حشد الجيش “الإسرائيلي” منذ شهر ونيف خمس فرق (نحو 80 ألف جندي) لما أسماها “المناورة البرية” في مرحلتها الأولى في جنوب لبنان، مدعومة بسلاحي الجو والبحر ومدافع الميدان، وهذا العدد يشير إلى أن النوايا “الإسرائيلية” لم تكن لتقتصر على توغل بري محدود بل إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، برغم أن المستوى العسكري “الإسرائيلي” بدا منقسماً منذ بداية هذه الحرب حول اعتماد أحد خياري الحرب التقليدية البرية الواسعة أولاً أو حرب الكر والفر المحدودة ثانياً، ليتبين مع الوقت أن الخيار الثاني بات الأكثر رجحاناً.
وقد شكّلت معركة الخيام والتلال والهضاب المحيطة بها منعطفاً عسكرياً في حسم الوجهة لمصلحة الخيار الثاني، ذلك أن محاولة الجيش “الإسرائيلي” التقدم نحو الخيام أو الالتفاف عليها من الجنوب والشرق والغرب باءت كلها بالفشل مع خسائر كبيرة في العديد والعتاد، من هنا انكفأ جنود العدو ليس فقط من محيط بلدة الخيام بل من قرى أخرى في القطاعات الشرقي والغربي والأوسط جنوب الخط الأزرق، بخاصة أن بقاءهم في المناطق التي دخلوها بات يُعرّضهم للكثير من الخسائر البشرية لا سيما بعد أن دمّروا ومسحوا العديد من القرى الحدودية الأمامية بالأرض ولم يعد لهم من مكان للاحتماء به من نيران المقاومة. ومع انتهاء هذه المرحلة ترك باب التساؤل مفتوحا عن طبيعة المرحلة الثانية وعمقها وأهدافها ووسائل خوضها. وقال بيان لغرفة العمليات في المقاومة إن الإنجاز الوحيد الذي حققه الجيش “الإسرائيلي” خلال ما يُطلق عليه مسمى “المناورة البريّة” هو فقط تدمير البيوت والبنى التحتيّة المدنيّة وتجريف الأراضي الزراعيّة في البلدات الحدوديّة.
ان سلوك الجيش “الإسرائيلي” فيما أسماها “المرحلة الأولى” أعطى إشارة واضحة حول طبيعة المرحلة الثانية، ففي الأولى مسح أكثر من أربعين قرية حدودية، وحوّلها إلى ركام، إلى درجة انه اضطر إلى سحب جنوده منها لعدم وجود ما يحتمون به من نيران المقاومة وصواريخها، كما أنه دمّر إلى حد كبير عدداً من القرى والبلدات والمزارع البقاعية، وشنّ ضربات طاولت ليس فقط الضاحية الجنوبية لبيروت، بل أيضاً العاصمة نفسها بأربع غارات ركزت على أماكن تواجد البيئة الحاضنة للمقاومة. وبذلك يُمكن الاستدلال أن بنك الأهداف يكاد ينضب لمصلحة خوض حرب استنزاف لا أحد يستطيع التنبؤ بمداها الزمني وعمقها وأهدافها ونتائجها.
في حال نالت “إسرائيل” الضوء الأخضر من الرئيس الأمريكي المنتخب لمواصلة عدوانها، من المرجح أن يحاول الجيش “الإسرائيلي” تطوير عدوانه عبر عمليات إنزال جوي لتقطيع أوصال البلاد وفصل البقاع عن الجنوب وخلق جيب له على الحدود اللبنانية السورية، وأمام هذا السيناريو مخاطر عديدة لأن هذه المنطقة تختزن الكثير من قدرات المقاومة النارية والبشرية
وهنا يمكن قراءة المرحلة الثانية على أنها مرحلة الاستمرار في قنص من يمكن قنصه من قادة وكوادر المقاومة عبر الغارات الجوية والمسيرات، أو حتى عبر انزالات جوية لخطف وإغتيال مقاومين على طريقة “عملية البترون” (إختطاف عماد أمهز). بالإضافة إلى مواصلة الضغط بالغارات والمُسيّرات على المدن والقرى التي تندرج في خانة “البيئة الحاضنة” من أقصى الشمال الشرقي للبنان إلى البقاع الغربي مروراً ببيروت، وذلك إمعاناً في سياسة التدمير لكل معالم الحياة في هذه المناطق وتهجير سكانها، ليتسبب بذلك بخلق أزمة خانقة في باقي المناطق اللبنانية تقود بحسب تقديراته الى تهديد السلم الأهلي.
ووفق بيان غرفة عمليات المقاومة، فإنها تواصل “توجيه ضربات مُركّزة ومدروسة للمراكز والمنشآت والقواعد “الإسرائيلية”، الاستراتيجيّة والأمنيّة، بعمق وصل إلى 145 كلم داخل فلسطين المُحتلة، باستعمال الصواريخ والمسيّرات النوعيّة، وهذه الإستهدافات المُحددة والدقيقة والمدروسة (56 عملية بينها 18 في الأسبوع الماضي وحده) تتم وفق برنامج واضح وإدارة وسيطرة تامة على مجريات الأمور الميدانية (…).. وعدا عن تحقيق العمليّات أهدافها العسكريّة، فإن أكثر من 2 مليون مُستوطن على مساحة أكثر من 5,000 كلم2، وبعمق وصل إلى 145 كلم داخل فلسطين المُحتلة، أُجبروا على الدخول إلى الملاجئ وإيقاف الدراسة والأعمال وحركة الملاحة الجويّة بشكل مُتكرر مع كل عمليّة تم تنفيذها”.
وكان اللافت للانتباه في بيانات المقاومة هذا الأسبوع وفي سياق العملية نفسها، توسيع الأهداف ومنها عملية “ستيلا ماريس”، القاعدة البحرية التي تم استهدافها للمرة الأولى في شمال غرب حيفا بـ”صواريخ نوعية” وبسرب من المسيرات الإنقضاضية، فضلاً عن استهداف قاعدة بيلو التابع للفرقة 98 جنوب تل أبيب للمرة الأولى بالمسيرات الإنقضاضية وقاعدة حيفا البحرية (انطلقت منها المجموعة التي نفذت عملية البترون) للمرة الأولى أيضاً.
وهذه العمليات تُشير إلى أن المقاومة ما تزال ملتزمة بسقف عدم تجاوز تل أبيب حتى الآن وعدم إصابة المدنيين من المستوطنين، علما أنها أعادت تذكير المُستوطنين الذين تم إنذارهم بضرورة إخلاء مُستوطناتهم (25 مستوطنة شمالية) بوجوب “عدم العودة إليها كونها تحولت إلى أهداف عسكرية نظراً لاحتوائها على مقرّات قياديّة، وثكنات ومصانع عسكريّة، ومرابض مدفعيّة وقواعد صاروخيّة، ومحطات للخدمات اللوجستيّة والأركانيّة للقوّات التي تعتدي على الأراضي اللبنانيّة”.
وماذا عن حركة الميدان ربطأً بنتائج الإنتخابات الأميركية وفوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب على منافسته الديموقراطية كامالا هاريس؟
في حال نالت “إسرائيل” الضوء الأخضر من الرئيس الأمريكي المنتخب لمواصلة عدوانها، من المرجح أن يحاول الجيش “الإسرائيلي” تطوير عدوانه عبر عمليات إنزال جوي لتقطيع أوصال البلاد وفصل البقاع عن الجنوب وخلق جيب له على الحدود اللبنانية السورية، وأمام هذا السيناريو مخاطر عديدة لأن هذه المنطقة تختزن الكثير من قدرات المقاومة النارية والبشرية، ناهيك عن تعذر وصول الامدادات للجيش “الإسرائيلي” وبالتالي قد يتحول تواجده في هذه المناطق إلى كارثة له على المستويين التكتيكي والاستراتيجي.
أما في حال لم تنل “إسرائيل” الضوء الأخضر من الرئيس الأمريكي المنتخب فإن الخطة “ب“ التي سيعمل جيشها على تنفيذها هو أن يواصل غاراته الجوية التدميرية على القرى والمدن الحاضنة لجمهور المقاومة ليس فقط في الجنوب والبقاع للتسبب بالمزيد من التهجير ولرفع كلفة إعادة الاعمار واستخدام عملية إعادة البناء ورقة تفاوضية يكون من الشروط فيها ما تُسمى “العودة الامنة” لمستوطني الشمال، وتقضي بمنع أي تواجد للمقاومة جنوب نهر الليطاني وإعطاء صلاحيات واسعة لقوات الطوارئ الدولية العاملة في لبنان (اليونيفيل) لمطاردة المقاومة في تلك المنطقة بمؤازرة الجيش اللبناني الذي يفترض وفقا للشروط “الإسرائيلية” أن يرسل أكثر من عشرة آلاف جندي إلى تلك المنطقة ويكون لـ”إسرائيل” اليد الطولى في تسمية الألوية التي سيُرسلها الجيش والضباط الذين سيتولون قيادة هذه الألوية، كما تعني وفق الشروط “الإسرائيلية” إشراف قوات “اليونيفيل” على المعابر البرية على طول الحدود اللبنانية السورية وعلى مطار بيروت ومرفأها وإبقاء الحرية لسلاح الجو “الإسرائيلي” في الطيران فوق الأجواء اللبنانية والتدخل في حال الشك بوجود أي “تهديد أمني” لـ”إسرائيل”.
بين هذين الاحتمالين، تبقى ثلاثة أمور أساسية تُحدّد القدرة على تنفيذ أي منهما، أو قلب المشهد رأساً على عقب؛ الأول، هو مدى قدرة المقاومة على الصمود في مواجهة العدوان وايلامه في أي من الاحتمالين، وهي اثبتت في المواجهات التي حصلت في الشهر المنصرم أن قدراتها في وضع ممتاز وأثبتت نجاحها في تخفيض الطموحات الميدانية للجيش “الإسرائيلي” إلى أدنى سقف لها. الثاني هو الضربة الإيرانية المتوقعة رداً على الهجوم الصاروخي “الإسرائيلي” الأخير على إيران، ففي ضوء حجم هذه الضربة والأهداف التي ستطالها والخسائر التي ستتسبب بها تتحدد الكثير من الخيارات في جبهتي القتال في غزة ولبنان. الأمر الثالث يتصل بالاستراتيجية التي سيتبعها الرئيس الأمريكي المنتخب ليس فقط حيال العدوان “الإسرائيلي” في لبنان وفلسطين المحتلة، بل أيضا في كل من أوكرانيا وتايوان، فإما ان ينحو باتجاه التوصل إلى تسويات وإما إلى مزيد من التصعيد على كل الجبهات بما يفتح الباب واسعاً أمام تدحرج يضعنا على عتبة حرب عالمية ثالثة.