خارطة الإرهاب في شمال سوريا.. وبدعة “الإستقرار الأمني”!

دفعت سوريا على مدى أكثر من عقد من الزمن، بعد انطلاق الثورات الملونة في المنطقة العربية، ثمناً باهظاً هو الأكثر كارثية في تاريخها الممتد لأكثر من خمسة آلاف عام. في هذا النص محاولة للإضاءة تحديداً على أهداف المشروع الغربي ودور تركيا والمجموعات الإرهابية.
استطاعت القوى العميقة في الولايات المتحدة إحداث إنقسام عميق داخل المجتمع السوري، عمودياً وأفقياً، باستخدامها الجيل الرابع من الحروب، في مجتمع محلي لم يكن محصناً بما فيه الكفاية لرد مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي وُضعت أسسه في مؤتمر سي آيلاند في الولايات المتحدة عام 2004، الذي اعتمد على قوى الإسلام السياسي الإخواني، لتشكيل إطار جيوسياسي واسع، لحصار التهديدين الأساسيين لاستمرار الهيمنة الأمريكية على مقدرات الاقتصار العالمي، والمتمثلين بالصين وروسيا، ولَم يكن هناك أفضل من النظام السياسي التركي كنموذج لتسويقه، بدغدغة مشاعر المسلمين واستقطابهم، وتكليفه بإدارة القوى المتطرفة من الجماعات الإسلامية.
نجحت الولايات المتحدة في إطلاق مشروعها إبتداءً من تونس ومصر وليبيا، بإعادة تطبيق الثورات الملونة، واستطاعت الوصول إلى سوريا، التي تحولت إلى البوابة الأخيرة لانتقال الفوضى نحو الفضاءين الروسي والصيني، وحصار إيران بصيغة مذهبية مغايرة، لتقطيع أوصال القارة الآسيوية، التي تشهد نهضة كبيرة.
كان للموقفين الروسي والصيني دورهما الرئيسي في إسقاط مشروع شرعنة التدخل الغربي في سوريا كما حصل في ليبيا، باستخدام الفيتو في مجلس الأمن الدولي لثماني عشرة مرة خلال سنوات الحرب.
كان للتدخل العسكري الروسي المباشر في الحرب (2015)، وبالتعاون مع إيران وسوريا دوره الأساس في تحجيم المشروع الأمريكي، وتقليص طموحات تركيا التي كانت تسعى للتمدد إلى شمال إفريقيا عبر البوابة السورية، ما دفع بكل من الولايات المتحدة وتركيا للتعاطي مع المستجدات الميدانية من منطلقات مختلفة، فكان الضوء الأخضر الأمريكي لتركيا باحتلال جرابلس وإدلب وعفرين ومناطق واسعة من الشمال السوري.
استطاعت تركيا التحول إلى لاعب أساسي في الحرب على سوريا، خاصةً بقدرتها على استثمار التناقضات بين روسيا والولايات المتحدة اللذين حرصا على استقطابها، ما جعلها تندفع نحو الخطة البديلة لتنفيذ الميثاق الملي للعام 1920، الذي يعطيها الدوافع لاحتلال منطقتي شمال سوريا والعراق، وضمهما إلى الدولة التركية.
تعتمد الخطة التركية لضم الأراضي على مراحل مختلفة تبدأ أولاً باستخدام ذرائع تهديد أمنها القومي، بحجة وجود تنظيم كردي إرهابي، وضرورة إبعاده عن الحدود التركية لمسافة 30 كلم، والاعتماد على تنفيذ هذا العمل على أيدي مرتزقة سوريين، وعلى أيدي الجماعات الإرهابية المتطرفة، ثم تنتقل في المرحلة الثانية إلى إحداث تغيير ديمغرافي في هذه المناطق، بطرد سكانها من السوريين الكُرد، وإحلال عوائل الإرهابيين الذين تم إخراجهم من الغوطة وريف حمص الشمالي وجنوب سوريا، ومناطق واسعة من ريف حماه الشمالي وجنوب وشرق إدلب من المناطق التي تم تحريرها عام 2020، ثم تأتي المرحلة الثالثة التي تتطلب ترسيخ الولاء لتركيا، بالعمل على تثبيت ولاء هؤلاء السوريين للدولة التركية ليطالبوا في ما بعد بضم المناطق التي استوطنوها بعد طرد أهلها إلى الدولة التركية.
 وتعمل تركيا بشكل متسارع، على تغيير البُنى الثقافية والاقتصادية والاجتماعية في هذه المناطق، والدفع نحو عملية التتريك، بنشر المناهج التعليمية التركية، وتداول العملة التركية بديلاً لليرة السورية، وإقامة مراكز للخدمات المالية والمعاملات الرسمية والكهرباء والاتصالات والإنترنت، وافتتاح مدارس وفروع كليات لجامعات تركية، بالإضافة إلى تسويق “الاستقرار الأمني” الجاذب للسوريين نحو النموذج التركي، بديلاً عن الدولة السورية.
هل نجحت تركيا في تسويق كل ذلك؟
هناك وقائع على الأرض بالإضافة إلى تقارير دولية رسمية تنفي حصول ذلك، خاصةً بعد تراجع القيمة الشرائية للعملة التركية، وصولاً إلى حاجز الـ 13 مقابل الدولار، بعد أن كانت قبل الحرب على سوريا لا تتجاوز 1.3.
من الناحية الأمنية فإن الوضع في المناطق التي سيطرت عليها هذه المجموعات الإرهابية، لا ينسجم مع السرديات الإعلامية التي يتم تسويقها بشأنها، لا سيما إذا دققنا بأعدادها وأماكن تموضعها وسيطرتها، والصراعات التي تدور في ما بينها، وعمليات الخطف للمدنيين، خاصةً في منطقة عفرين لابتزاز أهلها المتبقين بدفع الفديات، والدفع بهم نحو مغادرة بيوتهم ومناطقهم، بالإضافة إلى الصراعات الدموية في ما بينهم، وتكاد تكون يومية، ويكفي أن نتابع أسماء هذه التنظيمات التي تقودها جميعاً الاستخبارات التركية، وأماكن تواجدها حتى نُدرك وَهْم “الاستقرار الأمني”.
يدفع السوريون ثمن الحرب على بلادهم، وعدم استيعابهم مشاريع الفوضى الخلاقة التي دفعت بها الولايات المتحدة، برغم وقوعهم بين تجربتي لبنان والعراق، وهما البلدان اللذان خاضا حروباً أهلية مُدمرة، وبالتالي ينتظرون تغير المناخات الدولية كي يجدوا حلاً لمأساتهم، بعد أن أصبحوا بأغلبيتهم الساحقة حالياً تحت خط الفقر
توزع المجموعات
أبرز هذه المجموعات هي “هيئة تحرير الشام” الواجهة النهائية لـ”جبهة النصرة” (التي اعلنت بيعتها للقاعدة منذ انطلاقها) والتي اتت للقضاء على ما يسمى “الجيش الحر” وطرده نهائيا، حيث لجأ الى تركيا، الا من بايع من عناصره “جبهة النصرة” وانخرط فيها، وهذا هو حال كل التشكيلات الإرهابية التي اندثرت حاليا بتغيير مسمياتها، لمصلحة “هيئة تحرير الشام” التي لها السيطرة الاولى على كافة محاور الشمال السوري المحتل، بالإضافة لإمساكها بكل مفاصل الاقتصاد في المناطق التي تسيطر عليها في إدلب وريف حلب.
عملت الهيئة على سياستين هما الإدماج من جهة، والتحكم بكل المجموعات الجهادية التكفيرية من جهة أُخرى، فكل المسميات الحالية هي تحت قيادتها وإمرتها، برغم اختلاف الجهة الداعمة والممولة.
ولرسم المشهد وتداعياته على الوضع الأمني في هذه المناطق، وقابليته للانفجار في لحظة، لا سيما عندما تتناقض مصالح الدول الداعمة والمتبنية لهذه المجموعات، لا بد من إستعراض أهم هذه المجموعات:
1- مجموعة أبو مسلم الشيشاني المدعوم من تركيا وبتمويل قطري، وقد تم زرعه في جبال اللاذقية، منذ استقدامه وكل عناصره من الشيشان، وهو المسيطر الوحيد هناك ولا يسمح بدخول أي كان للمنطقة، وتم حفر الجبال بتقنيات حديثة، لتكون ملجأ لهم ولعائلاتهم، وتحميهم حتى من اقوى وأدق الصواريخ، وتم إخلاء هذه المجموعة بالقوة لعدم انصياعها بشكل كامل لقيادة الهيئة والاستخبارات التركية.
2- صقور الشام بقيادة احمد عيسى الشيخ الذي تموضع على الحدود الشرقية لجبل الزاوية، وعائديته بالأساس لحركة الإخوان المسلمين، وانضوى تحت لواء جبهة النصرة وبايعها بعد طرد الجيش الحر.
3- الجيش الوطني وهو تجميع لكافة الفصائل الارهابية الصغيرة منها والكبيرة والتي كان لها تاريخ اجرامي موثق وهو يوالي تركيا وينتشر في الشمال (ادلب وحلب) وشرق الفرات، وتغلب عليه الصراعات الدموية البينية المستمرة على المعابر والسرقات، بالإضافة للتنكيل بمن تبقى من السوريين الكرد في عفرين والمناطق المحتلة شمال شرق الفرات.
4- فرقة سليمان شاه بقيادة محمد الجاسم العمشات (نسبة لقائده ابو عمشة من سهل الغاب”، وينتشر في الشمال السوري على الحدود الغربية لحلب بمواجهة الجيش السوري وله معسكرات على الحدود التركية.
5- فرقة الحمزات بقيادة الملقب (سيف ابو بكر).
6- لواء سمرقند بقيادة ثائر معروف من حبل الزاوية.
7- فرقة السلطان مراد بقيادة فهيم عيسى.
8- فيلق المجد بقيادة ياسر عبد الرحيم.
9- لواء صقور الشمال ومن متزعميه حسين خيري وهو من حركة الإخوان المسلمين.
10- لواء انصار التوحيد ويتبع لهيئة تحرير الشام، على خطوط المواجهة في  سراقب.
11- لواء الفاروق بقيادة الضابط المنشق جميل الصالح، وينتشر في شمال محافظة ادلب قرب الحدود التركية.
12- قوات الأوزبك، وهي بالكامل عناصر اجنبية من آسيا الوسطى، وبعد أن تم طردهم من الجبهات الغربية لإدلب (ريف جسر الشغور الغربي)، تم توطينهم في اطراف مدينة ادلب الشرقية وفي معسكرات شمال ادلب قرب الحدود التركية.
13- جيش الإسلام الذي أسسه زهران علوش بدعم سعودي والذي يضم المقاتلين الذين تم اخراجهم من الغوطة، وينتشر في سهل الغاب تحت قيادة الهيئة.
14- حراس الدين وهو تنظيم يتبع لتنظيم القاعدة بشكل كامل، ويخضع لحماية هيئة تحرير الشام، وينتشر في ريف جسر الشغور.
15- أنصار التوحيد وينتشرون شرق ادلب، في منطقتي بنش وسرمين.
وتم تحويل منطقتي كفريا والفوعه إلى منطقة خاصة بالكامل لمجموعات المهاجرين، بعد تهجير أهلها منهما، بإدارة هيئة تحرير الشام.
يذكر أن قرى الريف الغربي لمحافظة ادلب المسيحية والعلوية تم طرد اهلها منها وتوطين شيشانيين وايغور وافغان وغيرهم من المقاتلين وعائلاتهم من آسيا الوسطى فيها، بالإضافة إلى التركستان الذين ينتشرون في كفرتخاريم ودركوش وسلقين وتحت قيادة الهيئة التي تتسلم كافة مفاصل القيادة.
هذا التنوع الكبير بعدد الفصائل، برغم إنضواء أكثرها تحت جناح الهيئة، لا يوفر الاستقرار الأمني للسكان المدنيين، خاصةً أن التجارب السابقة في ما بينها كانت دموية، كما أن أجهزة الاستخبارات الغربية وغير الغربية تعمل بشكل واسع فيها، ولها حساباتها الخاصة المرتبطة بمصالح دولها، ولا يمكنها أن تبقى على وئام، بفعل المتغيرات الدولية والإقليمية المستمرة والمتلاحقة، التي تفرض على كل اللاعبين في الحرب السورية إعادة ضبط ساعاتهم على وقعها.
الناحية الاقتصادية
تحولت إدلب وبقية المناطق المحتلة إلى نسيج اجتماعي متنافر، نتيجة اجتماع البيئات السورية المتعددة في بقعة جغرافية صغيرة، من منابت مختلفة في المزاج وطريقة العيش، ما ترك آثره على هذه المناطق، وخاصةً على المقاتلين الذين اختاروا مع عائلاتهم الخروج من مناطقهم، ورفض المصالحات التي كانت تتيح لهم الاستمرار فيها، ما ولَّد حالة اغتراب داخلي، بالإضافة إلى تواجد المجموعات الآسيوية من الأوزبك والشيشان والطاجيك والتركستانيين الإيغور.
وتنقسم المجموعات السكانية في نمط توطنها بين سكان المدن والأرياف، وبين الذين تم توطينهم في مخيمات النزوح التي يتجاوز عددها الخمسة عشر مخيماً، وتحول سكان المخيمات إلى سلاح في يد المشروع الغربي ـ التركي، يتم إشهاره بشكل دائم ومستمر كقضية أساسية للابتزاز السياسي، انتظاراً لنضوج تسويات سياسية دولية، يتم المراهنة عليها لإحداث تغيير سياسي، يتيح تغيير الاصطفاف الجيوسياسي لدمشق، بما يَصْب في المصلحة الغربية، في إطار المحاولات الأمريكية لاحتواء روسيا والصين، والدفع بإيران لقطع التواصل البري بين المشروع الأوراسي ومبادرة الحزام والطريق.
على الرغم من المحاولات التركية لتتريك منطقة شمال سوريا المحتلة، والعمل على ربطها مع لواء إسكندرون المُستلب “هاتاي” وغازي عينتاب، فإن الوضع الاقتصادي في هذه المناطق ما زال في حالة انحدار، خاصة بعد تقلص التمويل للمجموعات المسلحة، وإنتشار الفساد في المنظمات الإنسانية الدولية والتركية التي توزع  مساعدات إنسانية، بالإضافة إلى استيلاء “الهيئة” على قسم كبير من المساعدات، وتوزيعها على عائلات المقاتلين، مع وجود أنباء عن بيعها في الأسواق المحلية.
على الرغم من الشكوك حول مجمل البيانات، التي طرحها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش حول الاحتياجات الإنسانية، وإمكانية تلاعب الحكومة التركية بها بغاية الابتزاز وتحصيل أكبر نسبة من التمويل، كي تدخل في دورة حلقة الفساد العائلي، فإن الأرقام التي طرحها عن نسبة الاحتياج للمساعدات الإنسانية في المناطق المحتلة، قد تعطي مؤشراً عن حالة إدعاء الوضع الاقتصادي الجيد للسوريين تحت الاحتلال التركي، فقد ذكر التقرير بأن هناك 3.4 مليون سوري بحاجة للمساعدات الإنسانية من أصل 4.2 مليون  في هذه المناطق، وقد يصح الرقم على ساكني المخيمات الذين يعانون من أثر النزوح الذين اختاروه، تنفيذاً للسياسات الغربية المتبعة بعد دغدغتهم بالأحلام الاقتصادية، بالإضافة لرفضهم المصالحة مع الحكومة السورية.
يدفع السوريون ثمن الحرب على بلادهم، وعدم استيعابهم مشاريع الفوضى الخلاقة، التي دفعت بها الولايات المتحدة، برغم وقوعهم بين تجربتي لبنان والعراق، وهما البلدان اللذان خاضا حروباً أهلية مُدمرة، وبالتالي ينتظرون تغير المناخات الدولية كي يجدوا حلاً لمأساتهم، بعد أن انقلبوا على وضع اقتصادي ناهض، تجاوز فيه النمو الاقتصادي 5.6 %، ليصبحوا بأغلبيتهم الساحقة حالياً تحت خط الفقر بنسبةٍ تجاوزت الـ90%، فهل يستطيعون اجتراح حل داخلي بعيداً عن مصالح الدول الإقليمية والدولية؟
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  ورقة لبنان إلى مؤتمر بروكسل للنازحين.. كفى!
أحمد الدرزي

كاتب وباحث سوري

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  إجتماع أنقرة يفرج عن اللجنة الدستورية و "المصغرة" لم تعترض