غرزة غرزة طرّز الأهالي أسماء مفقوديهم. غرزوا الإبرة في مربعات صغيرة ثم خيّطوها لتملأ جداراً في “بيت بيروت” الشاهد على حرب أهلية لمّا تنتهي بعد. جدارية تشبه تلك التي خطّها الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش بحبر قلمه قائلاً:
“وكأنني قد متٌ قبل الآن، أعرف هذه الرؤيا، وأعرف أنني أمضي إلى ما لسْت أعرف. ربّما ما زلت حيّاً في مكان ما، وأعرف ما أريد”.
لا هم أحياء ولا هم موتى، ولكن الحياة تمضي كما لا يريدون ولا نريد.
لم تنتهِ الحرب، ولم يعودوا.. شاعر آخر يهذي.
“أساميهُن شو تعبوا أهاليهُن تـ لااقوها وشو افتكروا فيهُن”.
أراد الأهالي الذين تسنّتْ لهم المشاركة في إنجاز جدارية بأسماء مفقوديهم “أن يبرهنوا أنهم مع حبّهم لهم، فإنهم يحبّون الجمال ويساهمون في خَلْقِه”، تقول وداد حلواني رئيس لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين.
“لقد اختاروا كتابةَ أسماء أحبتهم حتى تبقى محفورة و”ما تنمحى” من ذاكرات الناس. كل الناس. أرادوا التذكيرَ بأن أحباءَهم ليسوا كتلةً واحدة لها اسمٌ واحدٌ تُكنّى به “المفقودين”، بل هم بشر من لحمٍ ودم مثل كل الناس.. لكل مفقودٍ اسمٌ، وشخصيةٌ، وحلمٌ وعائلةٌ تنتظر”.
للدلالة على مكانة المفقودين، تقول وداد، “طرّزوا أسماء أحبتهم بخيطانٍ من ذهب نظراً لرمزية هذا المعدن الثمين.. وللتأكيد على حقِّهم بمعرفةِ مصيرِ مفقوديهم، ملأوا اسم المفقود بالخيط الذهبي، أما اسم العائلة فقد اكتفوا بتطريز أطرافه للدلالة على فراغٍ يُفترَض ملؤهُ كي يكتمل”.
العمل لم يكن سهلاً، تطلّبَ كثيراً من الجهدِ والوقتِ وورشِ التدريب. “بحب خبّر إنّو خلال الشغل على مربّع القماش حضر مفقود كل حدا منّا مع كل شكّة إبرة وبرمة خيط”.. كأنه لم يغب”، تنتهي سردية وداد حلواني.
كأنّ الأهالي أرادوا بهذا العمل، إضافة إلى إدخال مفقوديهم إلى الذاكرة اللبنانية، أرادوا إعادة الحياة إلى الذين خرجوا ولم يعودوا.
لكن، لا بدّ أن يعودوا.
***
لم تنتهِ الحرب وما زلنا نرى طوابير الناس أمام الأفران ومحطات الوقود. لا كهرباء ولا دواء ولا ماء.. والناس ما زالوا يموتون لكن ليس بالرصاص والقنابل بل بالقهر والإذلال والفساد وسوء الإدارة وبؤس السياسة.
وداد حلواني: “طرّزوا أسماء أحبتهم بخيطانٍ من ذهب نظراً لرمزية هذا المعدن الثمين.. وللتأكيد على حقِّهم بمعرفةِ مصيرِ مفقوديهم، ملأوا اسم المفقود بالخيط الذهبي، أما اسم العائلة فقد اكتفوا بتطريز أطرافه للدلالة على فراغٍ يُفترَض ملؤهُ كي يكتمل”
أتشارك مع وداد حلواني في رفض وصفها بـ”الأيقونة” عند الحديث عنها كمناضلة كرّست حياتها لقضية الكشف عن مصير مفقودي الحرب الأهلية، كما أتفق مع نظرتها إلى الأمر من زاوية أننا بحاجة إلى تخليد القضية وليس تمجيد الشخص. أتشارك معها أيضاً في الكثير من الأفكار السياسية ورفض الأسطرة وعبارات الجلالة والتفخيم، ذلك ان الواقع بسورياليته يفوق الخيال بأشواط.
من قال إن وداد حلواني تُريد أن تستمتع بهذا الدور الذي زُجت به قسراً حين جاءها زوار الظلام وإختطفوا عدنان وانتزعوا وجود الزوج والأب والحبيب الدافىء من حياتها وحياة أسرتهما وزجوا به في أقبية ظلام الإختفاء منذ أربعة عقود من الزمن.
لو كان لوداد أن تختار، حتماً كانت تفضل، كالكثيرات من أقرانها، تمضية تقاعدها وعدنانها في تفريغ طاقاتها في هواية الرسم وتطوير مهاراتها في شغل الصنارة او كتابة الرواية وربما العناية بأحفادهما او السفر من بلد إلى بلد.
طوال سبعة وأربعين عاما من عمر حربنا الأهلية (المستمرة بأشكال جديدة)، كان لسان حال الأهالي “نريد قبراً حتى نزوره ونريد شاهداً حتى نبكي أحبتنا. نريد ان نرتل أو أن نقيم مجالس عزاء. نريد حِداداً يليق بمن رحلوا. نريد كشفا للمصير.. إذا كان ثمة من نجا من آلة القتل”.
كم أن أحلام هؤلاء بسيطة ومتواضعة وقاتمة وحزينة ومظلمة.. ومستحيلة في آن معاً.
عقود ولم تتعب وداد. وداد حلواني المناضلة الدؤوبة التي لولاها ولولا صلابتها لما كان لهذه القضية أن تتشكل وأن تتدحرج وتكبر في مواجهة أمراء حرب تناوبوا على الخطف ثم على سلطات متعاقبة إستوعبتها الميليشيات بينما كان يجب أن يحصل العكس. وبرغم ذلك، أثمرت جهود الأهالي في العام ٢٠١٨ استصدار القانون ١٠٥ وتشكيل الهيئة الوطنية التي استقال أربعة من أعضائها منذ حوالي السنة ولم تبادر الحكومة حتى الآن إلى تعيين بدلاء لهم.
قبل ذلك، انتزعت وداد حلواني واللجنة حق المعرفة والإطلاع على ملفات التحقيق لدى السلطات واللجان الرسمية التي تشكلت لهذه الغاية.
الأهم أن وداد، وبرغم الإنقسامات والحروب الأهلية، نجحت في حماية لجنة الأهالي من لوثة الطائفية والمذهبية وهذا يُسجل في رصيد الإنجازات المحققة ويجب أن تُرفع له القبعة.
حتماً لم يكن الأمر سهلاً على الأهالي الذين كانوا هم الدليل الحي إلى عدم إنتهاء الحرب طالما لم يجر التعامل مع ذيولها بالطريقة الصحيحة من النواحي القانونية والإنسانية والإجتماعية والإقتصادية.
ليس سهلاً الخوض في أمور الحرب الأهلية والكل تواطأ بالخطف والقتل والكل يريد ان ينسى إلا الأهالي.
أنت لا تستطيع الفصل بين القضية ووداد. هي تسكن فيها كأنفاسها وتشكل تفاصيل يومياتها. تبقى مهجوسة بها وملتصقة بروحها.
هي التي قامت بمأسسة هذه اللجنة وقامت بتكوين فريق عمل داعم من الشباب، ووّسعت إطار الدعم من المجتمع المدني.
في ١٣ نيسان/ابريل من كل عام أتلقى دعوة من لجنة أهالي المفقودين في لبنان “لكي لا ننسى”، وكيف لنا أن ننسى؟
لم تنتهِ الحرب. بوسع طفل صغير ملاحظة ذلك. أيمكن أن يكون إختفاء سبعة عشر الف إنسان أمر يمكن طمسه كما كانوا يريدون بعد سكوت المدفع والرصاص؟
طوال سبعة وأربعين عاما من عمر حربنا الأهلية (المستمرة بأشكال جديدة)، كان لسان حال الأهالي “نريد قبراً حتى نزوره ونريد شاهداً حتى نبكي أحبتنا”
عدت من المناسبة المميزة في “بيت بيروت” ولمحت على بعد أمتار من المكان طوابير البشر امام الأفران. هناك من يموت كل يوم بسبب فقدان الدواء والعشرات ممن يخونهم قلبهم من هول الكارثة ولا يجدون سرير مستشفى يرقدون فيه.
***
في الثلاثين من كل آب/أغسطس، تستذكرعوائل المفقودين في كل انحاء العالم احبتهم..
في لبنان، ترتبط القضية بتاريخ إندلاع شرارة الحرب قبل 47 عاماُ (13 نيسان/أبريل). صحيح أن نضالات اهالي المفقودين والمخفيين قسرا تُوّجت بإقرار القانون ١٠٥/٢٠١٨ وتشكيل الهيئة الوطنية ولكن برغم ما شاب عملية التأليف وما تلاها تبقى الأمور تراوح امام معضلات تتلخص بالآتي:
أولاً؛ إن جزءاً لا يستهان به ممن قاموا بالخطف أثناء الحرب الأهلية صاروا في صلب السلطتين التنفيذية والتشريعية.
ثانياً؛ الجزء الأكبر من المجتمع الداعم للقضية لم يلعب دوره الضاغط كما يجب لا سيما بعد فشل إنتفاضة ١٧ تشرين في إحداث تغيير جذري على مستوى تطوير الوعي وتغيير الواقع.
ثالثاً؛ إن قانون العفو العام الذي تلا توقف الرصاص قبل ثلاثة عقود لم يهتم لأمر سبعة عشر الف إنسان من لحم ودم فقدوا في ظروف مأساوية وإستثنائية حتى لا نقول وحشية.
لم يعترف احد بالجريمة ولم يعتذر احد ولم يحاسب احد.
بعد معظم الحروب تنعقد تسويات ومصالحات لمعالجة ذيولها ويعلمنا التاريخ ان الحروب يمكن أن تتكرر إذا كان الثمن المدفوع رخيصاً. لذلك، يريدون لهذه القضية أن تنطوي وأن “لا تنذكر”، لكن وداد ورفيقاتها ورفاقها في لجنة الأهالي لن يسمحوا لأي كان بالإلتفاف على القضية وجعلها مجرد حبر على ورق القوانين المرمية في جوارير النسيان.