ثقة “الامبراطورية” مُضلَلة، سواء عبر قرارات نابعة من وزارات رسمية، أو مؤسسات أكاديمية، اتحادات رياضية دولية أو منابر إعلامية ومواقع إلكترونية. أخبار وتصريحات يومية عن محو الثقافة الروسية عن وجه الكرة الأرضية. كيف؟ بقرارات تبلغ حد الكوميديا الباهتة التي تثير ابتسامات الاستخفاف بدلا من القهقهات المستحقة. عن نقل مكان إقامة نهائي بطولة دوري أبطال أوروبا لكرة القدم من سان بطرسبرج إلى باريس؛ إلغاء بطولة فورميولا 1 لسباق السيارات في روسيا؛ منع المطربين الروس من الاشتراك في مسابقة الغناء الأوروبية Eurovision 2022.
شملت الإجراءات وقف عرض باليه البولشوي وبحيرة البجع في دور الأوبرا والمسرح في إنجلترا وإيرلندا؛ إقالة المايسترو الروسي فاليري جيرجييف من رئاسته الشرفية لمهرجان إدنبرة الدولي وتعرضه لهتافات استهجان من الجمهور الإيطالي وتلقيه تحذيراً ألمانياً بالطرد إذا لم يُعلن إدانته لأفعال فلاديمير بوتين، وتحذيرات بإلغاء عروضه في كل من هولندا، سويسرا والولايات المتحدة.
كما مُنعت الأفلام الروسية من المشاركة بأي مهرجانات دولية، وأعلنت شركات إنتاج عالمية مثل وارنر بروس، سوني وديزني عن حظر عرض أفلامها في دور السينما الروسية، ما يحرم المشاهد الروسي من الجزء الجديد من سلسلة باتمان.. ويا للأسى!
وتعكس اللغة التي استخدمتها أكاديمية الأفلام الأوكرانية في سياق دعوتها إلى مقاطعة السينما الروسية هذا الأمر الذي يتخطى حزمة عقوبات اقتصادية، استثمارية، مالية وتجارية موجهة ضد دولة لم يعجب تصرفها الأخير من يجلس على رأس النظام العالمي، أي الإمبراطورية ما غيرها.
بعض التواضع لن يضير أمريكا، وحين يحضر هذا التواضع، ربما لن تخرج روسيا ولا غيرها عن حدودها الدولية، لأن أمريكا تكون قد عرفت حدودها هي الأخرى. ما عدا ذلك، لتستمتع أمريكا بثقافة الإلغاء ولتسمح لجماعة ضغط “غير أمريكية”، بأن تعمل لصالح دولة أخرى تريد خدمة نفسها “ديموغرافياً” على حساب مآسي الآخرين
ما أحاول أن ألفت النظر إليه ليس أن تُفرض عقوبات كانت متوقعة ضد بوتين وحلقة المقربين منه، بل “سعار الإلغاء” الذي بلغ أبعد المديات.
يشتكي الكثير من الأمريكيين مما اصطلح على تسميته “ثقافة الإلغاء/ Cancel Culture”، وهو المصطلح المقتبس من الثقافة الشعبية الأمريكية بانعكاسات سياسية.
ثقافة الإلغاء المحلية، في عالم السياسة الداخلية والثقافة الشعبية الأمريكية، أصبحت ومنذ زمن بعيد جزءاً من العقلية الأمريكية. الجديد في الأمر فقط هو أنه قد تم وضع مصطلح تسمى به في السنوات الأخيرة. هذه الثقافة الإقصائية في الحقيقة تحوّلت منذ زمن بعيد إلى سلاح أمريكي دولي بامتياز، في صورة سياسات خارجية تدعو إلى النفي والإبعاد والألغاء، في مشاهد تستدعي مقتطفات من تاريخ الأوستراكية اليونانية Ostracism.
هناك من المبادئ الدستورية التي فرضتها الولايات المتحدة على نفسها منذ نشأتها على أيدي الآباء المؤسسين، يحافظ عليها مواطنون يدافعون عن الحرية والليبرالية بدرجات متفاوتة ومتضاربة، ما يمنح الجميع حق حرية التعبير. هذه الحرية سمحت لقناة “روسيا اليوم” في تأسيس فرع لها داخل أمريكا، يعمل فيه عدد من الصحافيين الأمريكيين ليُعبَر من خلال هذه الشاشة عن وجهة النظر الروسية في ما يجري في أمريكا والعالم.
الشاهد أنه تم الضغط على قناة “روسيا اليوم أمريكا/ RT America”، حتى أوقفت نشاطها الإعلامي على الأراضي الأمريكية. ساهم “حلفاء الإلغاء” في أوروبا بالترويج للقرار الأمريكي بقرارات من قبل شركاتهم الكبرى في مجال الاتصالات، التكنولوجيا والإعلام في حجب القناة الروسية وكل توابع شبكتها الإعلامية، بدعوى حظر الشاشات التي “تنشر الأكاذيب” وتبرر قرار الحرب ضد أوكرانيا، ما أدى بالقناة لإعلان تسريح عدد كبير من موظفيها في أمريكا وأوروبا.
برزت أصوات معترضة أبرزها للصحفية والناشطة الأمريكية آبي مارتن، التي قدمت برامج مثل Breaking the Set وThe Empire Files على شاشة “روسيا اليوم أمريكا/ RT America”، حين قالت في مقابلة مع القناة المستقلة The Real News في آذار/ مارس 2022:
“بالنسبة لي، أنا مفكرة نقدية، وكشخص يهتم بالفعل بما تقوم به حكومتنا بالخارج، أشعر بالحاجة إلى التعرض لنطاق أوسع من الرؤى يمكنني أن استعرضها أنا لحالي. ولا أريد هذا التأثير الطفولي للرقابة الفكرية. لا أريد لواقعي أن يتم انتقاءه على أيدي شركات تكنولوجية عملاقة. أريد أن أكون قادرة على الانتقاء والاختيار للوصول إلى الحقيقة. أن أحدد أنا ما هو واقعي بناء على الحقائق المتاحة. لهذا السببـ يُعدُ إجراء الإقفال خطوة متطرفةً”.
الموجة اليمينية الأمريكية المستدعية للشعبوية، لم تكن طارئة ولا هي استثنائية. والهجوم على الكابيتول هيل لم يكن بالأمر المفاجئ البتة، فهذا نتاج طبيعي لثقافة إلغاء أي فكر سياسي مخالف. هو النتيجة الطبيعية لتقديم مصلحة “الحزب” على مصلحة “الشعب”، وثمرة إلغاء تأثير صوت المواطن أمام تأثير أموال المتبرعين وأصحاب المصالح الكبرى (سلاح ونفط وتكنولوجيا إلخ..). كل ذلك يتم في إطار فقاعة من الأوهام أدخلت أمريكا نفسها وشعبها فيها منذ عقود من الزمن.
وعلى سيرة هجوم المتظاهرين على الكابيتول هيل، فإن بوتين وفي أثناء مؤتمر جنيف في حزيران/ يونيو 2021، قالت له صحافية أمريكية “مم تخاف، فكل معارضيك إما محتجزين، مسمومين أو مقتولين”، فكان رده عليها أن هؤلاء المتظاهرين السياسيين بأمريكا، الذين اعترضوا على نتيجة انتخابات رئاسية، فاقتحموا مبنى البرلمان بعد إعلان نتائجها، “كم واحد منهم حُكِمَ عليه بالسجن”؟
عودة إلى ثقافة الإلغاء، التي يمكن أن يكون لها جانب إيجابي إذا وجهت إلى من يستحقونها أو حتى لمن يسهل تطبيقها عليهم.. وإليكم نموذج كاشف لثقافة الإلغاء حين تتبدى كسلاح ذو حدين.
منذ اقتطاع روسيا شبه جزيرة القرم من أوكرانيا وضمها للاتحاد الروسي في 2014، كانت الولايات المتحدة ترسل منذ 2015 مساعدات عسكرية وأسلحة إلى أوكرانيا. وقد طلب بعض أعضاء مجلس النواب مراراً طوال ثلاث سنوات إضافة تعديل على هذا القانون يقضي بحجب هذه المساعدات عن أيدي الفاشيين والميليشيات الأوكرانية التي تضم نازيين جدد بين صفوفها، وذكرت في هذا السياق كتيبة آزوف بالإسم.
ولكن طوال 3 سنوات، لم يتم تمرير هذا التعديل على القانون، حتى تم تطبيقه في العام 2018.
النقطة الهامة هنا، أنه من أهم الأصوات التي كانت تمثل جماعة الضغط السياسي المضادة لمنع وصول الأسلحة إلى النازيين الجدد خلال هذه السنوات الثلاث هي.. تحضروا للمفاجأة: رابطة مكافحة التشهير Anti-Defamation League. نعم، هذه المنظمة اليهودية غير الحكومية التي تتخذ الولايات المتحدة مقراً لها لمحاربة معاداة السامية!
لماذا تعارض جماعة ضغط يهودية، تمرير تعديل على قانون بالكونجرس، يمنع وصول أسلحة لأيدي ميليشيات بإيديولوجيا نازية، داخل أوكرانيا، وهي مسرح تاريخي لمعاداة السامية، كما هي مهد الحركة الحسيدية اليهودية؟
وسأدع الصحافية الكندية الإسرائيلية من أصل أوكراني ليا تاراشانسكي (يهودية متدينة) تجيب على هذا التساؤل:
“يمكن القول أنه بطريقة ما، هزيمة هذا القانون تسمح بالتمرير المستمر للأسلحة الأمريكية لبعض هذه الميليشيات – المتطرفة اليمينية – التي تتسبب في هروب يهود أوكرانيا (ومنهم تاراشانسكي)، متجهين صوب إسرائيل”. هروب أو هجرة قال عنها رئيس وزراء اسرائيل السابق بنيامين نتنياهو الآتي:
“الهجرة القادمة من دول الاتحاد السوفييتي السابق كانت إحدى أعظم المعجزات التي حدثت للدولة (العبرية)، نتيجة للدفعة الديموغرافية التي سببتها ولمساهمة هؤلاء المهاجرين باقتصاد الدولة وصناعتها التكنولوجية”.
فلنمارس الإلغاء ضد مؤيدي مشروع قانون يمنع تسليح نازيين، ولنبادر إلى نفي البعض من يهود أوكرانيا قسرياً أو اختيارياً، حتى يجدوا لافتة ترحاب بإنتظارهم بيد من يستخدم الإلغاء ذي الحدين. هل وصلتكم الفكرة الآن؟
الجدير بالذكر هنا، أنه قد انتشر فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي مؤخراً، يظهر اشتباكات أدت إلى إصابات دموية، ما بين يهود روس ويهود أوكرانيين في تل أبيب إثر العمليات العسكرية الروسية الأخيرة في مشهد نشر بعض الذعر والقلق لدى الرأي العام الإسرائيلي. يبدو أن الإلغاء المزدوج “له أنياب”.
بعض التواضع لن يضير أمريكا، وحين يحضر هذا التواضع، ربما لن تخرج روسيا ولا غيرها عن حدودها الدولية، لأن أمريكا تكون قد عرفت حدودها هي الأخرى. ما عدا ذلك، لتستمتع أمريكا بثقافة الإلغاء ولتسمح لجماعة ضغط “غير أمريكية”، بأن تعمل لصالح دولة أخرى تريد خدمة نفسها “ديموغرافياً” على حساب مآسي الآخرين (الجوييم بالأحرى!).
المؤسف أن أمريكا لم تستفق من ثقافة الإلغاء الخائبة التي تمارسها بحق كل من يقف في طريقها، متوهمةً أنه لن يصيبها نصيب منها، ولو بمحاولات الـ De-Dollarization (الروسية-الصينية) التي يبدو أنها ستستفيد بدفعة قوية للأمام بعد مرحلة العقوبات المسعورة ضد روسيا. ولتكتم شكواها إذن عندما يتزايد ذات الإلغاء العالمي التدريجي ضدها ولو بالتصوير البطيء. فالعالم ليس كله غربي/شمالي.
تحياتي الجنوبية/الشرقية.