إن الغزو الروسى لأوكرانيا، يعد أكبر عملية عسكرية تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، ومن المتوقع أن تتسع رقعة المواجهات عندما تسقط العاصمة كييف وهو ما يبدو أنه مسألة ساعات قليلة، وقت كتابة السطور مساء الجمعة (25 شباط/ فبراير) بتوقيت القاهرة. وصور تدفق اللاجئات واللاجئين الأوكرانيين على محطات القطار وفى الطرق العامة للهروب من الغزو الروسى بالإضافة إلى صور الاحتماء بالملاجئ قد ذكرت أوروبا والعالم الغربى بالأجواء الكئيبة للحرب العالمية الثانية، كما أن الغزو قد ذكر العالم بأجواء الحرب الباردة التى اعتقد الغرب أنها انتهت إلى الأبد بسقوط الاتحاد السوفييتى فى ١٩٩٠.
***
فى مقاله المنشور يوم الخميس ٢٤ فبراير/ شباط فى الواشنطن بوست، ذكر الكاتب «إيجين روبنسون» أن طموح بوتين من الغزو هو أن يتذكره التاريخ كـ«بوتين العظيم» بجانب أسماء كبرى فى التاريخ السوفييتى كلينين وستالين، حيث يطمح بوتين إلى استعادة المجد السوفييتى على يده مرة أخرى، ولكن رجح الكاتب أنه على الرغم من جنون بوتين الذى لن يغيره عقوبات الغرب عليه، فإن هذا الجنون (الغزو الأوكرانى) قد وحّد الغرب أكثر من أى وقت مضى بل وألّب الشعب الروسى ضده مما قد يعنى فشله فى النهاية!
غزو أوكرانيا يهدف إلى خلق منطقة حماية عازلة بين روسيا وبين أوروبا الغربية عن طريق منع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف الناتو، ومن المتوقع أن أى مفاوضات مستقبلا بخصوص أوكرانيا سيكون هذا هو أهم شروط روسيا لوقف الحرب
هذه الخاتمة المتحفظة المترددة نوعاً ما للكاتب روبنسون، كانت محل جدال واسع عبر التغطية الغربية الإعلامية المكثفة للعملية العسكرية الروسية، فبعض التحليلات ذهبت إلى أن بوتين وضع حساباته بذكاء وأن لديه بدائل اقتصادية تمكنه من تقليل أثر العقوبات الاقتصادية الغربية عليه، بل وأنه على المديين المتوسط والطويل سيتمكن من تحويل أثر العقوبات الاقتصادية على أوروبا والتى تعتمد بشكل كبير على الغاز والبترول الروسى! مرجحة بذلك أنه سيتحول إلى بوتين العظيم الذى قد يهزم الغرب ويعيد رسم الحدود بين شرق أوروبا وغربها كما كان الحال وقت الحرب الباردة!
فيما ذهبت تحليلات أخرى إلى أن هذه العملية الروسية المتهورة قد تقضى على بوتين وتزيد من سطوة الغرب ليس فقط على أوكرانيا، ولكن على روسيا نفسها، فقد تكون هذه الحرب هى أفغانستان أخرى بالنسبة لروسيا (الاتحاد السوفييتى)، فكما كان الغزو السوفييتى لأفغانستان هو بداية النهاية للاتحاد السوفييتى، فإن الغزو الروسى لأوكرانيا سيكون بداية النهاية لبوتين وربما لكل الطامحين فى استعادة المجد السوفييتى فى الشرق الأوروبى مجدداً!
***
الحقيقة لا يمكن اعتبار أن الغزو الروسى لأوكرانيا هو عمل مجنون تماما، فبوتين كانت له بعض الحسابات المنطقية، فمن ناحية لا يبدو ــ على الأقل فى هذه المرحلة ــ أن بوتين طامح لشن حرب كاملة على كل دول أوروبا الشرقية وأنه لن يذهب إلى أبعد من الحدود الأوكرانية فى الوقت الراهن، لأن عبور أوكرانيا يعنى التعدى على دول أعضاء فى حلف الناتو وهو ما يستوجب دخول أعضاء الناتو فى حرب ضد روسيا وهو ما يفطن إليه بوتين جيدا ويتجنبه. ومن ناحية أخرى، يدرك بوتين تماماً أن النظام الدولى العالمى عاطب، فمجلس الأمن لن يكون له أى تأثير ببساطة كون أن روسيا عضو دائم فيه وتستطيع وأد أى قرار ضدها بمجرد استخدام حق النقض (الفيتو)، وأن أقصى ما يمكن أن تفعله منظومة الأمم المتحدة العاجزة هو توجيه الإدانات والتوسلات، وهو الأمر الذى شاهدناه أكثر من مرة حينما أخذ سكرتير عام الأمم المتحدة السياسى والدبلوماسى البرتغالى أنطونيو جوتيريش يتسول عطف وإنسانية روسيا فى مشهد شديد الدلالة على حال الأمم المتحدة المهترئ! ومن ناحية ثالثة، يدرك بوتين أن فرض العقوبات الغربية عليه سيكون مؤلما لأوروبا كما هو مؤلم له، وأنه على المدى القصير لديه بدائل اقتصادية تمكنه من الصمود لبعض الوقت أمام هذه العقوبات!
الأقرب أن بوتين يعلم الحسابات الدولية جيدا، وبرغم تمتعه بالغرور إلا أن خبرته الطويلة فى الحكم ستمكنه من تحقيق أهدافه المباشرة، ففور إكماله لغزو أوكرانيا سيسعى إلى تغيير نظام الحكم فيها ثم سيجلس على مائدة المفاوضات للحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب الجيوسياسية
ولكن هنا يكون السؤال، الصمود إلى متى؟ والحقيقة أن هذا السؤال يرتبط بسؤال آخر، وهو ماذا يريد بوتين تحديدا من غزو أوكرانيا؟
الأقرب للمنطق وللواقع أن مسألة استعادة مجد الاتحاد السوفييتى حتى ولو كانت تدور فى رأس بوتين فإن وقتها ليس الآن، وأن غزو أوكرانيا يهدف لتحقيق مسألتين:
الأولى: خلق منطقة حماية عازلة بينه وبين أوروبا الغربية عن طريق منع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف الناتو، ومن المتوقع أن أى مفاوضات مستقبلا بخصوص أوكرانيا سيكون هذا هو أهم شروط روسيا لوقف الحرب! فبعد سقوط الاتحاد السوفييتى انضمت ١٤ دولة كانت تحت النفوذ السوفييتى سابقا إلى حلف الناتو، ومنها دول كانت تمثل أهمية استراتيجية كبرى للسوفييت وأهمها بولندا والمجر ورومانيا وبلغاريا والتشيك وسلوفاكيا وليتوانيا واستونيا ولاتفيا وهو ما أصبح يعنى أن روسيا الحالية أصبحت محاطة بحائط دفاعى صلد لدول الناتو ولم يتبق على الحدود الغربية لروسيا سوى أوكرانيا وروسيا البيضاء اللتين لم تصبحا عضوتين بعد فى الناتو! وبينما يسيطر بوتين على روسيا البيضاء فإن الشعب الأوكرانى والقيادة السياسية الأوكرانية كثيرا ما تمردت عليه ومن هنا كانت ضرورة تجنب سقوط أوكرانيا فى يد الغرب والناتو.
والثانية: هو تأديب الشعب الأوكرانى الذى أسقط مرتين (٢٠٠٤ و٢٠١٤) الساسة الأوكرانيين المدعومين من بوتين شخصيا بشكل أدركت معه القيادة الروسية أن لا سبيل لحماية حدودها الغربية سوى غزو أوكرانيا!
بعبارة أخرى، بمجرد أن يضمن بوتين تغيير النظام الحاكم فى أوكرانيا بنظام آخر تابع له وبالتالى إعطاء رسالة للغرب بالتوقف عن محاولة ضم أوكرانيا للناتو، فإنه سيوقف الحرب! وبالتالى فغزو روسيا فى التحليل الأخير هو محاولة لتغيير المعطيات على الأرض لفرض أمر واقع جديد يعطيه نقاط قوة حينما يحين موعد الجلوس على مائدة التفاوض مجددا، وهى مناورة تقليدية فى العلاقات الدولية وأغلب الظن أن بوتين سيتمكن من خلالها إلى تحقيق ما يريد!
***
ولكن وبكل تأكيد فإن الغزو الروسى لأوكرانيا لا يخلو من مخاطر، صحيح أنها بكل تأكيد محسوبة جيدا من قبل نظام بوتين، ولكن المخاطر فى العلاقات الدولية قد تخرج عن الحسابات وتتحول إلى كوارث على أصحابها! ومن هنا فقد تفلت الأمور من فلاديمير بوتين حال تعرض جيشه لهزيمة مفاجئة قد تكون سببا مباشرا أو غير مباشر فى الانقلاب عليه من قبل الجيش أو من قبل الشعب، أو بأن تؤدى العقوبات الغربية إلى إضعاف الاقتصاد الروسى بشكل أكبر من حسابات بوتين وخصوصا لو طالت الحرب فى أوكرانيا ولم تحقق أهدافها سريعا، أو لو تهور بوتين وقام بعبور الحدود الأوكرانية نحو بولندا وبالتالى وسط أوروبا ومن هنا فستكون نهايته وشيكة!
الأقرب أن بوتين يعلم الحسابات الدولية جيدا، وبرغم تمتعه بالغرور إلا أن خبرته الطويلة فى الحكم ستمكنه من تحقيق أهدافه المباشرة، ففور إكماله لغزو أوكرانيا سيسعى إلى تغيير نظام الحكم فيها ثم سيجلس على مائدة المفاوضات للحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب الجيوسياسية، صحيح أنه لن يقيم اتحادا سوفييتيا جديدا، ولكنه أيضا سيحصل على ما سعى إليه؛ تغيير نظام الحكم فى أوكرانيا ومنعها من الانضمام للناتو، وفى كل الأحوال، فإن غزو أوكرانيا قد لا ينتج تغيرات استراتيجية كبيرة على المدى القصير، ولكنه وبكل تأكيد سيكون نقطة تحول لاحقة فى النظام الدولى العالمى ولهذا حديث آخر!
(*) بالتزامن مع “الشروق“