لعل القطاع الوحيد المستفيد من هذا التموضع هو قطاع المال. المُقرض الذي لا يمل المتنافسون من طرق أبوابه كسباً لرضاه للحصول على قرض من هنا أو تمويل من هناك، حتى يكاد المشهد ان يُختزل بأن الاقتصاد بكليته يعمل لصالح هذا القطاع.
من المفترض أن تكون القاعدة عكسية: قطاع المال على أبواب القطاعات الاقتصادية سعياً وراء توظيف يدر منفعة على من لا يملك مهنة او استثماراً، وهذا لا يكون الا في ظل فوائد صفرية، فما بالك اذا فُرضَ على من يحول على ماله الحول ويُجبر ان يدفع عليها نسبة معينة.
الآن، ومع انقطاع التواصل بين الأسواق بسبب جائحة (كوفيد ـ 19) الوبائية، والتزام المستهلك الحجر الصحي، صَغُرت رقعة المنافسة وحجمها، ما يستتبع انكماشاً اقتصادياً في كل دول العالم، سيهتز معها قطاع المال الذي يتغذى على هذا الاقتصاد المنكمش، وسنشهد كساداً كبيراً، وما سقوط اسعار النفط الحاصل الا مؤشراً رئيسياً بهذا الإتجاه.
في لبنان، قبل الجائحة وعلى مدى 28 عاما، كانت الدولة غارقة في سندات دين قدمتها الدولة لمصرفها المركزي وللمصارف العاملة والمودعين في إطار سياسة موّلت عجزاً أصبحت مدمنة عليه حتى وصل العجز إلى ثلث الميزانية الحكومية وقارب الدين العام عتبة ضعف الناتج المحلي، مما اضطرها الى فك الارتباط عمليا بالدولار الأميركي.
هنا تقع المسؤولية على الدولة التي ادمنت الاستدانة لسد عجز متنامٍ ولم تعمل على ترشيد الإنفاق، فالمصرف المركزي ثّبت العملة الوطنية مقابل الدولار ومنع بالتالي تمويل الدولة بالتيسير الكمي واتجه الى الغَرفْ من أموال المودعين، وأما المصارف فقد وجهت أموال مودعيها لشراء سندات الدولة بنسب عالية بالنسبة لمجموع توظيفاتها، وجعلت المودعين يركضون وراد الفوائد العالية، فيما لم تدق شركات التدقيق المعنية ناقوس الخطر.. إلا متأخرة.
من رحم كل أزمة تخرج الفرص: الفرصة الذهبية اليوم هي للصناعة والزراعة والسياحة. فارتفاع اسعار المنتجات المصنعة خارجيا سيحول المستهلك إلى المصانع الداخلية والإنتاج الزراعي الداخلي من جهة توخيا لأسعار مناسبة للمداخيل المتهاوية، ومن جهة أخرى، سيستفيد المستثمرون في الصناعة والزراعة والسياحة من قوى عاملة باجر يسمح بتحقيق هامش من خلاله ستتطور هذه القطاعات الثلاث.
لقد دفع المودعون في المصارف، الساعون إلى جني الفوائد العالية، فاتورة باهظة، عندما عمد المصرف المركزي إلى “اذابة” نصف تلك الودائع عن طريق فرض سعر 1515 ليرة مقابل الدولار، في وقت وصل سعر الدولار في السوق السوداء الى ما يزيد على 3000 ليرة.
سيكون القطاع المصرفي أمام ديون مستحقة، ومنها التجارية والعقارية الصعبة السداد، وسيضطر بالتالي الي إعادة هيكلة نفسه من خلال ضخ رساميل للمساهمين لتغطيتها او الانخراط في عملية بيع او اندماج.
إن الخروج من النفق يتطلب جهدا ووقتا ولكن من الضروري محاسبة من تسبب في هذه الكارثة، من جهة، ورسم سياسات وأهداف اقتصادية خمسية وعشرية مع أهداف واضحة وتوفير الأدوات المناسبة لتحقيقها، من جهة أخرى.