يُشبّه عالم الاجتماع البولندي سيجمونت باومان، حياة المجتمعات الما بعد حداثية، في كتابه “الحياة السائلة” بالحياة في يوتوبيا. حياة تخيّلها الأديب الإيطالي (ايتالو كالفينو) في رواية “مدن لا مرئية”. تتسم تلك المدينة بطلاقة الحركة، فحين يستحوذ على سكانها الملل ولا يستطيع أحد تحمل عمله وأسرته وأهله ومنزله، يترك كل شيء وينتقل إلى مدينة أخرى مجاورة، ويبدأ من جديد ويحصل على عمل وزوجة ومنزل، ويبحث عن التجديد في كل شيء حوله، ويقضي الأوقات مع أصدقاء جدد، وحين ينال منه الملل يكرر هروبه.
يتألف نسيج المجتمع بأنساقه، حسب اميل دوركهايم، من نظم وقواعد اجتماعية، وظواهر اجتماعية والتزامات أخلاقية جمعية وبخاصة تلك الظواهر التي تُجبر الفرد على ان يسلك سلوكا معينا داخل المجموعة. يرى باومان ان السلوك تحدده ركائز المجتمع الاستهلاكي القائم على قيمة المستهلك في ذاته عبر التلاعب بفكره وجسده وعواطفه ومشاعره، وبالتالي علاقاته وروابطه من أجل تحقيق استمرارية الإنتاج وضمان الاستهلاك ومنها عبر “الترغيب في التحديث” الدائم. وبما أن الاستهلاك هو ركيزة المجتمع الما بعد حداثي “فان النفايات هي المنتج الرئيسي في المجتمع الاستهلاكي” كما يقول باومان.
عليك أن ترى بعيون الآخرين لا بل أن تفكر ضمن فضائهم الذي هو فضاؤك فالخصوصية بالية وقضي عليها. عليك ان ترى نفسك مادة أداتية قيمية قابلة للبيع والشراء بغير إرادتك. لا فضاء مجرد من العناصر المجتمعية المتسمة بمجتمعاتنا وحياتنا، حبنا، وخوفنا السائل، وهذا “السائل” هو سمة العصر الما بعد حداثي كما يسمّيه باومان. عليك ان ترتدي لباسا مختلفا ومميزا، فالتشابه من معايير القبح. عليك ان تختار شريكا متفردا وان تزكي العلاقة بآراء السائرين والعابرين وأن تكون العلاقة نفسها متفردة وحينها تصبح العلاقات جميعها متفردة!
يتم تنفيرنا من أجسادنا حتى ولو كنا راضين عنها. سريعا نرغب سريعا نأكل وسريعا يزداد وزننا. عليك ان تبحث عن علاج سريع للسُمنة، وعليك ان تلجأ لعلاج سريع آخر من أجل مضاعفات نقصان الوزن السريع بقوة سحر حبة التخسيس (وهي العلاج) من مرض مستحدث. ثم عليك ان تعالج دقات قلبك السريعة التي تسببها الحبة السحرية
عليك ان تأكل دون أن تشبع فالرغبة تجددها رغبة أخرى في طعام مكوناته حديثة حداثة الشركات العملاقة متعددة الجنسيات. تسيطر هذه الشركات على بطون الراكضين الجائعين الذين هم في عجلة للعودة الى عملهم. لقد استحدثت وجبات غذائهم بما يتناسب مع طبيعة العمل. الكل آلة، العاملون في المطاعم والمستهلكون. الكل ذو قيمة مادية كما وجبة الهمبرغر.
نُروّج لأجسادنا ونفوسنا كما روّجت لها السوق الحرة. يتم تنفيرنا من أجسادنا حتى ولو كنا راضين عنها. سريعا نرغب سريعا نأكل وسريعا يزداد وزننا. عليك ان تبحث عن علاج سريع للسُمنة، وعليك ان تلجأ لعلاج سريع آخر من أجل مضاعفات نقصان الوزن السريع بقوة سحر حبة التخسيس (وهي العلاج) من مرض مستحدث. ثم عليك ان تعالج دقات قلبك السريعة التي تسببها الحبة السحرية. ان تختار كما يختار الآخرون دون ان تشبههم او تشبه أحداً. الأفضل بالتفرد والأسرع هو من يفوز. يكتسح مفهوما الربح والخسارة الروابط الاجتماعية والأخلاقية والأسرية وحتى العلاقات العاطفية فعليك أن تتعود على تلك المصطلحات المنعكسة في سلوكنا كمستهلِكين وهذا يعني أنك في سباق لا نهائي وأنك من ذوي الخطى الصحيحة.
عليك أن تربح عبر اثبات تفردك في الدائرة الفردانية الجماعية. أما أن تخسر فيعني أنك فشلت في السير مسرعا ورُكنت إلى جانب المُبعدين. ان تعيش في مجتمع استهلاكي يعني ان تركض في رمال متحركة كما يقول باومان. الراكضون المسرعون المهرولون في سباق تنافسي تتم فيه المداورة مع الاستبعادات كما لعبة الكراسي (تشبيه باومان). ولكي تدخل على مجموعة عليك ان تتفرد بآرائك بل وتجددها على الدوام. لا تفتح الجماعات أبوابها للغرباء التقليديين، فقط للتائهين المتجددين. وعليك كي تستمر ان ترتجل على الدوام، ففي هذه المجتمعات التجديد ركيزة اساسية وبعدها فلتنتهي الصلاحيات ولتبدأ النفايات.
تخيل ان أحدهم يلحق بك، يراقبك، يشدك، يناديك، يوبخك، ينتقدك (مصطلحات باومان). يعني أنك خاضع لهم وليس لذاتك، هم يوبخونك عبر توبيخك لذاتك وليس انت! انه المجتمع وهو السوق والشارع والعمل والأصدقاء والأقرباء.. جميعهم يخضعون لمعايير العرض والطلب التي تستدعي جلد الذات للمواكبة والاستهلاك أكثر، يأتي ذلك عبر بث الخوف من النبذ في حال عدم البيع او الشراء. بيع الروابط او الأفكار الخاصة بأخرى استهلاكية. إذاً علينا ان نعيد تدوير أنفسنا، تجبرنا الأكثرية على ذلك ولو كنا رافضين. وبعد النفور من الذات المشوّهة لا بد من “البحث عن الذات الحقيقية من أجل التفرد”، وتلك مشكلة أخرى، كما يقول باومان.
في حياة المستهلكين، جميعنا مستهلَكون او مستهلِكون. الحقيقة لا تبقى نفسها فهي تتجدد، يمكن للصح أن ينقلب خطأ. يمكن أن نهوى أجسادنا أو أن نحقرّها. يمكن لوسائل الاعلام والاعلان ان تحقرها فهي لا ترى الأجساد الا سلعا مربحة وللسلعة مدة صلاحية محددة. فجأة تتغير الاحلام والمحادثات والرغبات وحتى الحاجات، تطرأ رغبات أخرى أسرع من الأولى. من يلبي هذه الرغبات يرتاح اليوم ويبدأ عذابه التالي غدا او حتى في نفس اليوم، فالرغبات منتهية الصلاحية وهي أصلا شبه مشبعة تخلق رغبات أخرى على الدوام. فجأة تنتهي العلاقة كما ننهي محادثة على تشات الواتس اب. من المعيب ان تطيل العلاقة، فالتجديد سمة المجتمع وانت تخضع لمعاييره وحواسه ان كنت تدري او لا تدري. قلبك يدق على دقاته فتبحث عن علاقة أخرى كي تخفف من ازمة العلاقة الأولى وتعود وتنتهي الأخرى وهكذا. إما المقاومة وإما يسيطر عليك الخوف من النبذ. تتآكل المشاعر عبر السرعة والتقلب الدائمين. يصبح أقدمها بشع وجديدها مخيف. يتلف الجسد بأسرع أكثر من طبيعته عبر الأدوية التجريبية او العلاجية لعوارض العلاجات ذاتها. او العلاجية من معالجة آثار الصدمات النفسية التي يسببها لنا المجتمع نفسه عبر محاولتنا مواكبة استهلاك منتجاته، واستيعاب نفاياته. لا نقبل أنفسنا الا اذا تم قبولنا من الآخر. واخيرا يلاحقنا الملل دائما.. اذا التفرد الجماعي يعيدنا الى التقيد بنسيج هذا المجتمع لكن بأضرار أكثر، لا يقدر المجتمع الاستهلاكي نفسه ان يسيطر عليها او على كمية نفاياته.