“المغامرة” السورية.. حبل نجاة لأردوغان!

يتصرف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وكأن سوريا هي حبل النجاة له. الإنفتاح على دمشق وليد مصلحة أكثر منه نتيجة ضغوط روسية، أو مناورة يراد منها إرغام الولايات المتحدة على تغيير سياستها حيال أكراد سوريا. 

في خلفية قرار أردوغان يقبع إقتناع متزايد بأن الوضع الإقتصادي الذي أتى بحزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، يمكن أن يكتب نهاية ما ينوف على عشرين عاماً أو يزيد، من وجود هذا الحزب على رأس السلطة.. والمؤشرات الإقتصادية لا تصب في مصلحة أردوغان في ظل تدهور متواصل لليرة التركية في مقابل الدولار وإرتفاع مستمر للتضخم، بينما يعاند الرئيس التركي ويرفض رفع معدل الفائدة على غرار ما تفعل كل الدول عندما تمر بظروف مشابهة. وهو لا يزال يطلب من الأتراك قليلاً من الصبر، حتى تأتي الإجراءات الإقتصادية التي يتخذها أكلها.

بيد أن الوقت هذه المرة ضاغط أكثر من أي مرة أخرى. طبعاً ليس الإقتصاد وحده ما يؤرق أردوغان. هناك التنسيق الذي بدأ فعلاً بين ستة أحزاب معارضة رئيسية لوضع خريطة طريق تقضي بتوحيد قواها لدعم مرشح واحد في مواجهة أردوغان في إنتخابات الثامن عشر من حزيران/ يونيو المقبل. وكشف إستطلاع أجرته مؤسسة “متروبول” للأبحاث الشهر الماضي، أن أردوغان سيخسر الإنتخابات إذا جمعته مع أحد أربعة من أبرز مرشحي المعارضة المحتملين وهم: رئيس بلدية إسطنبول إمام أكرم أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشيدار، رئيسة حزب “أيي” (الجيد) ميرال أكشنار ورئيس بلدية أنقرة منصور يافاش.

أن يغامر أردوغان في هذا التوقيت بإضافة بند إلى لائحة طويلة من التوترات مع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، تعني أن الرجل قد رأى أن الطريق لبقائه على قيد الحياة سياسياً، تمر بدمشق. ولم تتأخر واشنطن في القول علناً إنها “لا تدعم” التطبيع مع سوريا من أي جهة أتت. ولوحت بأن “قانون قيصر” المطبق على سوريا، ستنال مفاعيله الدول التي تتعامل مع دمشق

وبات الملف السوري ولا سيما قضية اللاجئين، ورقة رابحة في يد المعارضة التركية التي تعيد أسباب المتاعب الإقتصادية التي تعانيها تركيا، إلى سياسة العداء التي إنتهجها أردوغان حيال دمشق، ولدعمه الحل العسكري طوال سنوات، بينما تميزت سنوات الإزدهار التي عرفها الأتراك بالعلاقات الدافئة، سياسياً وإقتصادياً، بين أنقرة ودمشق.

المعارضة التركية تقول إن هذه السياسة هي التي تسببت بتدفق نحو أربعة ملايين لاجيء سوري إلى تركيا، فضلاً عن أن الفوضى التي وقعت فيها سوريا نتيجة الحرب هي التي جعلت “وحدات حماية الشعب” الكردية تبرز كـ”كيان” على الجهة المقابلة للحدود الجنوبية لتركيا. وعندما يتحدث أردوغان عن الإنفتاح على سوريا، فإن ملفي اللاجئين والنفوذ الكردي في شمال شرق سوريا، هما على رأس أولوياته. ومن دون معالجة هذين الملفين، فإن الطريق إلى ولاية رئاسية ثالثة ستكون وعرة للغاية.

التحول الذي بدأ يطرأ على سياسة أردوغان منذ الصيف الماضي حيال سوريا، على عكس الإعتقاد الشائع، لم يكن في سياق الإستجابة لضغوط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. هذه الضغوط كانت موجودة منذ سنوات، وبوتين كان قبل حرب أوكرانيا في موقع أقوى في سوريا مما هو عليه الآن، ومع ذلك فإن أقصى ما حصل عليه من أردوغان كان تفاهمات “خفض التصعيد” في إطار “منصة أستانا” الثلاثية التي جمعت إيران أيضاً. ثم كانت تفاهمات سوتشي في 2019 التي بقيت حبراً على ورق، ولم يلتزم الجانب التركي بكبح جماح “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) التي تسيطر على أكثر من نصف مساحة محافظة إدلب ولها مواقع في أرياف حلب وحماه واللاذقية، وتالياً بقي الطريق السريع الإستراتيجي “M4” الذي يصل حلب باللاذقية وجنوب سوريا، مقفلاً. وتوجد في إدلب إلى جانب “هيئة تحرير الشام” تنظيمات جهادية أخرى مثل “حُرّاس الدين” المبايع لتنظيم “القاعدة” والحزب الإسلامي التركستاني.

طبعاً، يستخدم أردوغان روسيا اليوم بوابة عبور إلى دمشق. وربما ليقين تولد لديه بأن عملية الإنفتاح التي بدأها قبل سنوات على الدول الإقليمية من الخليج إلى مصر وإسرائيل لن تكتمل من دون إنهاء حالة العداء مع سوريا. هذا الإنفتاح الأردوغاني رافقه تخلٍ من قبل أنقرة عن دعم المشروع “الإخواني” في المنطقة والذي كان سبباً في عام 2011 في تدهور العلاقات مع سوريا ومن ثم مع مصر عام 2013 ومع معظم دول الخليج العربية. التنازل الكبير الذي قدمته تركيا في مسيرة الإنفتاح والمصالحة مع الإقليم كان التخلي عن دعم الإسلام السياسي في المنطقة العربية، كما جرى في ما سمي بـ”الربيع العربي” الذي سرعان ما تحول حروباً أهلية، أكثر منه باعثاً على الإصلاح والتغيير والإنتقال إلى الحكم الديموقراطي.

فجأة تذكر أردوغان أن “لا عداوة دائمة في السياسة”، رداً على سؤال عن أسباب الإنفتاح على سوريا. كان يمكن أن يحصل هذا التطور قبل سنوات، لماذا الآن؟

إقرأ على موقع 180  بكين ولعبة "الروليت" الروسية

أن يغامر أردوغان في هذا التوقيت بإضافة بند إلى لائحة طويلة من التوترات مع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، تعني أن الرجل قد رأى أن الطريق لبقائه على قيد الحياة سياسياً، تمر بدمشق. ولم تتأخر واشنطن في القول علناً إنها “لا تدعم” التطبيع مع سوريا من أي جهة أتت. ولوحت بأن “قانون قيصر” المطبق على سوريا، ستنال مفاعيله الدول التي تتعامل مع دمشق. والضغوط الأميركية كما بات معروفاً هي التي حالت في اللحظة الأخيرة، دون دعوة سوريا إلى القمة العربية في الجزائر في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر الماضي.

لكن للتهويل الأميركي على تركيا حدوداً. ذلك أنه لا يمكن لواشنطن أن تعرض علاقتها الإستراتيجية مع تركيا للخطر، في وقت تخوض فيه مواجهة واسعة مع روسيا. وأنقرة هي مُزوّد رئيسي لكييف بالطائرات المُسيّرة التي لعبت دوراً حاسماً في تقرير نتائج القتال على الأرض لمصلحة الجيش الأوكراني، كما أن تركيا تقيم علاقات تجارية وطيدة مع أوكرانيا. وكلما تحدث أردوغان مع بوتين يتصل في اليوم التالي بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. وقد لعب الرئيس التركي دوراً محورياً في التوصل إلى إتفاق الحبوب في آب/أغسطس الماضي، كما أنه طبّق معاهدة مونترو بالنسبة إلى عدم السماح بمرور السفن الحربية الروسية عبر مضائق الدردنيل إلى البحر الأسود، كما منع الطائرات العسكرية الروسية من عبور الأجواء التركية في طريقها من وإلى سوريا. أي أن أردغان يسعى إلى الإضطلاع بدور متوازن في النزاع الأوكراني، ولا يزال يطمح في إستضافة مفاوضات سلام بين موسكو وأوكرانيا، على غرار ما فعل في الأشهر الأولى للحرب.

أضف إلى ذلك، لن تذهب أميركا بعيداً في الضغط على أردوغان كي يوقف خطوات التطبيع مع سوريا، لأن البرلمان التركي لم يصادق بعد على إنضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي. وعملية الإنضمام ينظر إليها بايدن كنصر جيوسياسي كبير في مواجهة روسيا ولا يريد إفساد هذه العملية التي تتوقف الآن على البرلمان التركي.

فضلاً عن ذلك، ليس في إستطاعة واشنطن تقديم الثمن السياسي الكبير الذي يطالب به أردوغان، من أجل عدم الإنفتاح على دمشق. وهذا الثمن يتضمن ضوءاً أخضر أميركياً لعملية عسكرية تركية واسعة ضد “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) التي يشكل الأكراد ركيزتها الأساسية في شمال شرق سوريا.

لن تذهب أميركا بعيداً في الضغط على أردوغان كي يوقف خطوات التطبيع مع سوريا، لأن البرلمان التركي لم يصادق بعد على إنضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي. وعملية الإنضمام ينظر إليها بايدن كنصر جيوسياسي كبير في مواجهة روسيا

وعلى العكس، فإن الإنفتاح على سوريا يوفر لأنقرة ضمانة بأن لا يحصل الأكراد على حكم ذاتي في أي تسوية نهائية للنزاع السوري. تبقى مشكلة أردوغان الآن مع المعارضة السورية، التي برزت من داخلها أصوات تنتقد علناً التطبيع مع دمشق، بعدما إتضح لقادتها عقب الإجتماع الثلاثي بين وزراء الدفاع الروسي سيرغي شويغو والتركي خلوصي أكار والسوري علي محمود عباس في موسكو في 28 كانون الأول/ديسمبر، أن تركيا جدية في تغيير سياستها التي إتبعتها منذ أكثر من عقد حيال سوريا.

وأكثر من التوتر مع أميركا، فإن المعضلة الأكبر التي ستواجه تركيا هي كيفية التعامل مع “إمارة” تنظيم “هيئة تحرير الشام” بزعامة محمد الجولاني، الذي لم يخف معارضته القوية لخطوات أنقرة. وتشهد مدن وبلدات في محافظة إدلب وريف حلب تظاهرات تطالب تركيا بعدم المضي في المصالحة مع دمشق.

وكما أثّرت الحرب السورية سلباً على إقتصادات لبنان والأردن والعراق وتركيا، فإن التطبيع التركي-السوري إذا ما بلغ النهايات السعيدة، قد يعيد رسم المشهد الجيوسياسي في المنطقة برمته.

إن ترميم العلاقات التركية-السورية، قد تجد فيه بعض الدول العربية، عاملاً إيجابياً من شأنه الحد من النفوذ الإيراني الذي إزداد عقب الحرب الأوكرانية، بفعل الإنشغال الروسي وحاجة موسكو إلى المسيرات الإيرانية في الحرب.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  هل قلتُ "حسناً فعلت أمريكا"؟