كان التحرير أشبه بالمعجزة التي شقّ بها موسى البحر، حين عبر قومه وأُغرق جيش فرعون، لكن ما يجب أن تعلمه الأجيال التي لم تعاصر مرارات المقاومة الأولى، وتضحيات المقاومين الأوائل، أنّ ما ميّز المقاومة الإسلاميّة تحديدًا (ونحن هنا لا نعقد على الإطلاق أيّ مفاضلة بين المقاومات جميعها) عن باقي المقاومات القومية واليسارية والوطنية، أنّها منذ الطّلقات الأولى رسمت سقفًا لا نهائيًا للآمال والأحلام، ورفعت مستوى التحدي مع قاعدة الإستعمار الغربي المتقدمة المسماة إسرائيل، ليس إلى هدف تحرير الجنوب حصرًا، بل إلى إزالة الكيان الغاصب من الوجود.
قد تبدو قضيّة نهاية إسرائيل اليوم مسألةً قابلةً للنقاش، وهي عند جمهور المقاومة مسألة وقت فقط، وقت لن يطول أبدًا، أمّا في بداية الثمانينات، ومع احتلال ثاني عواصم العرب، وإخراج منظمة التحرير الفلسطينيّة بتلك المشاهد المبكية والمذلة، كانت ضربًا من الجنون الحقيقي. لقد استشعرنا اننا خسرنا مدننا وقرانا ولن يصيبنا الا ما اصاب اهل فلسطين من قبلنا. غير أنّ قلوب الذين انطلقوا يومها، كانت تتوهج شوقًا لتغيير العالم، وليس لبنان أو جنوبه، لقد آمنوا بشدّة وبعمق، أن قتالهم وتضحياتهم ودماءهم الغزيرة تلك، إنّما تسيل وتجري من أجل مشروع دولة الحقّ والعدالة والإنسانية العالمية، بمصطلحهم مشروع الدولة المهدوية، ولولا هذا الإيمان والإعتقاد الراسخ، لما تمكنت هذه المقاومة تحديدًا، من تغيير وقَلْبِ الموازين والمعادلات، وهذه ميزتها الأولى.
طوق الأمان
الميزة الثانية لهذه المقاومة، أنّها نازلت عدوًا هو أقصى ما توصلت له البشرية في القدرة والعلم والتكنولوجيا والغنى والجبروت والقوة، فإسرائيل هي نخبة العقل الغربي المتفوّق والمتجبر، وكان لزامًا على من قَبِل هذا النّزال، بأن يرتقي بشكلٍ عاموديٍ وسريع في درجات الإبداع وكسر الخوف والتغلّب على المستحيل، وهذه صفات لا تحملها أيّة روح، إلّا أرواحٌ بمستوى عماد ومصطفى ومن شاكلهم وشابههم. لم تكن تلك الثلّة تؤمن بالمستحيل، ولا بحدود القدرة، ولا بمنطق الواقعيّة، ولذلك كان مستوى الإبداع والتمايز مغايرًا عن كلّ ما هو ممكنٌ ومألوف.
ما يُحسب لهذه المقاومة أيضًا، أنّها منذ الّلحظة الأولى لانطلاقتها، عملت على تشييد طوق أمانٍ حول أفرادها وعناصرها وعوائلهم، والدائرة الّلصيقة بهم. كانت تعي أن المقاوم الذي وضع دمه على كفّه، قد يظلّ قلقًا على ما سيؤول إليه حال عياله وأطفاله بعد رحيله، أو على مستقبله فيما لو أصيب إصابة أفقدته القدرة على العمل والكدّ. لذلك كان العمل على تحصين بيئة ومحيط أولئك المقاومين، جزءًا لا يتجزّأ من المقاومة ومشروعها، بل مسارًا يتقدّم بالتوازي مع مسار المقاومة.
أنت لا تستطيع أن تستمرّ وتُقاوم بثباتٍ وهدوء وطمأنينة، فيما مستقبل أفراد مقاوميك مهدّد أو قلق. هذا لا يعني أنّ الذي استرخص روحه وآمن بقضيّته كان يقف قبل الإنطلاق ليقايض دمه على مستقبل أولاده، إنّما كان عملًا ذكيًا وواعيًا لمن أراد للمقاومة ان تستمر وتتصاعد وتكبر، وأن لا تُصبح مثقلةً في أيّ لحظةٍ بالهموم الحياتية الواقعية لأفرادها، وأن لا تسمح بظهور خاصرة رخوةٍ لها، قد يلتف العدوّ من خلالها ليصيب مقتلًا لها.
غالبًا جدًا ما يُبرّر البعض أداء حزب الله السياسي باختصار القضية بأنْ “هذا هو لبنان”، وأنّ علينا القبول بالواقع الموجود والمتاح. قد يكون هذا التبرير مقبولًا من أناسٍ لا يتوقون إلى حلم تغيير الدنيا، وإقامة دولة العدل فيها، أما من يحمل هذه الشّعلة بين جنباته، فعليه أن يراجع أهدافه وإنجازاته على صعيد المقاومة، وإلّا ليس على العاجز عن تغيير أصغر بلدان العالم، إلا أن يتواضع
من أفرادٍ إلى وطن
كانت مرحلة ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005 نقطة التغيرات والتبدلات على صعيد موازين القوى الداخليّة. لكنّ اللحظة الأهم، كانت حين بدأت ما أسمته “إسرائيل”، حرب لبنان الثانية. أُريد من تلك الحرب، ليس اقتلاع المقاومة فقط، بل الأخطر، إقتلاع جمهور المقاومة ومجتمعها بالكامل، وتحويل الجنوب إلى أرض محروقةٍ خاليةٍ من الحياة. منذ تلك اللحظة، إستشعرت بيئة المقاومة الخطر الوجودي، وصارت الحصن الذي يجب على الأعداء هدمه للوصول إلى المقاومة.
ليس من الإنصاف عقد مقارنة بين إنجازات المقاومة العسكرية، وإنجازات المقاومة السياسية، لكن من حقّنا السؤال والتساؤل، عن الفارق الكبير الذي حكم الأداءين. غالبًا جدًا ما يُبرّر البعض أداء حزب الله السياسي باختصار القضية بأنْ “هذا هو لبنان”، وأنّ علينا القبول بالواقع الموجود والمتاح. قد يكون هذا القول والتبرير مقبولًا من أناسٍ لا يتوقون إلى حلم تغيير الدنيا، وإقامة دولة العدل فيها، أما من يحمل هذه الشّعلة بين جنباته، فعليه أن يراجع أهدافه وإنجازاته على صعيد المقاومة، وإلّا ليس على العاجز عن تغيير أصغر بلدان العالم، إلا أن يتواضع ويقول لست قادرا على تغيير أيّ شيء في بلدي!
هناك فارقٌ كبيرٌ بأن تعمل بواقعية (الكلمة التي تتردّد دائما) ضمن أدواتك وإمكاناتك المتاحة، لتصبح جزءًا من هذا الواقع، وأن تهبط بأحلامك وأهدافك إلى حدود الزواريب الضيقة والمذهبية التي تحكم هذا النظام والوطن، وبين أن تُسخّر كلّ امكانياتك المتواضعة والواقعية بأعلى درجات المهارة والإتقان، لتصنع من “رباط الخيل” ما تُرهب به عدوّ الله وعدوّك!
لماذا نطالب؟
في لقائه الأخير مع طلاب جامعيين، قدّم الإمام الخامنئي فكرتين جوهريتين ودعا الطّلاب للتمسك بهما: أولًا صناعة الخطاب، وثانيًا الإستمرار في المطالبة. يقول السيد الخامنئي عندما يصير موضوعٌ ما خطابًا ويصير متفاهمًا عليه وعُرفًا عامًا، يسري بصورة طبيعية، وبرأيه هذه هي صناعة الخطاب التي يجبُ العمل على إيجاد تيّارٍ له من الناحية الفكريّة. أمّا في موضوع المطالبة، فإنّه يحثّ الطلّاب الشباب على المطالبة ويِّشجعهم على حثّ المسؤولين أن يعملوا عملًا جادًا، وأن يُحذّروهم من الأعمال الإستعراضية.
ما يدعونا لصناعة خطابٍ المطالبة هو حبّنا وانتماؤنا للبنان ولهذه المسيرة، لكلّ المقاومات التي انتهى بها المطاف إلى هنا، وتحصينًا من استغلال العدوّ لأيّ خاصرةٍ رخوةٍ قد تنكشف لها، ولأننا نعتقد أنّ أصدق وأنبل من يُمكن أن نأتمنه على أوجاعنا ومستقبلنا، هم الذين بذلوا الدّم من دون حساب. وعليه، فإنّ حثّ القيّمين على تغيير آليات التفكير والعمل والإدراة والقيادة في أماكن ومواقع محددة بات ضرورة ملحة، كما أنّ استحضار فكر وأداء الإمام المغيّب والمظلوم السيد موسى الصدر، الذي سجناه في مهرجاناتنا وأشعارنا وعواطفنا وادعاء الإنتماء إلى نهجه، أصبح واجبًا. هل يعلم القيّمون أنّ الإمام الصدر، قبل أكثر من خمسين عامًا، حين كانت الإمكانات غير هذه الإمكانات، والنظام غير هذا النظام في لبنان وإيران، كان قد وقع اتفاقيةً مع فريق من الخبراء الإيرانيين في صناعة السجاد العجمي، وأنه كان يخطط لاستبدال زراعة التبغ ويعتبر أنّ تجميد المشاريع وحصر الزراعة بها مؤامرة لأنه أمرٌ يُفسد الأرض. لأبناء الإمام الصدر ومحبيه وتلامذته، ماذا لو عاد الإمام الصدر الذي قال يومًا أنّه سيظلّ ضمير هذا الشعب، يصرخ في وجه المسؤولين ويقض مضاجعهم ما دام هناك محروم، فوجد “المسؤولين ملتهين بمعالجة المشاكل عن طريق تأجيلها أو المساومة عليها، أو إرضاء بعضهم للبعض الآخر، دون الإنتباه إلى ما يجري في نفوس الأكثريّة السّاحقة أو المسحوقة من أبناء الوطن”؟