ما يُسمى أزمة المصارف هي من صنع أيديها أو تعليمات سادة النظام السياسي اللبناني أو أسياد سادة النظام اللبناني الذين لهم السيطرة عليه، سياسياً ومالياً؛ أما اقتصادياً فقد انهار، ولا ندري إذا كان ذلك يإيعاز خارجي أيضاً.
لم تخسر المصارف شيئاً. الحديث عن خسارات القطاع المصرفي هراء في هراء، أو ما هو على الوزن اللفظي. منذ بداية الأزمة، والأرجح قبلها، هرّب أصحاب المصارف والمساهمون والمودعون الكبار فيها أموالهم الى الخارج، وبقيت إيداعات متوسطي الحال وصغار المودعين. وهذه صادرتها المصارف الى غير رجعة، كما يقول الناس في شبه إجماع. تتظاهر بانها تحافظ على أموال المودعين بإعطائهم أسبوعياً أو شهرياً قطرات من مالهم المودع لديها. يُقال “من الجمل أذنه” كما هو المثل الدارج.
وقحون أصحاب المصارف، كما يقولون، وتقول إعلاناتهم الدعائية أن المصارف لا بدّ منها، ويجب أن تكون موجودة لأنها عصب الاقتصاد اللبناني. ولا ندري إذا بقي من الاقتصاد اللبناني شيء سوى ما “تبشرنا” به المحطات والوسائل الإعلامية عن صيف مزدهر بسبب كثرة المهاجرين، المهجرين، اللبنانيين العائدين لقضاء الصيف وإنفاق بعض الدولارات. فكأن حظنا هو التسوّل وتلقي الإحسان من حسنات المهاجرين المهجرين الذين هجّرتهم مأساة؛ هي في بعض نواحيها قد أفرغت قطاعات حساسة من أصحاب أدمغة لا بدّ من وجودهم من أجل بقاء المجتمع على حاله.
ما يجري في لبنان الآن هو تملّك بالتشليح. في قريتنا، الطريق الواصلة إليها من الساحل كثيرة الأكواع، وواحد منها يُسمى “كوع التشليحة” لأنه يفاجىء الواصلين إليه فلا يستطيعون رؤيته مسبقاً. لذلك، صار هو الأنسب لعصابات التشليح، أي السلب بالقوة. وهل ما يجري في لبنان إلا سلب بالقوة؟
إذا كان قد بقي من الاقتصاد اللبناني شيء فلا شأن للمصارف فيه، إذا صار يعتمد على التعامل نقداً. لم يعد يجرأ اللبنانيون على التعامل مصرفياً بسبب سوء أمانة المصارف وعدم الثقة بأي شيء تفعله أو تقوله. هي وضعت نفسها خارج الاقتصاد حين صادرت أموال الناس بما يخالف القانون والدستور، وهما مؤسسان على ما يُسمى “الاقتصاد الحر”. أخرجت المصارف نفسها من الاقتصاد الحر؛ هي تتعامل “باقتصاد الأمر” بينما المجتمع خارج المصارف يتعامل في ما يسمى الاقتصاد الحر؛ وهو تعبير ايديولوجي للرأسمالية التي لا تتعامل به إلا حين يكون الأمر لصالحها.
بوقاحة لا متناهية تصدر جميعة المصارف بيانات تطالب فيها الدولة بإنشاء صندوق “سيادي”، طبعاً يديره الفاهمون بأصول التعامل المالي، وهم من أصحاب المصارف أو العاملين لديهم، لإدارة أملاك الدولة، وربما المشاعات وحتى المكامن الغازية البحرية (إفتراضياً)، من أجل “الاستثمار” وصولاً الى حل ينهي الأزمة.
لا ندري إذا كانت المصارف لديها أزمة. الأرجح غير ذلك، مع شعوذة مصادرة إيداعات الناس، ثم الإفراج عن بعضها بما يساوي أقل من 15% من أصولها، وذلك بعد عمليات ضرب وقسمة: قسمة المال المفرج عنه على رقم كبير، وضرب الحاصل برقم صغير، ثم تسليم المودع شذراً قليلاً بعد أن تسجّل المصارف مبالغ أكبر بكثير مسحوبة من حسابات المودعين، مما أدى الى سد الثغرات في حساباتهم وتحقيق أرباح. تساعدهم في ذلك شعوذة المصرف المركزي الذي سمح بأن يكون للعملة اللبنانية عدة أسعار مقابل الدولار. ما تعطيه المصارف عندما تسحب شيئاً لشراء ما يبقيك على قيد الحياة من خبز وحبوب وخضار وفواكه من حقك المسلوب، يكفي لسد الجوع فقط.
السؤال الكبير هو لماذا لا يتشكّل الصندوق السيادي من أموال أصحاب المصارف، وهي في الأصل أصول منهوبة. ومن المعروف أنهم يكوّنون ثروات كبيرة من أموال الغير. ما دامت لديهم هذه الغيرة على الاقتصاد اللبناني، فلماذا لا تدفعهم وطنيتهم الى “استثمار” جزء من ثرواتهم في هذا الاقتصاد؟ أم أن الاقتصاد لا يتقدم إلا على أكتاف الفقراء ومتوسطي الحال، إن بقي من هؤلاء الأخيرين سوى بعض الأملاك العقارية التي سوف يتم السطو عليها بأسعار بخسة!
ما يجري في لبنان الآن هو تملّك بالتشليح. في قريتنا، الطريق الواصلة إليها من الساحل كثيرة الأكواع، وواحد منها يُسمى “كوع التشليحة” لأنه يفاجىء الواصلين إليه فلا يستطيعون رؤيته مسبقاً. لذلك، صار هو الأنسب لعصابات التشليح، أي السلب بالقوة. وهل ما يجري في لبنان إلا سلب بالقوة؟
السؤال الأكبر هو ما علاقة ذلك بالنظام السياسي الذي يسيطر عليه أكباش الطوائف؟ وهل أكباش الطوائف سوى سادة لوردات تتبعهم طوائفهم وكأنهم قطعان؟ الطوائف قطعان. لكل طائفة من يرعاها. ليس صدفة أن لتعابير الرعي والرعاية والرعايا جذر لغوي واحد، ربما لأن المعنى واحد. الطائفية نظام سياسي لتدجين الناس وجعلهم رعايا. ليس غير المدجنين يصيرون رعايا.
لا نستطيع أن نصدّق أن الطبقة السياسية لا علم لها بما يجري في المصارف. نعرف أنهم يعرفون عن منصة صيرفة وتعدد أسعار الليرة. المفروض أن يكون للعملة الوطنية استخدام واحد، وهو أن تسعّر به السلع. لا أن تصبح العملة سلعة أخرى يجري التعامل بها في سوق الصيرفة. يعبّر هبوط سعر الليرة اللبنانية، وهو ناتج عن سياسات المصارف والمصرف المركزي وما يسمى منصة صيرفة، عن تفكك أصاب المجتمع، وتفكك الليرة اللبنانية والتعمية حول ما يصيب المرء في ماله كي يزداد فقره، ويسقط الى هاوية الفقر المدقع. هي حالة إفقار تتولاها المصارف بمباركة وحماية الطبقة السياسية. إن انفصال الطبقة السياسية عن مواطنيها يجعلها لا ترى ما يصيبهم، أو هي مشاركة مع المصارف ومباركة لها في ما تفعله.
برهن أصحاب البنوك والمدراء على أنهم لا يستحقون وظائفهم، إضافة الى سوء الأمانة. لا يضر لو عزلوا من مواقعهم. كل من لا يبرهن على كفاءة في أي مجال من هذه المجالات يعزل ويحاكم. هم ليسوا مميزين بحكم مراكزهم. كذب أن حياتنا أو حياة الاقتصاد تعتمد عليهم. ليس عليهم إلا أن يعلنوا إفلاسهم
مهما كان الأمر، على المصارف التي لم تدفع الإيداعات (الديون التي عليها) أن تعلن إفلاسها بداعي عدم الكفاءة وعدم الأمانة. ما فعلوه هو عملية نصب ونهب لم يشهد التاريخ مثلهما. لا نفهم كيف يفلس الناس الذين لم يقترفوا أي ذنب، ولا يفلس أصحاب المصارف مع الذنوب التي اقترفوها. توفير الحماية لهم بالرغم من احتيالاتهم شأن على القضاء أن يتصدى له، وعلى رجال السياسة أن يخضعوا للمحاكمة لتبيان حقيقتهم وتدخّلهم في حماية من لا يستحق الحماية وإفلاس من يجب أن يكون محمياً.
برهن أصحاب البنوك والمدراء على أنهم لا يستحقون وظائفهم، إضافة الى سوء الأمانة. لا يضر لو عزلوا من مواقعهم. كل من لا يبرهن على كفاءة في أي مجال من هذه المجالات يعزل ويحاكم. هم ليسوا مميزين بحكم مراكزهم. كذب أن حياتنا أو حياة الاقتصاد تعتمد عليهم. ليس عليهم إلا أن يعلنوا إفلاسهم. برهن الشعب اللبناني أنه يستطيع العيش بدونهم. الاقتصاد اللبناني يعيش بدونهم، فليرحلوا بدل أن يطالبوا بأملاك الدولة كمكافأة على نجاحاتهم “الباهرة” في تدمير هيكل الدولة. لا يحق لهم وضع أنفسهم فوق القانون، كما فعل من إتهموا بإرتكاب جريمة تفجير المرفأ وبيروت. هؤلاء المتهمون حموا أنفسهم بحصانة كاذبة وأولئك حموا أنفسهم بضرورة الوجود. وبعد أن فشلوا يريدون مصادرة أملاك الدولة بغير مالهم، فيكون المودعون قد سُلخوا وصودروا مرتين.
لولا الطبقة السياسية لما استطاع أصحاب المصارف المضي في غيهم وارتكاب جرائمهم. يكثرون الحديث عن الفساد، نتمنى أن نرى واحداً في السجن.