحقيقي؟
لا نعرف ما هي المشاريع التي بنيت على هذه الدراسة. ولا نعرف الى أي مدى تم تنسيق هذه الجهود البحثية المعمقة مع لاعبين آخرين، مع انه ليس من خارج المنطق ان نفترض ان دولة كبريطانيا تنسق جهودها مع دول أخرى حليفة في اطار مشروع أكثر اتساعا.
لكن كل هذا لا يعني ان المسألة عبارة عن “مؤامرة” بالمعنى الذي طرحه موقع “مون اوف الاباما” الذي كان من أوائل من نشر شيئا عن الدراسة، والذي اعتبر ان الوثائق المسربة “تكشف كيف اختلقت الحكومة البريطانية في الخفاء” احتجاجات لتغيير النظام في لبنان”[ii] او “انونيموس”، التي سرّبت الوثائق، والتي اعتبرت ان ما حصل هو دفع شعب “راض بشكل عام عن عمل” حكومته الى اسقاطها.
هذه المقاربات تسيء فهم الدعاية والتأثير، عبر تبني صيغة من نظرية المؤامرة تحيلنا على قوة بشرية كلية القدرة.
هذه هي الحلبة التي دخلها الحراك: ساحة تعج بلاعبين اقوياء منظمين. قوة امبريالية لها حلفاء اقليميون مؤثرون، مقابل حزب مسلح شديد التنظيم يتمتع بدعم شعبي وامتدادات إقليمية، إضافة الى المنظومة الاوليغارشية المتغلغلة في الدولة. قد يُضعف مشهد هذه القوى من شعورنا بالفاعلية ويستبدلها بالعجز، لكن التظاهر بعدم وجودها لا يعني انها اختفت
في الواقع، ليست دراسة الرأي العام المفصلة سوى الدليل على ان من يريد التأثير في مسار ما يبحث عن الموجود من معتقدات وميول ليبني عليه، ولا يختلق شيئا من عدم. كما انه من اصعب الأمور اثبات الوقع في الدراسات الإعلامية، بمعنى الربط السببي بين محتوى إعلامي معلوماتي معين من جهة وسلوك معين من جهة اخرى. هذا ينطبق حتى على الجهات التي تقوم هي بالضخ الإعلامي بهدف التأثير.
في تسريب آخر حول نشاط بريطاني دعائي سري في سوريا، وردت الجملة التالية: “التغييرات السلوكية المرتبطة بنشاط الحملة ستكون موضع تقييم وتقدير خاص[iii]“.
هذا يعني انهم لا يعرفون مدى تأثيرهم. كما يعني أيضا ان اثمن ما يمكنك ان تحصل عليه، اذا كنت تحاول التأثير في مجموعة ما، ان تتمكن من اثبات وقع لنشاطك على سلوك هذه المجموعة. اذا نجحت، انت لم تنجح فقط في التأثير حيث اردت، وانما أيضا في ان تُراكم معرفة علمية إضافية ثمينة للمستقبل. عليك اذا الا تكتفي بان تنتظر سلوكا يعجبك، بل أن تتأكد من انك أنت قد ساهمت في التسبب به، كي تكون جهودك في المرة المقبلة أكثر فعالية.
يبقى اننا في نهاية المطاف، ولو كنا نسلك سلوك الغنم أحيانا، لسنا غنما ولا نحن مسيرون من قوة بشرية كلية القدرة، لأن هكذا قوة غير موجودة. من هنا فإن فرضية الفاعلية، حتى لو استخدمت بشكل سطحي لتبرير التعمية ومنع الحديث في الاجندات الخفية، قد يكون فيها شيء من الحقيقة. في نهاية المطاف، انت من قال، وانت من فعل، حتى لو كان خلفك من نجح في ان يفعل من خلالك، ويقول من خلالك، ويستخدمك ذراعا او لسانا. وكان بإمكانك ان تمتنع عن قول وفعل معينين، أو أن تقول وتفعل غيرهما.
لكن في غياب القول الفصل المثبت علميا حول حجم التأثيرات وفاعليتها في حراك ١٧ تشرين/أكتوبر، قد يكون من الأفضل ان تعتبر نفسك وقعت في فخ تلك التأثيرات، تحت وقع الاحداث المتسارعة وتأثير العاطفة والاغراق الإعلامي (information overload)- كلنا بمن في ذلك من يدرس هذه المواضيع، وأيضاً علماءُ النفس والدماغ، معرضون لذلك – من ان تكون توصلتَ الى هكذا سلوك عن تفكير حر ومستقل.
الفيل في الغرفة
سواء كنا ناشطين مهتمين بإحداث تغيير إيجابي، او مواطنين قلقين نعاني من وطأة الانهيار، او صحافيين معنيين بفهم المشهد وتوصيفه، فإننا جميعا بحاجة الى الحد الأدنى من التصور المشترك للواقع حولنا. يبدو لي ان هذا يبدأ بمعرفة ماهية الكيانات التي تتصارع في الساحة، بفهم تاريخها ومصالحها وأهدافها وقدراتها. ثم اذا اهتدينا الى اطار تأويلي سليم، تأتي خطوات أخرى وصولا الى النقاش القيمي حول الوجهة التي نريد اتخاذها، ونوع التغيير المنشود.
لا ينفع ان نتحدث عن شخصيات غير محددة المعالم، كالشعب، مثلا او السلطة، او المنظومة الواحدة او، أسوأ من ذلك، ان نخترع شخصيات خيالية ونسقطها في الصورة، كالمجتمع الدولي، مثلا، الذي يريدك ان تكافح الفساد كي يساعدك، او يتآمر على شعب لبنان ويدعم منظومة نهب دون سبب او دافع واضح.
يحلو لبعض الناشطين في الحراك – المتمايزين عن غيرهم – الإشارة الى “الفيل في الغرفة”، وانه لا يمكن معالجة الملفات القانونية والاقتصادية والدستورية وازمة النظام بمعزل عن مسألة حزب الله. هؤلاء اقرب الى الحقيقة من زملائهم الذين يتجاهلون الصراع في الإقليم بالكامل. لكنهم هم أيضا يتجاهلون ان الغرفة ليست مغلقة، وأن “مسألة حزب الله”، متى ما بدأنا التفكير فيها جديا، تُحيلنا إلى فيل آخر في الغرفة.
لا يستقيم تحليل الأوضاع في أي بلد في العالم حيث للولايات المتحدة مصلحة دون أخذ هذه المصلحة في الحسبان، كي لا نقول وضعها في صلب التحليل. هذا يصح حتى حين تضع واشنطن سياستها في الاقليم على نار خفيفة، وتبتعد عن استخدام القوة العسكرية. فالنار الخفيفة الأميركية ليست حقا خفيفة، نظرا لتعدد الوسائل والقدرات المتاحة امامها. غالباً ما تكون هي الفيل الفعلي في الغرفة.
فلنحدد المشهد اكثر. هناك منظومتان لا تراهما هذه الشريحة. حزب الله، بما يشكل من امتداد لمحور إقليمي يضم ايران وسوريا والفصائل الفلسطينية المعادية لإسرائيل، والحشد في العراق والحوثيين في اليمن. ثم هناك منظومة على رأسها الولايات المتحدة وتضم دولا خليجية وأوروبية وإسرائيل. الاوليغارشية (او المنظومة المالية او سمها ما شئت)، هي أيضا في صلب الصورة وكذلك الأحزاب الاخرى، لكنها ليست وحدها. هذا للتبسيط، مع ملاحظة تفاوت الأدوار وتباين الأولويات في ما بين اطراف المنظومة الواحدة، وتقاطعات كثيرة بين المنظومات، في الداخل وفي الخارج، تزيد المشهد تعقيدا.
هذه هي الحلبة التي دخلها الحراك: ساحة تعج بلاعبين اقوياء منظمين. قوة امبريالية لها حلفاء اقليميون مؤثرون، مقابل حزب مسلح شديد التنظيم يتمتع بدعم شعبي وامتدادات إقليمية، إضافة الى المنظومة الاوليغارشية المتغلغلة في الدولة. قد يُضعف مشهد هذه القوى من شعورنا بالفاعلية ويستبدلها بالعجز، لكن التظاهر بعدم وجودها لا يعني انها اختفت.
ابرز معالم هذه التركيبة العجيبة الغريبة ان الحزب الأقوى – حزب الله – دخل المعترك الحكومي في العام ٢٠٠٥ من دون ان يمس النظام الاوليغارشي المهيمن على الدولة والاقتصاد بشيء.
وهكذا اصبحنا امام عدة منظومات تقاطعت كلها في الدولة، فتعايشت فيها وتناتشت مواقع الإفادة منها لسنوات طويلة. ولا شك في ان هذه القوى تعاملت بأشكال متباينة مع الحراك: اذ اخترق بعض مناصري الأحزاب (بعضها جزء أساسي من المنظومة الاوليغارشية وبعضها الآخر رأس حربة في مشروع مواجهة حزب الله) الشارع وأصبحوا جزءا من المشهد الاحتجاجي، في حين تعرض بعض مناصري أمل وحزب الله للمتظاهرين بالعنف في أكثر من مناسبة، ودعا حزب الله أنصاره الى الانسحاب من الشارع.
حدث كل هذا في سياق تاريخي معين، بعد ان آلت محاولة ضرب حزب الله عسكريا الى الفشل في العام ٢٠٠٦، وتوسع الأخير نفوذا وامتدادا في الإقليم منذ ٢٠١١، وبدأت منظومة الأوليغارشية بالانهيار حوالي العام ٢٠١٦.
في هذا الاشتباك الإقليمي، الخيار العسكري (المتمثل بضربة إسرائيلية لحزب الله) معلق (حتى اشعار اخر) بفعل القوة الردعية التي بناها حزب الله، وهذا يزيد من أهمية الوسائل الأخرى بالنسبة الى محور الولايات المتحدة (تضييق الخناق اقتصاديا، العزل السياسي وغيرهما) في سبيل اضعاف حزب الله قدر الإمكان. وهو يزيد ايضا من دور القوة الناعمة التي من وسائلها دعم المنظمات غير الحكومية والاعلام.
هل يضيء هذا بشيء على ما تأمله منظومة اميركا من أي حراك سياسي في لبنان؟
لقد خرجنا للتو من عقد كامل من الثورات والحروب، وهو عقد تزامن مع الصعود الصاعق لوسائل التواصل الاجتماعي، وتاليا مع تصاعد مضطرد في إمكانات الاختراق والتلاعب العاطفي والعقلي والذهني والقيمي. هناك متسع لمقاربة مسألة التلاعب بالمجال المعرفي، قيميا كان ام توصيفيا، لا بل حاجة ملحة الى هكذا مقاربة، خاصة في سياق الثورات والخضات السياسية والاجتماعية.
لكننا ندور في حلقة مفرغة. فالنخب التي يفترض ان تنكب على دراسة ما تعرضت له بلادنا من محاولات تلاعب هي غالبا نفسها النخب الغافلة عنه او المتجاهلة له. تعصف فينا تغييرات وحركات وصراعات، فنرى شرائح نخبوية تركب امواجها وتزهو بها، تتماهى مع “الشعب” وتؤخذ بالآمال العالية والاحلام، ثم تهبط الى إحباط شديد، ولوم الآخر عندما تفشل.
نصبح امام كتل هائمة تائهة تنتظر شرارة جديدة تبث الروح في عقل لم يقرأ ما حدث، ليخوض نفس التجربة من جديد.
(*) راجع الجزء الأول من هذه المقالة بعنوان: البصيرة.. ونخبة الحراك في لبنان
[i] جريدة الأخبار (المشروع البريطاني)
[ii] موقع مون اوف ألاباما