حتى نفهم الكيفية التى انتهت بها الحرب الباردة فلا بد من التركيز على الشخصيتين الأهم فى العالم خلال تلك الفترة؛ لأن نهاية الحرب كانت على أيديهما، وهنا أعنى الرئيس الأمريكى رونالد ريجان الذى تولى رئاسة الولايات المتحدة عن الحزب الجمهورى فى الفترة بين ١٩٨١ و١٩٨٩ خلفًا لجيمى كارتر، والزعيم السوفيتى ميخائيل جورباتشوف الذى كان على رأس الحزب الشيوعى السوفيتى فى الفترة بين ١٩٨٥ و١٩٩١ خلفا لقسطنطين شيرنينكو!
جاء ريجان للبيت الأبيض بعد تاريخ فنى وسياسى حافل، حيث كان ممثلا فى هوليوود وناشطا سياسيا ديموقراطيا حتى بداية الستينيات، قبل أن يتحول إلى الحزب الجمهورى ويسطع نجمه السياسى مع توليه منصب حاكم ولاية كاليفورنيا فى الفترة من ١٩٦٧ وحتى ١٩٧٥!
فور وصوله إلى السلطة حاول ريجان طرح سياسات اقتصادية جديدة شديدة الليبرالية أو بعبارة أخرى شديدة المحافظة؛ حيث دعا إلى تقليل التدخل الحكومى فى عمل السوق الحرة، كما حرص على تقليل الضرائب وترشيد الإنفاق العام فى المجالات الاجتماعية والصحية، مع زيادة الإنفاق العسكرى بشكل كبير، واتخاذ إجراءات لحماية الصناعة الأمريكية بالوقوف ضد حرية التجارة إذا ما تعارضت مع مصالح الصناعة الأمريكية وخاصة صناعة السيارات والتى شهدت فى عهده إجراءات حمائية كبيرة!
على يد ريجان تحسنت مؤشرات الاقتصاد الأمريكى كثيرا مقارنة بعهد سابقه كارتر وخاصة مؤشرات الاستثمار ومعدل البطالة وزيادة الدخل وانخفاض نسب التضخم، وفى علم الاقتصاد أصبح يطلق على السياسات الاقتصادية التى اتبعها رونالد ريجان بالاقتصاد الريجانى، فى إشارة إلى إعادة ريجان نشر السياسات الاقتصادية الليبرالية الكلاسيكية وتوافقت فى ذلك الوقت مع سياسات رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر!
لكن سياسات ريجان الاقتصادية لم تكن الأهم فى هذا السياق، فحزمه على تصعيد الضغوط على الاتحاد السوفيتى من خلال الأدوات الإعلامية والعسكرية والديبلوماسية كان من أبرز نجاحات ريجان ويعزى إليه الفضل الكبير فى انهيار الاتحاد السوفيتي!
***
فى عهد ريجان انتهت أزمة الرهائن الأمريكان فى السفارة الأمريكية بطهران، ثم قام ريجان بتوجيه ضربة عسكرية إلى جزيرة جرينادا وذلك لإنهاء الحكم الشيوعى هناك، كما تورط كبار رجال ريجان فى صفقات أسلحة سرية إلى نظام الخمينى فى إيران وذلك من أجل استخدام العائدات فى دعم الحركات المتمردة على النظام الشيوعى فى نيكاراجوا!
طرح جورباتشوف فكرة الحوار مع الولايات المتحدة، إلى الدرجة التى دفعت ريجان للاعتقاد فى البداية بأن جورباتشوف يراوغ فى دعوته غير المشروطة للحوار لكن الأخير أثبت حسن نيته وصدق عزمه على إدارة حوار سياسى لإنهاء الصراع بين القوتين العظميين، وتوصل بسلاسة وتساهلات ملفتة للنظر
لكنه ومن ناحية أخرى فقد سحب التأييد الأمريكى والدعم السياسى والاقتصادى والعسكرى لبعض نظم الحكم العسكرية اليمينية فى أمريكا الجنوبية ولا سيما النظم العسكرية فى الأرجنتين والبرازيل ولاحقا تشيلى، وذلك على عكس السياسة الخارجية الأمريكية الداعمة لهذه النظم العسكرية طوال العقدين السابقين لتولى ريجان الحكم! كانت سياسة ريجان هذه على ما يبدو بعد إدراكه أن أهمية هذه النظم العسكرية فى احتواء المد السوفيتى لم تعد بذات الكفاءة كما كانت من قبل!
كما قام الرئيس الأمريكى أثناء فترة حكمه الأولى بزيادة الإنفاق العسكرى للضغط على الاتحاد السوفيتى، كما قام بصك مصطلح «إمبراطورية الشر» لوصف الاتحاد السوفيتى، وهو ما دفع جورباتشوف والذى أصبح زعيما للحزب الشيوعى السوفيتى مع الفترة الثانية لريجان إلى الدخول فى مفاوضات دبلوماسية وعسكرية مع الأخير انتهت بتوقيع اتفاقية الصواريخ النووية متوسطة المدى والتى قللت من امتلاك كلتا الدولتين للأسلحة النووية، وهى أول اتفاقية عسكرية ناجحة بين الطرفين منذ توقيع اتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية فى ١٩٧٢!
كما قام الرئيس الأمريكى مجددا بتوجيه ضربة عسكرية أمريكية، ولكن هذه المرة نحو ليبيا مما تسبب فى مقتل ٤٠ ليبيا وذلك ردا على تفجير أحد الملاهى الليلية التى كان يرتادها الجنود الأمريكان فى برلين الغربية حيث اتهم ريجان نظام القذافى بالوقوف خلف الحادث، كما قام بشن حملة قوية ضد مافيا المخدرات على الحدود مع المكسيك!
وهكذا تمتع ريجان بشعبية هائلة داخل وخارج الولايات المتحدة، ففى الانتخابات الأمريكية الرئاسية التى جرت فى ١٩٨٥ هزم منافسه الديموقراطى والتر مندال، النائب السابق للرئيس كارتر، بشكل ساحق وتاريخى بحيث حصل على نحو ٩٧٪ من أصوات المجمع الانتخابى ليكون الفوز الأبرز لأى رئيس أمريكى فى التاريخ! كما تمتع بقبول شعبى واسع بين المواطنين الأمريكيين حتى مع نهاية فترة حكمه فى ١٩٨٩! ولكن نجاح ريجان الداخلى والخارجى، لا يمكن فهمه بشكل كامل، إلا بالتعرف على سياسات الزعيم السوفيتى ميخائيل جورباتشوف سواء الداخلية أو تلك الخارجية!
***
كان جورباتشوف فى شبابه من القيادات الشابة فى الحزب الشيوعى السوفيتى، ورغم إخلاصه الذى لا يقبل الشك للأيديولوجية الماركسية ــ اللينينية إلا أنه عرف عنه دائما الإيمان بالأفكار الإصلاحية، وكان من كبار المؤيدين لسياسات خرشوف الداعمة لإصلاح السياسة الحديدية للزعيم الراحل ستالين!
كان جورباتشوف أصغر من ريجان بـ ٢٠ عاما وأقل خبرة منه فى إدارة الحرب الباردة مع الولايات المتحدة، وعلى العكس من الأخير، فقد كان جورباتشوف يتحاشى التدخلات العسكرية الخارجية، كما قام بإنهاء التدخل العسكرى السوفيتى بأفغانستان بعد تكبد الجيش السوفيتى هناك خسائر فادحة، وطرح فكرة الحوار مع الولايات المتحدة، إلى الدرجة التى دفعت ريجان للاعتقاد فى البداية بأن جورباتشوف يراوغ فى دعوته غير المشروطة للحوار لكن الأخير أثبت حسن نيته وصدق عزمه على إدارة حوار سياسى لإنهاء الصراع بين القوتين العظميين، وتوصل بسلاسة وتساهلات ملفتة للنظر للاتفاق النووى المشار إليه أعلاه مع الولايات المتحدة!
لكن تظل السياسة الداخلية لجورباتشوف هى الأكثر إثارة للجدل فى هذا الإطار! ففور توليه الحكم فى الحزب الشيوعى السوفيتى أعلن جورباتشوف عن سياستى «الجلاسنوست» و«البريسترويكا»، حيث كانت تشير السياسة الأولى إلى اتباع سلسلة من سياسات الانفتاح السياسى والتى دعمت التعددية السياسية المقيدة وساهمت فى انتخابات غير مسبوقة الشفافية مقارنة بما سبقها من انتخابات طوال التاريخ السوفيتى، أما السياسة الثانية فكانت تعنى إعادة الهيكلة الاقتصادية وفيها ذهب جورباتشوف بعيدا عن السياسات الاقتصادية الشيوعية وحاول تكرار تجربة الزعيم الصينى «دنج تشاو بنج» فى الانفتاح الاقتصادى والسماح بسياسات السوق المقيدة ودعم عملية اللامركزية فى اتخاذ القرارات الاقتصادية!
قطعا وكما كان متوقعا أدت سياسات جورباتشوف إلى الإنهاء العملى للحرب الباردة وهو ما سبب معارضة شديدة له داخل الحزب الشيوعى وتوجهت الاتهامات إليه صراحة بأنه عميل للولايات المتحدة! قبل أن يحاول بعض قادة الجيش السوفيتى القيام بانقلاب عسكرى ضده فى أغسطس/آب من عام ١٩٩١، ورغم نجاة جورباتشوف من محاولة الانقلاب الفاشلة، إلا أنه وبعد ذلك بقليل انهار الاتحاد السوفيتى رسميا مما اضطر جورباتشوف ــ والذى ظل يؤكد حتى لحظاته الأخيرة فى الحكم، بل وفى كل مداخلاته الإعلامية حتى اللحظة وقد تخطى التسعين عاما على أنه متمسك بتماسك الاتحاد السوفيتي ــ إلى الاستقالة!
فى هذه الأثناء كان ريجان قد ترك الحكم وتولى بدلا منه جورج بوش الأب، الذى لم يرد بدوره تفويت الفرصة بينما يرى الاتحاد السوفيتى يترنح، إلا وقام بقيادة القوات الدولية لتحرير الكويت من الاحتلال العراقى، ثم دفع باتجاه اتفاقية سلام شاملة فى الشرق الأوسط، ليكتب ذلك فضلا جديدا فى العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وهو ما أتناوله فى المقالات القادمة!
(*) بالتزامن مع “الشروق“