“حلف الفضول” جاهلي المنبت.. رؤيوي النظرة!

منذ ما يزيد عن ربع قرن وكلّما اقتربتْ الذكرى السنوية لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، يُذكّرني الدكتور جورج جبور بـ"حلف الفضول"، الذي اشتغلنا عليه وكتبنا فيه وحاضرنا عنه لسنوات غير قليلة.

لطالما إعتبرنا “حلف الفضول” رافداً من الروافد العربية لحقوق الإنسان، فلماذا يتم اهمال رافدنا في حين تتسابق الأمم والبلدان لتأكيد روافدها؟ وعلى أغلب الظن أن الحلف تأسس بين أعوام 590 – 595 م، أي قبل ما يزيد عن ستة قرون على صدور الماغنا كارتا “العهد العظيم”، وقبل نحو 12 قرناً من الثورة الفرنسية وصدور “ميثاق حقوق الإنسان والمواطن”.

والسؤال الذي يطرح نفسه بعد انتشار فكرة حقوق الإنسان، هل يمكن مقاربة “حلف الفضول” لفكرة حقوق الإنسان المعاصرة تاريخياً؟ وهل هناك جذور لمفاهيم حقوق الإنسان في تاريخنا العربي؟

نشأ “حلف الفضول” حين اجتمع فضلاء مكة في دار عبد الله بن جدعان وتعاهدوا على أن “لا يدعوا ببطن مكّة مظلوماً من أهلها، أو من دخلها من غيرها من سائر الناس، إلّا كانوا معه على ظالمه حتى تُردّ مظلمته”

فالعرب كأمة مثل غيرها من الأمم لا يمكنها غضّ الطرف عن الفكرة الكونية لحقوق الإنسان، خصوصاً وأن الفكرة اكتسبت بعداً دولياً وحظيت باهتمام كبير من جانب المجتمع الدولي، وبالتالي لا بدّ من البحث في تراثنا بما ينسجم مع توجّهاتها، علماً بأن الفكرة وإنْ كانت نبيلة وإنسانية، إلّا أنها تستخدم أحياناً لأغراض سياسية وبطريقة انتقائية وبمعايير ازدواجية، خصوصاً من جانب القوى المتنّفذة في العلاقات الدولية، دون أن نتجاهل أن بعض الاتجاهات المتعصّبة في عالمنا العربي تعاملت معها باعتبارها “بدعة غربية” و”اختراعاً مشبوهاً”، نافية إلى درجة الإنكار أيّ علاقة لها بالتاريخ العربي الإسلامي، وذلك بالتشديد على الخصوصية الثقافية والقومية والمحلية بطريقة انغلاقية، بل ومعتبرة كلّ حديث عنها إنما يثير الشك والريبة والمشبوهية.

فما هي فكرة الحلف؟ وما علاقته بالفكرة الكونية لحقوق الإنسان؟

نشأ “حلف الفضول” حين اجتمع فضلاء مكة في دار عبد الله بن جدعان وتعاهدوا على أن “لا يدعوا ببطن مكّة مظلوماً من أهلها، أو من دخلها من غيرها من سائر الناس، إلّا كانوا معه على ظالمه حتى تُردّ مظلمته”.

وقد اتّخذ الإسلام موقفاً إيجابياً من “حلف الفضول” الجاهلي. وحين ألغى النبي محمد كل أحلاف الجاهلية استثنى منها “حلف الفضول”، ويوم سُئِلَ عنه، أجاب “شهدت مع أعمامي في دار عبدالله بن جدعان حلفاً لو أنني دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت”.

الحلف الذي نعتبره أول رابطة لحقوق الإنسان هو تعاهدٌ على:

  • رفض الظلم والعمل على إلغائه.
  • المساواة بين أهل مكة ومن دخلها من سائر الناس.
  • إحقاق الحق ونصرة المظلوم وردّ الحقوق إليه.
  • الوقوف ضد الظالم.
  • الحفاظ على حياة الناس وكرامتهم.
  • اللجوء إلى هيئة (الفضلاء) لردّ الظلم.

وذلك لعمري يمثل جوهر فكرة حقوق الإنسان المعاصر برفض الظلم والتمييز مهما كان نوعه مدنياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو ثقافياً. وقد اغتنت فكرة الحلف وتعمّقت بالقيم والمبادئ التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهّرة.

اتّخذ الإسلام موقفاً إيجابياً من “حلف الفضول” الجاهلي. وحين ألغى النبي محمد كل أحلاف الجاهلية استثنى منها “حلف الفضول”، ويوم سُئِلَ عنه، أجاب “شهدت مع أعمامي في دار عبدالله بن جدعان حلفاً لو أنني دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت”

جديرٌ بالذكر أن المفكر جورج جبّور ظلّ يخاطب الأمم المتحدة والعديد من المنظمات الدولية الحقوقية حتى تم الاعتراف بالحلف في العام 2007، حيث وردت الإشارة إليه في بيان أصدرته المفوضية السامية لحقوق الإنسان باعتباره أحد مصادر الفكرة الكونية لحقوق الإنسان.

ومثل هذه الإشارة لها دلالاتها المهمة، فهي تعني أن العرب قاربوا فكرة حقوق الإنسان منذ ما يزيد على 1400 سنة، ولهم رافدهم الثقافي إسوة ببقية الأمم والشعوب التي تبحث في تاريخها وتراثها ما يدعم الفكرة المعاصرة بدلاً من التنكّر لها أو تجاهلها. كما أنها تردّ على الذين يتهمون العرب بأن دينهم يحضّ على الكراهية والعنف والإرهاب، بدليل سجّل بعض البلدان العربية بخصوص حقوق الإنسان، وهو غير مشجع بالطبع، بما يعطي مثل هذا “المبرر” المهين، وسواء كان الأمر بحسن نيّة أو بقصدية واستهداف، وهذا هو الغالب الشائع، فإن النتيجة واحدة وهي الفكرة السائدة لدى قوى وجهات دولية ومفادها أن الثقافة العربية- الإسلامية أساسها التعصّب ووليده التطرّف وأن حياة العرب والمسلمين منغلقة ومتخلّفة.

إن فكرة “حلف الفضول” وما يمثله من ثقافة وإرث تاريخي هي ردّ على تلك الاتجاهات السائدة في الغرب التي تعتبر العرب والمسلمين متناقضين كلياً مع فكرة حقوق الإنسان بالفطرة ومتصادمين مع مبادئها ثقافياً، وللردّ على ذلك نقول إن العرب والمسلمين معنيون مثل غيرهم بحقوق الإنسان دفاعاً عن حقهم في الوجود وهويّتهم الخاصة في الانبعاث وتحقيق التنمية والتقدم واللحاق بركب البلدان المتقدمة في العيش بسلام وحريّة وكرامة وتأمين مستقبل أفضل لحياة شعوبهم، وذلك وفقاً لخصوصياتهم وتمايزهم الديني والثقافي، دون إهمال للتطور العالمي في هذا الميدان، بل التفاعل معه والانفتاح عليه على نحو إيجابي، ولكن دون أن يعني ذلك التخلي عن خصائصهم بزعم الشمولية والعالمية، وهذه الأخيرة بقدر ما فيها من معايير عامة تخصّ البشر ككل، فإنها تحتاج إلى احترام الهويات الخاصة للشعوب وثقافاتها، في إطار المشترك العالمي والقيم الإنسانية العالمية.

إقرأ على موقع 180  المعتقل نضال أبو عكر.. فسحة حرية مؤجلة!

Print Friendly, PDF & Email
عبد الحسين شعبان

أكاديمي، باحث ومفكر عراقي

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  القضاء اللبناني ينتفض ضد السلطة السياسية.. ماذا بعد؟