“الدرزية السياسية”.. طائفة العُصاة (3/1)

في حلقات سابقة، تمت مقاربة معظم المذاهب السياسية اللبنانية من زاوية تسليط الضوء على تراكم تاريخي مرّت به كل طائفة لبنانية، وصولاً إلى لحظة حضورها الراهن في الصيغة السياسية اللبنانية. في هذه الحلقات الثلاث الأخيرة، مقاربة سردية لما آلت إليه أحوال الزعامة الدرزية في لبنان بعنوان "الدرزية السياسية".

يحار المرء من أين وكيف يقارب “الدرزية السياسية” بوصفها واحدة من المذهبيات السياسية اللبنانية. الأمر لا علاقة له بـ”بني معروف” وما يتعلق بالمُستتر والمُعلن من إيمانهم، وهو محل إحترام. المسألة تتصل حصراً بتعبيراتهم السياسية في النظام السياسي اللبناني. تتعلق أيضاً بمدى اتصالها بالخارج وانفصالها عنه، من السويداء السورية إلى فلسطين المحتلة مروراً بالأزرق الأردني. من واشنطن إلى دمشق مروراً بموسكو والرياض. هذا “الخارج” سيكون بالغ الأثر على “دواخل” بني معروف وزعاماتهم وعلى علاقتهم بالمذهبيات السياسية الأخرى وخصوصاً “المارونية” منها. وسيكون على الدوام هناك خارجاً نصيراً لهم، بينما بعضه مُنغصاً عليهم. والأهم في التعبيرات السياسية لـ”بني معروف” اللبنانية المحضة ما كانته دوماً كمعيار يُنسب إليها ويقاس عليها مدى الإستقرار اللبناني العام.

“الدرزية السياسية” على مثل ومثال غيرها من المذهبيات السياسية اللبنانية تأثراً وتأثيراً. جميعها يتقلب وينتقل من موقع إلى آخر نقيض تماماً. لكن المذهبية السياسية لـ”بني معروف” شهدت تحولات هائلة وكبرى خلال العقود الخمسة الماضية وتحديداً مع الزعيمين كمال ووليد جنبلاط. وتكاد تتميز عن غيرها في أن تاريخها يحكم حاضرها، وبالضرورة مستقبلها. وحدها لم تقطع مع ماضيها، وخصوصاً مع بشيريها على تناقض الاثنين: بشير الشهابي وبشير جنبلاط. الأول انقلب إيماناً وسياسة. والثاني أُعدم. سيرة الرجلين ستكون فيصلاً في مقاربة وقائع سياسية. فما أسمي “انتصار حرب الجبل” (1983) ومن قبله مقتلة بشير الجميل عام 1982 سيُشعر وليد جنبلاط بـ”ارتياح” أسر به للصحافي اللبناني غسان شربل في مقابلة صحافية، على اعتبار أنه أخذ بثأر بشير جنبلاط من بشير الشهابي، معتبراً بشير الجميل امتداداً للأخير.

بعد الاستقلال او خروج لبنان من مظلة الانتداب الفرنسي في منتصف الأربعينيات الماضية، بدت الزعامة الدرزيّة موزّعة بين خطين تقليدين: كمال جنبلاط ابن “سيدة القصر” الذي باشر حياته السياسيّة حليفاً لـ”الكتلة الوطنيّة” المتّهمَة بمحاباة فرنسا؛ مجيد أرسلان، المنتسب إلى “الكتلة الدستوريّة” التي أسّسها بشارة الخوري وأُخذت عليها وعليه “إنكليزيّتهما”

الأصوب في مقاربة “الدرزية السياسية” راهناً، هو في قراءة تاريخها العميق الذي يحكم حاضرها والمرشح أن يكون مُستقبلها. فقد ساهم الأمير فخر الدين المعني الثاني، عن قصد أو عن عكسه، بأفول نجم “بني معروف” ودورهم الأساس والمحوري في جبل لبنان. كان ذلك بسبب الحملات العثمانية لتأديب تمردهم ورفضهم دفع الضرائب، فكانوا “طائفة العُصاة” على السلطة. وستؤدي تلك الحملات وما خلفته من خسائر إلى تضاءل عددهم، فاضطروا، بمباركة فخر الدين، إلى تشجيع هجرة المسيحيين، أو الموارنة تحديداً، من جبل لبنان الشمالي نحو جبل لبنان الجنوبي، أي الشوف ومحيطه.

مع مرور الزمن، أصبح الوافدون، وهم في غالبيتهم من الفلاحين، أكثر عدداً من أصحاب الأرض. وبسبب ظروف سياسية وتاريخية وولاءات خارجية وقناصل وتحولات ديموغرافية وحروب لا تنتهي، استطاع الموارنة الإمساك بمفاصل السلطة في مرحلة بشير الشهابي، الأمير الذي انتقل من إيمانه السني إلى الاعتقاد الماروني.. لأسباب سلطوية، على الأرجح.

تاريخياً، حافظ الدروز على وضعهم في بلاد الشام بعد سقوط الدولة الفاطمية، وتعاقُب المماليك وبعدهم السلطنة العثمانية على السلطة. ولطالما كانت العلاقات الدرزية ـ العثمانية منذ منتصف القرن الثامن عشر محكومة بما يُشبه “التمرد الدرزي الدائم”. لكن مع ازدياد الخطر الصفوي (الفارسي) الآتي من الشرق ولجوء حكام إيران إلى التحالف مع بعض العشائر (الشيعية) المقيمة في بلاد الشام، لا سيما في منطقتي بعلبك وجبل عامل، اكتسب الدروز دوراً أكثر أهمية. فقد استعان العثمانيون بهم لتشكيل حاجز في مواجهة التحدي الصفوي المتمثل بأمراء آل حرفوش في بعلبك. وقد تولى المهمة آل معن تحت قيادة أميرهم فخر الدين الذي دمّر بشكل منهجي خصومه “وجعل من الدروز أدوات أو حتى حلفاء استراتيجيين للسلطنة”، على ما كتب الأكاديمي مكرم رباح في مقالته “الدروز.. فرقة ناجية من المتغيّرات التي أفنت وقد تفني مجموعات كثيرة”.

هذا في التاريخ البعيد. أما في القريب منه، فقد عرفت أسرة الشهابيين السنية كيف تنتحل شخصية طائفية متمثلة بالصورة المعقدة لجبل لبنان إذ كانت من أصل مسلم سني، واحتلت موقعها على رأس حكم الدروز الذين اعتبروها من جماعتهم. ثم اعتنق بعض ابنائها الديانة المسيحية المارونية.

ويعلق المؤرخ الفرنسي دومينيك شوفالييه على تستر بشير الشهابي على اعتناقه الديانة المسيحية بعد لجوئه الى كسروان بالملاحظة التالية: “وقد تمسك بشير فيما بعد بكتمان متحفز تجاه ما يتعلق بهذه الديانات بما يتماشى مع التعددية الطائفية السائدة بين الجبلين (الشمالي والجنوبي) ويوافق فن التستر المشروع التقية الرائجة بين ملل الاسلام المنشقة لا سيما بين القادة الدروز”.

لقد نتج عن ذلك التغيّر السياسي البنيوي في جبل لبنان مشاكل حربية عديدة بين الدروز والموارنة توجت بمواجهات دامية سنتي 1842 و1860. واسفرت عن تبدلات ديموغرافية بارزة. فبعدما كان جبل الشوف درزياً في عهد فخر الدين أًصبح مارونياً في عهد بشير الشهابي. هذا التاريخ الدموي، سيبقى حاضراً في سياسة الدروز والموارنة خلال العقود الأخيرة.

إقرأ على موقع 180  لولاكِ بيروتْ.. لما خلَعْتُ الحجاب

في الخمسينيات الماضية، كان صراع الكميل (شمعون) والكمال (جنبلاط). وزادت وتيرة الصراع، خصوصاً خلال الحرب الأهلية (1975) مع تداخلاتها الاقليمية والدولية. فمن بين ثرثرات الكواليس التي باتت تقال على الملأ، ان كمال جنبلاط، الزعيم الدرزي الأشهر، حين زار الرئيس السوري حافظ الأسد ذات مرة، قال له “لنتخلص من حكم الموارنة الذي بدأ منذ 140 عاماً”. وما كان من الأسد إلا ان استعملها ضده في تبرير الدخول السوري إلى لبنان في العام 1976، قائلاً عن الحرب بين الحركة الوطنية والجبهة اللبنانية “انها ليست حرب يمين أو يسار، بل حرب ثأر عمرها 140 عاماً”.

بعد تقسيم المشرق عقب معاهدة سايكس بيكو، استمر الدروز مجموعات محلية مؤسسة في البلدان الجديدة: لبنان وسوريا وفلسطين. وبطبيعة الحال كانت حصة الدروز السياسية مقرونة بوزنهم الديموغرافي مقارنة بباقي الطوائف الإسلامية أو المسيحية.

تميّزت مواقف الدروز من مختلف القضايا والتحديات داخل بلدانهم الحالية بنوع من اللامركزية. والمثال على ذلك ثورة سلطان باشا الأطرش سنة 1925 بوجه الانتداب الفرنسي. فقد عمت تلك الثورة معظم أنحاء سوريا حتى امتدت إلى لبنان. ومع ذلك بقي دروز لبنان نسبياً على الحياد. وكذلك كان الأمر مع موقف الدروز من الصراع العربي الإسرائيلي. فقد احتفظوا، بحسب مواقعهم، بنوع من الخصوصية في اتخاذ القرار الملائم الذي يضمن بقاءهم وسيرورتهم. فقد قاد كمال جنبلاط الجبهة العربية المساندة للثورة الفلسطينية. واستطاع عبر تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي استقطاب مناصرين من مختلف الطوائف والمناطق ومنهم فريد جبران، ألبرت أديب (صاحب مجلة “الأديب”)، العلامة عبدالله العلايلي، فؤاد رزق وجورج حنا، قبل ان يعود كل قطب إلى دياره، بل قبل ان تتظهر الفكرة الجنبلاطية بأنها مثلها مثل غيرها من الطوائف، لكنها تجد في “العلمنة” والانفتاح طريقة لاستنباط يتخطى الحجم الحقيقي للطائفة، ويقفز فوق العقدة العددية التي افرزها النظام الطائفي اللبناني، وجعل طوائف تتصدر أو تتسيّد على حساب طوائف أخرى.

أما دروز فلسطين في ذاك الزمن (ضمن الدولة العبرية) فقد ساروا عكس التيار العروبي – الجنبلاطي سنة 1948. وتجنبوا الصدام مع اسرائيل التي منحتهم نوعاً من الاستقلال الذاتي، واعتبرتهم مواطنين يتمتعون بـ”الحقوق” نفسها التي يتمتع بها اليهود. وبرغم بروز تيارات عديدة ضمن دروز إسرائيل رافضة التجنيد الإجباري ودعم الدولة الصهيونية، تبقى تلك الأصوات تمثل أقلية مقارنة مع الضغط الإسرائيلي المتمادي. هكذا توزعت خصوصية الدروز، وكل مجموعة تكيفت مع محيطها، والمكان الذي تعيش فيه.

على الصعيد اللبناني، بعد الاستقلال او خروج لبنان من مظلة الانتداب الفرنسي في منتصف الأربعينيات الماضية، بدت الزعامة الدرزيّة موزّعة بين خطين تقليدين: كمال جنبلاط ابن “سيدة القصر” الذي باشر حياته السياسيّة حليفاً لـ”الكتلة الوطنيّة” المتّهمَة بمحاباة فرنسا؛ مجيد أرسلان، المنتسب إلى “الكتلة الدستوريّة” التي أسّسها بشارة الخوري وأُخذت عليها وعليه “إنكليزيّتهما”.

الفارق بين الزعيمين كمال جنبلاط ومجيد ارسلان لم يكن بسيطاً: فمسيرة الجنبلاطيين معمدةٌ بالدم والعمل الميداني، اذ يظهر اسم بشير جنبلاط، الذي قضى إعداماً على يد بشير الشهابي عام 1825، وكتب التاريخ نهايةً دموية لسعيد وفؤاد وكمال جنبلاط.

ما أسمي “انتصار حرب الجبل” (1983) ومن قبله مقتلة بشير الجميل عام 1982 سيُشعر وليد جنبلاط بـ”ارتياح” أسر به للصحافي اللبناني غسان شربل في مقابلة صحافية، على اعتبار أنه أخذ بثأر بشير جنبلاط من بشير الشهابي، معتبراً بشير الجميل امتداداً للأخير

في السياسة، بدأ كمال جنبلاط فرنسي الهوى. ثم صار متعدد الصولات والجولات، بين محاباة الناصرية والتقارب من الملكية السعودية. وتنقل بين تفهم الجغرافيا السياسية السورية وبين الأممية الشيوعية. فهو اللبناني الذي حاز “جائزة لينين” في زمن الإتحاد السوفياتي. ومنذ أواخر ستينيات القرن الماضي، إعتبر، كأقرانه من القوميين العرب، أن البوصلة هي قضية فلسطين. وفي الأثناء طالما هجا نظام لبنان الذي تتحكم به “المارونية السياسية”، واعتبره “دكاناً على بحر” وأن “الانسان العربي يعيش في السجن العربي الكبير”.

في المُقابل، كان مجيد أرسلان شيئاً من الفلكلور اللبناني. لقد بدا بطربوشه وزيه وشاربيه وبندقيته العتيقة وحصانه، كأنّه يمثّل التاريخ في الحاضر ويستحضره. يُضيّق الطائفة إلى حدود قصره في خلدة. لا ينفصل في الذاكرة عن صورته التي طالما كانت حاضرة في كتاب التاريخ كبطل من أبطال الاستقلال، والذي ساهم في طرد الانتداب الفرنسي.

هذه الثنائية الدرزية بأرجحيتها الجنبلاطية، وهي سابقة للثنائية الشيعية بأرجحيتها الحزب اللهية، لا تلغي حضور آخرين في البيئة نفسها، من بيوتات سياسية تقليدية أو من متمردين وأبرزهم في يومنا هذا وئام وهّاب.

(*) في الجزء الثاني؛ الدرزية السياسية وأطوارها الجنبلاطية

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  تفسير النص الدستوري بالمواءمة أم بالمعاني المتناقضة؟