لكل أن يقارب إستقالة المدير العام آلان بيفاني من وزارة المال، على طريقته. يمكن مقاربتها من زاوية الأرقام المالية. أبعادها السياسية. الشخصية. التوقيت إلخ.. الأكيد أن الرجل لن يتراجع عنها هذه المرة.. وما كُتب قد كُتب.
في السيرة الشخصية، يمكن القول إن بيفاني ينتمي إلى جيل حالم. كان يعتقد أن الإدارة في لبنان ليست عبارة عن محفل ماسوني مغلق يقتصر الدخول إليه على بطانة أهل النظام وحاشيته. جاءته الفرصة في لحظة سياسية إستثنائية. أدرك أن الكفاءة وحدها لا تطعم خبزاً ولا تشكل وحدها شرطاً لدخول معترك الإدارة العامة. بهذا المعنى، يدين بيفاني لميشال المر (أبو إلياس). تبناه أولاً غازي حداد الأمين العام لمجلس الإنماء والإعمار. تواصل معه وعرّفه على ميشال المر، وقال له الأخير: أهلأ بك في “الإمارة”. إمارة الإدارة التي كان يزرعها “ابو الياس”، فكان نصيب بيفاني أن يكون مديراً عاماً إلى جانب جورج قرم وزير المال الأسبق، في عهد إميل لحود.
منذ تاريخ تعيينه في العام 2000 وعلى مدى عقد من الزمن، كان بيفاني حاضراً في الطبقة السادسة من مبنى وزارة المالية في وسط بيروت إلى جانب رئيسه وزير المال. مسافة أمتار قليلة، لكنها كانت أشبه بسور الصين وجبال الهملايا وجدران الفصل الإسرائيلية، خاصة في زمن الوزراء الحريريين. قبل عقد من الزمن، قرر المدير العام أن يقيم في جمهورية الطبقة الثالثة. صارت المسافة بينه وبين وزير المال تحتاج إلى حوالي الستين درجة (ثلاث طبقات) صعوداً، وإذا لزم الأمر، مجرد هنيهات قليلة بالمصعد. لكن واقع الأمر أن المسافة بينه وبين معظم وزراء المال (بإستثناء إلياس سابا وغازي وزني) كانت تحتاج إلى مسافات ضوئية. كل وزراء المال المنتمين إلى تيار المستقبل، تعاملوا معه بخصومة تصل إلى حد العدائية. أقفلوا عليه كل الأبواب، بما في ذلك المركز الإلكتروني في الوزارة. مركز يديره فريق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (undp) ولا يملك لا وزير المال ولا المدير العام أي إذن بالولوج إليه إلكترونياً. كان برنامج الأمم المتحدة دائماً عبارة عن “دولة ضمن الدولة”. موظفون يقبضون أجورهم من موازنة الدولة اللبنانية، عبر الأمم المتحدة. رواتبهم بالعملة الصعبة وهي تفوق بأضعاف رواتب كبار موظفي الإدارة في الدولة اللبنانية.. ولو دقّقنا لوجدنا في كل وزارة “دولة ضمن الدولة”، ولو بمسميات مختلفة.
كان يكفي قول إسم آلان بيفاني مرة واحدة في مقر الرئاسة الثانية، حتى لا يبقى للصلح مطرح
لو راجعنا كل وزراء المال المتعاقبين، من دون إستثناء، لن نجد أن آلان بيفاني قد تصادم مع أي منهم. حتى إعتراضه، كان دائماً أشبه ما يكون بتحفظات سلسة وهادئة. شخصيته غير الصدامية وذات القابلية لتدوير الزوايا، ورغبته بفتح صفحة جديدة مع كل آتٍ إلى الطبقة السادسة في الوزارة حتى لو كان محسوباً على أقصى اليمين الإقتصادي (نموذج دميانوس قطار)، جعلته في نظر كل من عُلّقت صورهم على الجدار الشهير في وزارة المال مجرد موظف عادي. ليس موظفاً عقائدياً ولا “سوبرمان”. موظف برتبة مدير عام، جُلّ همه أن يترقى إلى منصب أكبر، أكان حاكماً لمصرف لبنان المركزي أم وزيراً.. وإذا تعذر ذلك، فلتكن الأولوية لسيرة ذاتية تجعله مرشحاً لوظيفة ممتازة في مؤسسة دولية كصندوق النقد أو البنك الدولي أو ما يوازيهما… ثمة جنسية أجنبية ثانية وعائلة صغيرة وجميلة وسيرة لا تشوبها شائبة تلوث وفساد.
منذ حوالي الأربع سنوات، وتحديداً منذ وصول ميشال عون إلى القصر الجمهوري، بات آلان بيفاني مشدوداً إلى الحاكمية. غير أن جبران باسيل وكثرة من رفاق بيفاني “المحبين” في التيار الوطني الحر، كانوا له بالمرصاد. أقفلت الأبواب بوجهه، بعدما أبرم “الجنرال” تسوية مع الحاكم أو المتحكم بأمر اللبنانيين، كان من ضمنها تسوية التعويضات والأموال المحتجزة، لكن مع فوائدها ومن دون خسارة فلس واحد.
غداة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، تسارعت التطورات الداخلية وصولاً إلى إستقالة حكومة سعد الحريري ومجيء حكومة حسان دياب. لم يستفد بيفاني من فرصة علاقته المميزة مع غازي وزني. تدريجياً، قرر أن ينتفخ دوره وحضوره ولو على حساب الصداقة مع الوزير الآتي من عالم المال والإقتصاد والتكنوقراط. إنتفت المسافة نهائياً بين الطبقتين الثالثة والسادسة. كاد بيفاني يقول للبعض من أصدقائه المقربين “أنا الوزير الفعلي”. جرّب أن يصادر حتى البريد الرسمي وجدول أعمال مجلس الوزراء. لم يلتفت لتفاصيل صغيرة كان بإمكانه أن يتعامل معها بطريقة مختلفة. أراد الإنتقام من كل مرحلة وزير المال السابق علي حسن خليل بالمبالغة في تقديم الرأي والنصائح لخلفه، حتى جعل عيون عين التينة حمراء عليه أكثر من أي وقت مضى. كان يكفي قول إسم آلان بيفاني مرة واحدة في مقر الرئاسة الثانية، حتى لا يبقى للصلح مطرح.
وعندما وضعت حكومة حسان دياب ورقة الإجراءات المالية، قامت قيامة رئيس مجلس النواب لما تضمنته من صياغة في كل مندرجات القرارات الثمانية المقترحة، وكلها تؤدي عملياً إلى إلغاء صلاحية وزير المال وتحيله إلى موظف عند مدير عام وزارة المالية. تبرأ بيفاني من هذه الصيغة نهائياً وراجع رئاسة مجلس النواب عبر أحد المستشارين، متنصلاً ومحاولاً تبديد هواجس رئاسة مجلس النواب، ودائماً على طريقة عدم القطيعة مع أحد!
يمكن وضع كتاب عن علاقة بيفاني بالخطة المالية للحكومة و”إيمانه” بخيار صندوق النقد وثقته المفرطة بشركة “لازار”. فقد تباهى بالخطة في معرض “الإنجاز” عندما كان يجد من يتبناها ويشيد بها وسارع إلى التنصل منها عندما كان ينتقدها عدد من أصدقائه، وبينهم أهل خبرة في عوالم المال والنقد والإقتصاد. هذا هو آلان بيفاني. لا يريد أن يقطع مع أحد ولا يتصل إتصالاً وثيقاً بأحد. يصح القول إنه ينتمي إلى المدرسة الباطنية… أشهد أنني بلغت.. وأنني نجوت!
عند الساعة الرابعة من عصر اليوم، كان موعد بيفاني مع صندوق النقد الدولي. جلسة “اونلاينية” جديدة مقررة بين وزارة المال ومصرف لبنان من جهة ووفد صندوق النقد في واشنطن من جهة ثانية. جلسىة مخصصة للأرقام والحسابات، وكان مقرراً أن يكون بيفاني هو المتحدث شبه الوحيد فيها عن الجانب اللبناني. فجأة، ومن خارج جدول الأعمال، قرر الرجل أن يستقيل. بكّر كعادته بالوصول إلى الوزارة. طلب من سكرتيرته تجهيز النص. طبعه وحمله بمغلف وسلمه شخصياً إلى وزير المالية وأبلغه نيته بعقد مؤتمر صحافي عند الساعة الرابعة (موعد الجلسة التي تأجلت مع صندوق النقد). بدا غازي وزني مصدوماً بخطوة الرجل لأسباب عديدة بعضها معلن وبعضها الآخر كان يحتاج إلى ساعات قليلة من أجل بلورته، لا سيما وأن وزير المال خلص إلى قناعة مفادها أن الأفق التقني المالي بات مسدوداً. كل الدروب المؤدية إلى الإصلاحات والحد من آثار الأزمة باتت مقفلة. لا بد من صدمة سياسية ما، ولا يمكن أن تحدثها إلا إستقالة وزير أو أكثر..
هل بادر بيفاني ـ والسؤال ينطبق أكثر على رياض سلامة ـ إلى ضرب يده على الطاولة والقول للحكومة لن أضع توقيعي على هذا الكم من الإنفاق البلا قعر. لن أوافق على هذه الإصدارات ولن أقبل بتشريعها لأنها ستقود البلد حتماً إلى الهاوية
هل كان بيفاني محقا أم غير محق؟
يقول أحد العارفين إن آلان بيفاني قرر ترك المركب بعدما تيقن من حتمية الغرق. الرجل يبحث عن خلاصه الفردي. إحباطه ليس بجديد. عمره من عمر وظيفته. كان الأجدر به في هذه اللحظة أن يكون أكثر مسؤولية في التعامل مع الموقع الذي يحتله والمهام التي تنتظره لكنه قرر العكس. يُعطي العارفون مثلاً على ذلك. جرت العادة بأن تتخذ وزارة المال ممثلة بمديرها العام قرار إصدار سندات الخزينة (اليوروبوند) لتمويل عجز الخزينة ومعظمه يتصل بإنفاق الدولة. يذهب القرار من وزارة المال إلى المجلس المركزي في مصرف لبنان.. يرفع الرجل يده موافقاً على إصدار السندات. تبقى مهمة التشريع وهي توكل عادة إلى مدير عام المالية. تصبح السندات جزءا من خطة الحكومة سنوياً بتضمينها كل مشاريع قوانين الموازنات التي تضعها وزارة المال منذ سنوات طويلة وتحيلها للحكومة، قبل أن ترفعها إلى مجلس النواب، حتى يقرها ويضعها موضع التنفيذ.
في الحلقات الثلاث (القرار والإجازة والتشريع) لا أحد في كل هذه الجمهورية يكون موجوداً إلا آلان بيفاني. هل بادر بيفاني ـ والسؤال ينطبق أكثر على رياض سلامة ـ إلى ضرب يده على الطاولة والقول للحكومة لن أضع توقيعي على هذا الكم من الإنفاق البلا قعر. لن أوافق على هذه الإصدارات ولن أقبل بتشريعها لأنها ستقود البلد حتماً إلى الهاوية.
لا لم يفعل ذلك.
ينطبق ذلك على خطة الحكومة المالية البتراء التي طالما تنصل منها، قبل أن يعود ويتبناها بالمطلق اليوم.
آلان بيفاني، هو شخصية إشكالية، اليوم. بطل وشجاع وقبضاي عند فئة. خائن ومرتكب وجبان عند فئة أخرى. ثمة فئة من الناس مترددة في إصدار حكمها عليه..
الأكيد أن هذه الإستقالة ـ الخلاص الفردي تدق جرس الإنذار. لم يعد ممكناً السير بالأدوات والوسائل التقنية الحالية المتاحة. نعم، لا بد من صدمة سياسية للخروج من المأزق ولن يأتي المخرج إلا بإستقالة وزير أول وثان وثالث ورابع (بعضهم يقول إن إستقالته باتت جاهزة)… وليتحمل الجميع مسؤولياتهم تعديلاً وزارياً أو ولادة حكومة جديدة، علها تعوّض الإنسداد التقني المحكم الإقِفال والأقَفال بفرص سياسية تكبح الإنهيار.. طالما أنه صار واقعاً معيوشاً وحتمياً وطالما لا عودة إلى الوراء.. وللبحث صلة.