رفض التّطبيع.. مسألة عقائديّة أم واقعيّة مصلحية؟

أمام المتغيّرات المتسارعة في لبنان وفي المنطقة، لم يعد من الجائز، في اعتقادي، رفض الحوار الهادئ والموضوعيّ والبراغماتيّ (بمعنى: العمليّ، ذي الفائدة)، وان كان حول مواضيع قد يعتبرها الكثير منّا اليوم من المسلّمات و/أو من المحرّمات وبشكل عميق وراسخ ربّما.. وبالرّغم من كلّ الصّعاب التي تمرّ حاليّاً بلبنان وبالمنطقة ككلّ.

ومن مثال ذلك بالتّأكيد: مسألة الفائدة المبتغاة – أو الضّرر الممكن دَفعُهُ – من وراء “تطبيع” العلاقات مع العدوّ الاسرائيليّ بحسب البعض. وهي مسألة يبدو أنّها بدأت تعود إلى السّاحة الاعلاميّة و/أو السّياسيّة، بشكلٍ أو بآخر، بطرق جليّة أحياناً وبطرق مُمَوَّهة ومُبَطَّنة في أحيانٍ أخرى.

البعض، خصوصاً في لبنان، يحاول “التّذاكي” حاليّاً من خلال “تهريب” هذه الأفكار هنا وهناك، في شبه الخفاء، وأنا شخصيّاً أدعو إلى تجنّب هذه الطّرق، والحديث بشكل واضح وصريح كما أشرت.

وعلينا الاعتراف واقعاً بأنّ هناك شريحة في مجتمعنا اللّبنانيّ لم تزل مقتنعة بالطّرح “التّطبيعيّ”، ومنذ زمن بعيد نسبيّاً. وذلك بالرّغم من تراجع خطابها حوله من حينٍ لآخر.. بسبب تبدّل وتغيّر التّوازنات المحلّيّة والاقليميّة.

مع التّبسيط: القناعة موجودة لدى البعض منّا، ولكن، يتمّ اخفاؤها أو تمويهها أو اشهارها، بحسب تبدّل السّياقات والظّروف والأحوال.

ومن الواضح أنّ “الخطاب التّطبيعيّ” قد عاد إلى السّاحة اليوم تحديداً وفي لبنان: من بوّابة شعور البعض بأنّ “إسرائيل” تقدّمت أو انتصرت عندنا أو في المنطقة ككلّ (كما حدث، بشكل أو بآخر، عند سقوط بيروت بيد الاحتلال الصّهيونيّ عام ١٩٨٢.. مع اختلاف الظّروف التّفصيليّة بطبيعة الحال).

هل ينفع مجرّد منطق التجنّب والرّفض والتّخوين مع هذه الأوساط والآراء كلّها، علماً بأنّ المقصود هنا، أوّلاً وآخراً، هم مواطنون مثلنا، ونخب، ومثقّفون.. وليس بالضّرورة القادة السّياسيّون والحزبيّون؟

بالطّبع لا. يتوجّب، في اعتقادي، وباختصار مُفيد (ان شاء الله): الانفتاح على الحوار مع هؤلاء الشّركاء والاخوة في الوطن برغم حساسيّة الموضوع وبرغم قناعتنا الرّاسخة والعميقة في ما يعني رفض أيّ شكل من أشكال التّطبيع مع هذا العدوّ الذي لم يزل يعتدي علينا ويدمّر ويحتلّ ويفتن (إلخ..).

ومفتاح مفاتيح هذا الحوار، بحسب الطّرح الذي أودّ الدّفاع عنه في هذه الورقة، يكمن في اقناع المخالفين لموقف “رفض التّطبيع” بأنّ القضيّة ليست مجرّد قضيّة أيديولوجيّة-عقائديّة أو دوغمائيّة كما بات يظنّ الكثيرون، بل هي قضيّة واقعيّة وعمليّة بامتياز.

علينا برأيي اقناع المخالفين إذن: بأنّ رفضنا “للتّطبيع” لا ينطلق من مجرّد موقف أيديولوجيّ جامد وبعيد عن معطيات الواقع وعن نظريّة المصلحة إن جاز التّعبير.. بل هو نابعٌ من تقييم موضوعيّ لحساب الغُنمِ والغُرمِ، لحساب الفائِدة والضّرَر، وعلى أرض الواقع والوقائع.

***

لنبدأ الحوار إذن من خلال ثلاثة أسباب رئيسّة تُحتّم علينا “رفض التّطبيع” اليوم، في اعتقادي، ولنحاول فتح النّقاش الموضوعيّ المرتجى من هذه البوّابة الهادئة كما وعدنا:

أوّلاً؛ هؤلاء “القوم”[1]، وهذا الكيان، لم يعطوا حتّى الآن: حلّاً عادلاً ومقبولاً وانسانيّاً ومُزمناً للمشكلة التي تسبّبوا بها، وهي “مشكلة الشّعب الفلسطينيّ” إن جاز التّعبير. وقد تمّددت هذه المشكلة إلى مساحات جغرافيّة وديموغرافيّة واسعة، وما زالت تتمدّد: ومن مثل ذلك موضوع جنوب سوريا وجنوب لبنان اليوم بالذّات كما تعلم. لنعبّر عن هذه النّقطة كما يلي بهدف التّبسيط المُفيد إن شئت:

(1) من جهة، الشّعب الفلسطينيّ ليس شعباً قادماً من المرّيخ أو من كوكب عجيب: هو شعب أصيل من شعوب هذه المنطقة، وجزء من تاريخها الاثنيّ والثّقافيّ والدّينيّ والانسانيّ. لا يُمكننا انكار ذلك لا أخلاقيّاً.. ولا حتّى على مستوى الآثار الواقعيّة لذلك طبعاً.

(2) من جهة ثانية، “مشكلة” الشّعب الفلسطينيّ، كما بتنا نُدرك يوماً بعد يوم، هي في حقيقتها مشكلة شعوب المنطقة ومشكلة المنطقة بأسرها. على سبيل المثال لا الحصر: مشكلة اللّاجئين الفلسطينيّين ما هو سببها؟ مسألة عدم الاستقرار المتجدّد والمتنقّل في كلّ مرحلة، ما هو سببه الرّئيسيّ؟ موضوع الفتن والحروب الأهليّة التي تغذّيها “إسرائيل” والدّول الدّاعمة لها.. ما هو سببه الرّئيسيّ إن لم يكن تدعيم موقف الكيان تجاه دول الجوار؟ كذلك الأمر بالنّسبة إلى هدف اضعاف جيوشنا الوطنيّة عموماً، واضعاف اقتصاداتنا، وتفكيك مجتمعاتنا، وتراجع نموّنا الحضاريّ ان صحّ التّعبير.

باختصار، عزيزي القارئ، ومع التّبسيط المُفيد: هل حَلَّ القومُ هذه المعضلة الخاصّة بشعوبنا وبأراضينا، أو تجاوبوا مع أيٍّ من الحلول الجدّيّة المطروحة، بما فيها المبادرة العربيّة المعلنة للسلام عام ٢٠٠٢.. حتّى نقول إنّه من مصلحتنا كشعوب أن “نُطبّع” العلاقات معهم، أو أن نُعطيَهم أيّ شكل من أشكال الشّرعيّة أصلاً؟ هل قبلوا أصلاً، أو من الممكن أن يقبلوا أصلاً.. حتّى بحلّ الدّولتين (أو شبه حلّ الدّولتين)؟

فلنتفكّر جيّداً وبهدوء، آخذين بالاعتبار أيضاً لا حصراً: المسألة الأخلاقيّة الكامنة وراء هذه النّقطة الأولى، وقد نعود إليها لاحقاً بشكل مفصّل.

ثانياً؛ “إسرائيل” ليست جادّة، إلى اليوم، في ما يخصّ حدودها الجغرافيّة النّهائيّة، وفي ما يخصّ ترسيم حدود أطماعها في أراضينا وفي مواردنا وفي ثرواتنا الطّبيعيّة (والبشريّة ربّما). وهي كيان لا يزال يستخدم، عموماً، لغة عنصريّة تجاه أغلب مكوّنات المنطقة (حتّى المُطبِّعة أو المتعامِلة معه). لنُعبّر هنا أيضاً من خلال رُكنَين أساسيَّين، لكي نُسهّل النّقد، ونقد النّقد:

إقرأ على موقع 180  رئيس جمهورية لبنان المقبل.. هل يكون صناعة وطنية؟

(1) من جهة، كما هو معلوم، لا يُعطي الكيان الصهيوني إشارات نصّيّة قانونيّة دقيقة وصارمة ونهائيّة حول ما يرى أنّها حدوده النّهائيّة (بما يشمل اليوم بوضوح متصاعد: بعض المناطق السّوريّة طبعاً، وبعض الأراضي اللّبنانيّة كما بات يُدرَك ويُعرَف يوماً بعد يوم وليس فقط من خلال الشّعارات).

(2) ومن جهة ثانية، هو كذلك لم يزل يتصرّف في ملفّاتٍ عديدة على أنّه “فاتحٌ غازٍ” وبشكل لا لبس فيه: أنظر إلى سوريا مثلاً.. ماذا فعلت له السّلطات الجديدة في دمشق اليوم، حتّى يصرّ على التوغّل والاحتلال والتّدخّل والاعتداء والضّمّ (إلخ..)؟

حقّاً، عزيزي القارئ، هل من الحكمة أن “تُطبّع” علاقاتك مع من لا يزال يشرّد اخوانك وأهلك، ويتوغّل ويتغوّل في احتلال أراضيك، ويُصرّ على التّعامل مع شعبك – أو شعوبك – بفوقيّة وبفاشيّة وبعنصريّة.. ومع من يرفض أن يُعطي البرهان اليقينيّ على أنّه لا يريد الاستمرار في التّوسّع وفي الإهانة وفي الضّمّ وفي التّشريد (إلخ..)؟

حقّاً، من عنده ضمان هذا الكيان، وفي العالم أجمع؟ من يستطيع الادّعاء أنّ بإمكانه نيلَ ضمان عدم توسّع أو عدم عدائيّة/عدوان هذا الكيان.. ومن قبل أيّ دولة من دول العالم؟

قد تكون متردّداً أو خائفاً أمام احتمال دفع أثمان “مقاومة” هذا الكيان، ولكن – على الأرجح – لا يُمكنك أن تدّعي أنّ عندك أيّ شكل من أشكال “ضمانه”، وبالتّالي لا يُمكنك أن تدّعيَ أنّ تطبيع العلاقات معه فيه الحدّ الأدنى من الأخلاق والكرامة.. وأيضاً: أنّ فيه الحدّ الأدنى من العقلانيّة والحكمة!

كما سبق ولمّحت، فلا مشكلة عندي في أن يُردّ عليّ في هذه النّقطة بالذّات.. مع تعجّبي من مواقف بعض الأخوة والأخوات أمام وضوح أغلب جوانبها خصوصاً في ضوء الأحداث الرّاهنة في فلسطين وسوريا ولبنان!

ثالثاً؛ طبيعة هذا الكيان – أو “مضمونه الهويّاتيّ” إن شئت – خطِران واقعاً على كلّ دول وكيانات وثقافات المنطقة، وكذلك على التّكامل المنشود – عاجلاً أم آجلاً – بين مكوّنات هذه الأخيرة. أقصد بالذّات طبيعتَه الدّينيّة-القوميّة-الفاشيّة-العنصريّة معاً (وهي خلطة سلاح دمار شامل واقعاً). ومن العقلانيّ اعتبار أنّ ميل الدّول الغربيّة إلى فرض وجوده بأيّ ثمن تقريباً، وضمن هذا الشّكل وهذه الطّبيعة: يفرض على هذه الدّول – اليوم أو غداً – أن تحاول تعميم هذا الشّكل وهذه الطّبيعة على باقي الدّول والبلاد في الإقليم – قدر الإمكان وبشكل أو بآخر.

الأمثلة والوقائع كثيرة ومتعدّدة في الحقيقة، ولكنّ الأحداث الجارية حاليّاً في سوريا تحديداً وأيضاً: تؤكّد هذه الزّاوية وإلى حدّ بعيد.. حيث صار نتنياهو يضع نفسه في موقع المدافع عن بعض “الأقلّيّات” وما إلى ذلك. باختصار ومع التّبسيط: “إسرائيل” فاشيّة-عنصريّة، تدفع نحو منطقة يعمّ فيها النّموذج الفاشيّ-العنصريّ.

الفكرة الجوهريّة ذاتها تتكرّر: نحن اجمالاً أمام كيان تُحتّم طبيعته وتُحتّم أهداف قياداته ونخبه.. العمل على اضعاف وتفتيت وتقسيم الدّول والكيانات والمكوّنات المحيطة.

فهل من الحكمة الذّهاب، اليوم، بناسِنا ونخبِنا ودولِنا نحو تطبيع العلاقات معه، ونحو اعطائه هذه الهديّة المجّانيّة ان شئت، بينما الأولى أن يُعمل على الضّغط عليه بشكل عميق ومستمرّ.. لا سيّما من زاوية انكار شرعيّة طبيعته وأهدافه وأطماعه مهما كانت الأثمان؟

***

مع الفلسفة التي تعتمدها وتتصرّف أغلب النّخب الاسرائيليّة-الصّهيونيّة من خلالها اليوم: من الجنون، برأيي، مجرّد التّفكير في الذّهاب باتّجاه أيّ شكل من أشكال التّطبيع معها، وذلك بالنّسبة إلى دول ومكوّنات منطقتنا.

في المحصّلة، لنفتح الحوار الهادئ والموضوعيّ سويّاً بالتّأكيد.. ولكن، لنتفكّر في هذه النّقاط جيّداً، حتّى لا نكون أمام ارتكاب تدريجيّ لخطيئة عظمى بحقّ شعوبنا وحضاراتنا وتاريخنا.. وبحقّ مستقبل أولادنا.

[1] أقصد العدوّ بشكل عامّ، والنّخبة الصّهيونيّة بشكل خاصّ.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  يا لودريان.. أتدري على من تقرأ مزاميرك اللبنانية؟