اليوم، حان الموعد الطبيعي. يقف اللبنانيون على عتبة 15 أيار/مايو 2022. يسمعون المعلقات والمحاضرات عن أهمية هذا الموعد: منهم من يراهن عليه فرصة للتغيير، ومنهم من يرتقبه محطة لتجديد الثقة، أو حتى نيل براءة ذمة.
ولكن، من دون أي انتقاص من مفهوم الديمقراطية، ومن دون أي إستخفاف بإرادة الشعوب (إذا أرادت يوماً الحياة)، ومن دون الحاجة إلى دراسات استطلاعية لآراء الناخبين وأرقام المقترعين وميول المصوتين، يمكن الركون الى خلاصة أكيدة: حتى لو تغيرت الوجوه، فلن تغيّر الإنتخابات في واقع حالنا اللبناني المقيم!
العلة الأساس التي تضرب مفهوم “التغيير” المنشود تكمن في بنية النظام السياسي، ومن خلاله في القانون الانتخابي في حد ذاته، ففي مراجعة لكيفية إقرار القانون، وتوقيت هذا الإقرار، والتقاطعات السياسية و”الميثاقية” والمنفعية التي رافقته، تصدّح حقيقة راسخة، الا وهي أن القانون النافذ فُصِّل لجعل كلّ طائفة منغلقة على نفسها، ولتكريس عرف أن الناس يصوتون لمرشحي طوائفهم تفضيلياً، وعليه يصبح إلزامياً على المرشح اعتماد خطاب طائفي ولو ضمناً.
يبقى 15 أيار/مايو مثله مثل تواريخ سابقة لمحطات انتخابية، تتجسد فيه مسرحية هزلية في محاولة لتجسيد الديمقراطية.. يسميه المنتفعون من الحصص على حساب الطوائف “عرساً إنتخابياً”، بينما الشعب يكتوي بناره!
لا حاجة لتقديم البراهين لتثبيت هذه القاعدة، فهي واضحة وجلية لمن راقب استحقاق 2018 ويتابع اليوم مجريات الاستحقاق العتيد: ففي كل دائرة ثمة سطوة لطائفة وثمة أقلية تتصرف كأقلية كاملة الأوصاف. وما مقاربة الأصوات التفضيلية في كل صندوق اقتراع الا تكريساً لهذه القاعدة، اذ تصب الغالبية الساحقة (كي لا نقول كل الأصوات) من أصوات المقترعين لمرشحين من طائفتهم، وهذا خير مؤشر لبقاء الوضع الطائفي على حاله!
الكل يعرف هذه الحقيقة، والمفارقة، أن الكل يعترف أن علة العلل في لبنان هي الطائفية، وأن اساس الفساد وغياب المحاسبة هو الطائفية والنظام السياسي الطائفي المسمى تجميلياً “الميثاقية”. ولكن ماذا فعلوا لمواجهتها؟ لا شيء الا الكلام، وهم كرّسوها في الأفعال وقوانين الانتخاب!
وعليه، لا بداية إلا بتغيير قانون الإنتخاب، فهو الحجر الأساس لتغيير نمط العمل السياسي، والانتقال من الانتخاب الطائفي المناطقي النفعي الى الانتخاب الوطني.
الحل هنا وحيد، ولا يحتمل الكثير من الاجتهادات والنظريات: جعل لبنان دائرة انتخابية واحدة، وفق النظام النسبي، على أن يكون الترشح والانتخاب خارج القيد الطائفي! بهذا يبدأ الخروج من الخطاب الطائفي الى الخطاب الوطني، وتنتفي سطوة المال، وتختفي الإعتبارات المناطقية والعائلية.
ثمة من سيسارع للتعليق على هذا الطرح بالقول: هذا الأمر مستحيل، إذ سيكون مرفوضاً من الفئات المسيحية كون المسلمين أكثرية عددية، وثمة خوف لدى المسيحيين بالا يكون تمثيلهم على قاعدة المناصفة. الحل لهذه المخاوف بخطوة يمكن إعتمادها في أول مرتين يطبق فيهما القانون: فمرحلياً، يمكن إعتماد نموذج نمطي يفرض خلال تشكيل اللوائح، على سبيل المثال، أن يكون المرشح الأول في كل لائحة مارونياً والثاني سنياً والثالث ارثوذكسياً والرابع شيعياً والخامس كاثوليكياً والسادس درزياً.. ويتكرر هذا التسلسل sequence لإكمال الـ128 مرشحاً في كل لائحة، ويُعدّل بشكل يضمن التوزيع الطائفي والمذهبي المعتمد حالياً، وبهذه الحال يكون الجواب شافياً في أول دورتين للخائفين على التمثيل المذهبي (اذ ان أي نسبة تفوز بها كل لائحة ستضمن حصص التمثيل المذهبي حتماً)، واعتباراً من الدورة الثالثة، يكون الخطاب السياسي قد تكرس وطنياً لسنوات وبات الخطاب أقل طائفية وتغيرت نظرة المجتمع للإنتخابات، فيمكن تحرير الإستحقاق من هذا القيد تدريجياً.
بات الجميع، اليوم، في موقع المُحْرَج، ضعيفاً كان أم قوياً في “شارعه”، ويبدو الجميع أمام خيارين: إما الإنتقال الى الخطاب الوطني، واما الاستمرار بعقلية الحفاظ على الحصص الطائفية، وعندها لن يبقى من شيء يتحاصصوه
ما تقدم، يقدم آلية في الشكل لحل خشية الخائفين من الأعداد، ولكن في المضمون، وهنا الأهم، يكون القانون قد حوّل الخطاب من طائفي (حقوق المسيحيين، إحباط السنة، استهداف الشيعة، محاصرة الدروز..) الى خطاب وطني؛ ومن خطاب مناطقي (المتن الحبيب، الكورة المظلومة، كسروان الأبية، عكار المحرومة، بعلبك الصامدة.. بما تختزن التعابير المناطقية من خلفيات مذهبية) الى خطاب وطني! فهنا الخطاب الطائفي والمناطقي لا يكسب المرشح بل يجعله خاسراً على مستوى الوطن، وكلما تحول خطابه وطنياً كلما زاد تقبله وارتفعت حظوظ لائحته!
في هذه الحال، يكون الخطاب قد تحول من وعود تزفيت مناطقية الى خطط انماء متوازن، ومن مساعدات واعاشات في هذا الحي أو ذاك الى خطط متكاملة للاقتصاد تشمل الزراعة والصناعة والسياحة ضمن رؤية كاملة للقطاعات، بدلاً من تناتش الحصص بين المناطق. وبذلك، يخرج البلد من شد الحبال الطائفي الى نقاش كيفية ادارة القطاعات وتفعيلها وادارة الدولة، ويبدأ البحث عن مرشحين من أصحاب الكفاءة والرؤية لا عن رؤوس أموال تدفع وتُمَوِّل لكسب حواصل اضافية للائحة!
بات الجميع، اليوم، في موقع المُحْرَج، ضعيفاً كان أم قوياً في “شارعه”، ويبدو الجميع أمام خيارين: إما الإنتقال الى التفكير بما تقدم، واما الاستمرار بعقلية الحفاظ على الحصص الطائفية، وعندها لن يبقى من شيء يتحاصصوه. هذا إن بقي شيء أصلاً!
والى أن تحين هذه الساعة، يبقى 15 أيار/مايو مثله مثل تواريخ سابقة لمحطات انتخابية، تتجسد فيه مسرحية هزلية في محاولة لتجسيد الديمقراطية.. يسميه المنتفعون من الحصص على حساب الطوائف “عرساً إنتخابياً”، بينما الشعب يكتوي بناره!